وضوء عبد الله بن عباس

السيد علي الشهرستاني

وضوء عبد الله بن عباس

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-7635-78-8
الصفحات: ١٥٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

كل هذه التساؤلات والملابسات تشكّكنا في صحّة نسبة النقل الحكومي عن علي و ابن عبّاس ومن شابههما ، و خصوصاً حينما عرفنا أنّ أئمّة نهج الاجتهاد و الرأي لا يستسيغون المرويّ بواسطة أصحاب التّعبد ـ و على رأسهما علي و ابن عبّاس ـ إلاّ ما يوافق رغباتهم.

فعلى هذا لا يمكن الركون إلى ما يروى عن علي و ابن عبّاس في الغسل في الوضوء ، لأنّه قد ثبت لدينا من جهة أخرى بأسانيد أصحّ أنّ مذهب أهل التعبد ـ هو روايتهم عن النبي في الوضوء ـ المسح لا الغسل.

فالعقل طبقاً لما تقدم لا يقبل أيَّ نسبة أو أيّ رواية مروية إلى علي و ابن عبّاس توافق نهج الخلفاء و خصوصاً إذا عارضها منقول آخر عنهما في الصحاح و المسانيد ، لأنّ الأرجح في النقلين هو ما يخالف نظرة الخليفة دائماً ، بل و حتى لو كان مرجوحاً سنداً فإنه يبقىٰ هو الأولى في مقام الأخذ ، و ذلك للأمور التالية ( التي هي خلاصة لما تقدم ) :

١ ـ استفادة النهج الحاكم من نقل ما يفيدهم.

٢ ـ تَخالُفُ المنقول في الموطأ و غيره مع روايات مدرسة أهل البيت و التي توارثوها كابراً عن كابر.

٣ ـ إصرار نهج الاجتهاد و الرأي على عدم الأخذ بفقه علي و ابن عبّاس ـ و من سار على منهاج علي ـ و فرض الحصار عليهم فقهياً و سياسياً ، و كلّ هذا يدعونا للقول بعدم صحة المنسوب الغسلي في الصحاح و المسانيد إلى هؤلاء ؛ لتخالفه مع الفقه الثابت عنهم.

و يؤيد ذلك أيضا أمورٌ :

١٠١

الأول : مخالفة الموجود مع الثابت عن أهل البيت عليهم‌السلام في مرويّاتهم.

الثاني : اتّحاد أحد النقلين ـ المُعَتّم عليه ـ عن علي بن أبي طالب و ابن عبّاس في صحاح و كتب العامة مع مرويات مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام.

الثالث : المحفوظ ـ فيما نحن فيه ـ عن علي بن أبي طالب و ابن عبّاس في كتب الفقه و التفسير و الحديث العاميّة هو المسح على الأقدام ، و هو يوافق الثابت عنهم في مرويات أهل البيت عليهم‌السلام.

و بذلك يتأكّد بأنّ مرويّات الغسل منسوبة إلى ابن عبّاس في مقامنا هذا ، بخلاف المسح الذي رواه الفريقان عنه.

و تلخص مما مرّ أنّ نهج الاجتهاد و الرأي كان يؤكّد على لزوم الأخذ بفقه أبي بكر و عمر و عثمان و معاوية و بقية « الخلفاء » « أولي الأمر » !! ، و المخالفة لفقه علي و ابن عبّاس و من نهج نهجهما ، و أن وجود مفردات تؤيّد ما يذهب إليه هؤلاء المجتهدون عن أعيان الصحابة المتعبّدين يدعونا للقول بأنّ الحكومتين الأموية و العباسية و من قبلهما الصحابة الحاكمون من نهج الاجتهاد كان لهم أكبر الأثر في ترسيخ ما ذهب إليه هؤلاء ، و خصوصا حينما لم نر ـ بشكل واضِحٍ مُلْتَزَمٍ به ـ ما يوضّح الوجه الآخر لفقه عليّ بن أبي طالب و ابن عبّاس في أصول القوم.

و عليه فنحن نرجّح أن تكون النسبة التي لا توافق الخلفاء في صحاح القوم هي الاقرب إلى فقه علي بن أبي طالب و ابن عبّاس ، للعوامل التي قلناها ، ولوجودها في مدوّنات أهل البيت التي توارثوها كابراً عن كابر ، و هذا الفهم و التحليل يوضح لنا مقصود الإمام عليه‌السلام في قوله « خذوا بما

١٠٢

خالف العامّة فإنّ الرشد في خلافهم » (١).

معالم الوحدة والتضاد في مرويات ابن عبّاس الوضوئية

تقدم عليك فيما مرّ من البحوث اختلاف النقل عن ابن عباس في الوضوء غسلاً و مسحاً ، و قلنا أنّ الطرق الغسليّة إليه تنتهي إلى تابعيين. الأول : عطاء بن يسار. الثاني : سعيد بن جبير.

و نحن قد أعللنا الطريق الأول منه بالانقطاع ، لكون زيد قد عنعن عن عطاء و هو ممن يدلّس ، و الثاني بعدم ثبوت الطريق إلى سعيد بن جبير و عدم اعتماد الأعلام على هذا الطريق.

و أما الطرق المسحيّة فهي الأكثر عنه.

١ ـ إذ جاء عن الربيع بنت المعوذ أنّ ابن عبّاس اعترض عليها لروايتها الغسل في الرجلين ، و تأكيده أنّه لا يجد في كتاب الله إلاّ المسح ، و أن حكاية الربيع ـ لمحمّد بن عبدالله بن عقيل ـ اعتراض ابن عبّاس عليها هو اعتراف منها بعدم قبول الطالبيين نقلها للغسل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٢ ـ ما رواه جابر بن زيد عنه.

٣ ـ ما رواه عكرمة عنه.

٤ ـ ما رواه يوسف بن مهران عنه (٢).

_______________________________

(١) انظر وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ ـ ١٢٤ الباب التاسع من ابواب صفات القاضي و خاتمه مستدرك الوسائل ١ : ٢٨٣.

(٢) و هي الّتي رواها ابن كثير في تفسيره ، و إنّما أخذنا بها و أعرضنا عن رواية الطحاوي ، لأنّ المسح هو الثابت المحفوظ عن ابن عبّاس.

١٠٣

و قد فرغنا في الصفحات السابقة من بيان النكات السندية و الدلالية و قلنا أنّ الأخبار الغسليّة عن ابن عبّاس لا يمكنها أن تعارض الأخبار المسحيّة ، بل هي مرجوحة بالنسبة إليها ، لعدة جهات :

الأولى : كثرة الرواة عن ابن عبّاس في المسح ، و كون أغلب هؤلاء من تلاميذ ابن عبّاس و المدوّنين لحديثه ، بخلاف رواة الغسل الذين هم الأقل عدداً و ممّن لم يختصّوا به كما اختصّ به رواة المسح عنه و لم يكونوا من المدوّنين ، و هذا ما سنوضحه بعد قليل إن شاء الله تعالى.

الثانية : وحدة النص المسحي عن ابن عبّاس و هو « الوضوء غسلتان و مسحتان » ، بخلاف النصوص الغسليّة فهي مختلفة النصّ و المعنى ، فإنّ اتحاد النصّ المنقول بطرق متعدّدة ـ كالمُشَاهد في الإسناد الأول المسحي عن ابن عبّاس ـ و رواية ثلاثة من أعلام التابعين عنه ـ كمعمر بن راشد في إسناد مصنف عبدالرزاق ، و روح بن القاسم في إسناد ابن ماجة و ابن أبي شيبة ، و سفيان بن عيينة في إسناد الحميدي و البيهقي ـ لَقَرينة على صدور المسح عن ابن عبّاس لا محالة.

الثالثة : وجود قرائن كثيرة دالة على كون الغسل قد شرّع لاحقاً ؛ لقول ابن عبّاس « أبى الناس إلاّ الغسل و لا أجد في كتاب الله إلاّ المسح » و اعتراضه على الربيع بنت المعوذ ...

الرابعة : إنّ في كلام ابن عبّاس إشارة إلى حقائق كثيرة ، منها دلالة القرآن على المسح لقوله : « لا أجد في كتاب الله إلاّ المسح » ، و ثانياً : دلالة

١٠٤

السنة عليه كذلك لاعتراضه على الربيع بنت المعوذ لما سمع حكايتها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الغسل ، و ثالثاً : استفادة ابن عبّاس من قاعدة الإلزام ـ « ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم » (١) ـ لإقناع من يعتقد بصحة القياس و الوجوه الاستحسانية في التشريع ؛ لقوله لهم في خبرٍ آخر « ألا ترى أنّه ذكر التيمم فجعل مكان الغسلتين مسحتين و ترك المسحتين ».

و ثبوت هذه النصوص عنه تشير إلى أنّ ابن عبّاس كان يرى الغسل ظاهرة حكومية عمل بها الناس لاحقاً و ليس في القرآن و السنة النبوية ما يدل عليه.

الخامسة : إنّ المحفوظ عن ابن عبّاس في كتب الحديث و التفسير و الفقه هو المسح ، و أمّا حكاية الغسل عنه فمختلف فيها ، و إن اعتبرنا صحّتها ـ تنزّلاً ـ فستكون شاذّة بالنسبة إلى المحفوظ عنه من ذهابه إلى المسح.

السادسة : إنّ النصوص التي جاءت عن ابن عبّاس و ابن عقيل و عليّ ابن أبي طالب و علي بن الحسين و محمّد بن علي الباقر و جعفر بن محمّد الصادق لتؤكّد على أنّ مذهب الطالبيين كان المسح ، و قد أكّدنا على أنّ علي بن الحسين لمّا أرسل عبدالله بن محمّد بن عقيل إلى الربيع كي يسألها عن وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعني بفعله الاستنكار لا الاستفهام.

فظاهرة الاستنكار على الوضوء الغسلي كانت بارزة شاخصة في

_______________________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٥٩٨.

١٠٥

العصر الإسلامي الأوّل ، و يرشدنا إلى ذلك ما فعله ابن عبّاس و ابن عقيل مع الربيع ، و قد فهمت الربيع من ابن عقيل أنّه جاءها مستنكراً لا مستفهماً إذ قالت له « و قد جاءني ابن عم لك » تريد بذلك ابن عبّاس.

و إنّ ابن عقيل بسؤاله إياها : « فبأيِّ شيء كان الإناء » ؟ أراد إرشادها إلى سقم حكايتها ؛ إذ أنّ ما تنقله لا يتّفق مع الثابت عن رسول الله ، و أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتوضّأ بالمد و يغتسل بالصاع ، و هو الآخر لا يتّفق مع غسل الأعضاء ثلاثاً ، لأنّ تثليث الأعضاء يحتاج إلى أضعاف مُدٍّ من ماء ، و أنّ المدّ هو الذي يتفق مع غسل الأعضاء مرة أو مرتين ، وبعد ذلك لا يبقى ماء كي تُغسل به الرجلان ، و يتعين بذلك المسح فيهما. و بعبارة أخرى : إنّ ابن عقيل أراد أن ينقد كلامها عملاً و يوضّح لها عدم تطابق ما تحكيه مع ما تفرضه في عدد الغسلات ، و غسل الممسوحات.

و يؤيّد هذا ما حكاه ابن جريج ، عن عبدالله بن أبي يزيد ، عن ابن عبّاس ، قال : قال رجل : كم يكفيني من الوضوء ؟

قال [ ابن عبّاس ] : مدٌّ.

قال : كم يكفيني للغسل ؟

قال [ ابن عبّاس ] : صاع.

قال : فقال الرجل : لا يكفيني ؟

قال : [ ابن عبّاس ] لا أُمَّ لك ! قد كفى مَن هو خير منك

١٠٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وفي آخر عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، قال : سأل رجل ابنَ عبّاس ما يكفي من الغسل ؟ قال : صاع ، ومدٌّ للوضوء ، فقال رجل : ما يكفيني !

قال : لا أمّ لك فيكفي من هو خير منك رسول الله (٢).

و نحن لو أردنا التأكد من صحّة ما توصلنا إليه فلابدّ لنا من الوقوف كذلك على مرويات ابن عبّاس الوضوئية الأخرى و مدى تطابق مروياته مع مرويات أهل بيت النبوة على نحو العموم و فقه علي بن أبي طالب على وجه الخصوص.

فمثلاً نرى علياً و ابن عبّاس و غيرهما من شخصيات أهل البيت يتّحدون في النقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله و أنّه توضّأ المرة والمرتين (٣) ، و أما الثلاث فلا يرتضونها و ما جاء عنهم بخلاف ذلك فهو المنسوب إليهم غير الثابت عنهم.

_______________________________

(١) تفرد بن الامام أحمد في مسنده (٢٦٢٨) ، و رواه الطبراني (١١٢٥٨) ، و إسناد صحيح ، كما في هامش جامع المسانيد و السنن ٣١ : ١٤١.

(٢) رواه الطبراني (١١٦٤٦). و إسناده صحيح ، كما في هامش جامع المسانيد و السنن ٣١ : ٥٤٥.

(٣) سنن النسائي ١ : ٦٢ ، سنن الترمذي ١ : ٣٠ ، ٣١ ، سنن الدارمي ١ : ١٧٧ ، سنن الدارقطني ١ : ٩٢ ، سنن أبي داود ١ : ٣٤ ، و في وسائل الشيعة ١ ٦ ٤٣٨ أبواب الوضوء ب ٣١ / ح ١٠ ، ١١ ، ٦ ، ٧ ، ٢١ ، ٢٦ ، و ١ : ٤٣٩ أبواب الوضوء ب ٣١ ح ١٥ ، ١٦ ، ١٩ ، ٢٣ ، ٢٨.

١٠٧

و كذلك كانوا يتّحدون في نقل المضمضة و الاستنشاق عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ، و قد صرّح ابن عبّاس بأنّ القُبْلَة غير ناقضة للوضوء (٢) مثل ما يذهب إليه أهل بيت النبوة (٣) ، خلافاً لعمر بن الخطاب الذي كان يرى الوضوء فيها (٤).

و قولُهُ بجواز الوضوء بماء البحر (٥) ، هو الموافق لما جاء عن أهل البيت عليهم‌السلام.

و روايته جواز المسح بالمنديل بعد الوضوء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٦) ، هو الآخر الموافق لما جاء عن أهل بيت النبوة (٧).

و في المقابل لم نره يقول بما قاله البعض من أنّ مسّ الذكر ينقض الوضوء (٨) ، كما ذهب إلى ذلك مروان بن الحكم (٩).

و لم يَرَ ابنُ عبّاس نتفَ الإبط ناقضاً للوضوء كما روي التزام ذلك عن

_______________________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٤٣٠ أبواب الوضوء ب ٢٩ / ح ١ ، ٢ ، ٤ ، سنن الدارقطني ١ : ٨٥ ، ١٠١ ، سنن الترمذي ١ : ٢٢.

(٢) سنن الدارقطني ١ : ١٤٣ ، سنن أبي داود ١ : ٤٥.

(٣) وسائل الشيعة ١ : ٢٧٠ أبواب نواقض الوضوء ب ٩ / ح ٢ ، ٣ ، ٦٢٥.

(٤) سنن الدارقطني ١ : ١٤٤.

(٥) سنن الدارقطني ١ : ١٤٤.

(٦) سنن الدارمي ١ : ١٨٠.

(٧) وسائل الشيعة ١ : ٤٧٣ أبواب الوضوء ب ٤٥ / ح ١ ، ٢ ، ٣ ، ٤ ، ٥ ، ٦ ، ٧ ، ٨ ، ٩.

(٨) انظر سنن النسائي ١ : ١٠٠ ، و سنن الدارمي ١ : ١٨٤ ، و سنن أبي داود ١ : ٤٦. و انظر وسائل الشيعة ١ : ٢٧١ أبواب نواقض الوضوء ب ٩ / ح ٧ ـ ٨.

(٩) سنن النسائي ١ ٦ ١٠٠ ، سنن الدارمي ١ : ١٨٤ ، سنن أبي داود ١ : ٤٦.

١٠٨

عمر بن الخطّاب و عبدالله‏ بن عمرو بن العاص (١).

كما أنّه لم يذهب إلى الوضوء مما مسته النار (٢) و من أكل لحوم الابل (٣) ، بل كان يرى الوضوء مما يخرج و ليس مما يدخل (٤) ؛ حيث روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه أكل كتف شاة ثمّ صلى و لم يتوضأ (٥) ، و في آخر : انتهش من كتف ثمّ صلّى و لم يتوضأ (٦).

و كان ابن عبّاس يرى جواز استعمال الرجل فضل وضوء المرأة (٧) ، و هو الموافق لمذهب أهل بيت الرسالة.

و كان لا يقول بأنّ النبيذ وَضُوءٌ لمن لم يجد الماء (٨).

و لم يرد عنه كراهة ردّ السلام لغير المتوضّي (٩) ، و كان لا يرى مسح الرأس مقبلاً و مدبراً (١٠) ، و لا الوضوء بالثلج (١١) و لا رواية « إنّه لا

_______________________________

(١) سنن النسائي ١ : ١٠٥ ، سنن الدارمي ١ : ١٨٥ ، سنن الترمذي ١ : ٥٢.

(٢) المصادر السابقه ، و انظر جامع المسانيد و السنن لابن كثير ٣١ : ٤٥١ ، ٤٩١ و ٣٢ : ١٢٨ ، ٤٣٧ ، ٣٤١ ، ٥٢٦.

(٣) انظر سنن أبي داود ١ : ٤٧.

(٤) سنن الدارقطني ١ : ١٥١.

(٥) سنن أبي داود ١ : ٤٨ / ح ١٨٧.

(٦) سنن أبي داود ١ ٦ ٤٩ / ح ١٩٠.

(٧) سنن الدارقطني ١ : ٥٢ ، سنن الدارمي ١ : ١٨٧ ، سنن الترمذي ١ : ٤٣.

(٨) انظر سنن الدارقطني ١ : ٧٠ ـ ٧٦ و سنن أبي داود ١ : ٢١.

(٩) انظر سنن الترمذي ١ : ٦١.

(١٠) انظر سنن الترمذي ١ : ٢٥.

(١١) انظر سنن النسائي ١ : ٥٠.

١٠٩

يدري أين باتت يده (١) » و لا الوضوء من الدم (٢) و لا غير ذلك من مفردات مدرسة الاجتهاد.

نعم جاءت عنه روايات في المسح على الخفين و التوقيت فيه و غسل الأرجل ، و مسح الأذنين ظاهرهما و باطنهما ، و قد وضّحنا حال الأولين منها ، و أما حديث مسح الأذنين (٣) فهو الآخر باطل النسبة إليه لوجوه.

أولها : إنّ مسح الأذنين يماثل وضوء الربيع بنت المعوذ ، الذي لم يفعله ابن عبّاس نفسه بل اعترض عليه.

ثانيها : عدم اشتهار هذا الأمر عنه.

ثالثها : الإسناد هو عبدالله بن إدريس ، عن محمّد بن عجلان ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء عن ابن عبّاس ، و قد تقدّم كلامنا عنه سابقاً.

و بهذا فقد اتّضح لنا أنّ عبدالله بن عبّاس يتّحد مع علي و أهل بيته في نهجه العام ، و يخالف النهج الفقهي و السياسي الحاكم في مساره العام.

_______________________________

(١) روى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإنّ أحدكم لا يدري أين باتت يده ». صحيح البخاري ١ : ٤٩ ، صحيح مسلم ١ : ١٦٠ ، قال النووي في المجموع ١ : ٣٤٨ ، و شرحه على صحيح مسلم ٣ : ١٧٩ : و قوله « فإنه لا يدري أين باتت يده » سببه ما قاله الشافعي و غيره : أنّ أهل الحجاز كانوا يقتصرون على الاستنجاء بالأحجار ، و بلادهم حارّة ، فإذا نام أحدهم عَرَق ، فلا يأمن النائم أن تطوف يده على المحل النجس ... ». و قال أنّ في هذا الحديث استحباب استعمال لفظ الكنايات فيما يُتحاشى من التصريح به ... فلم يقل : فلعلّ يده وقعت على دُبُره أو ذَكره !!!

(٢) انظر سنن أبي داود ١ : ٥٠.

(٣) سنن الترمذي ١ : ٢٧.

١١٠

التدوين بين المانعين و المجيزين :

لمّا كانت ملابسات أمر الوضوء ترتبط ارتباطاً أساسيّاً بمسألة جواز التحديث و الكتابة و التدوين و عدم جوازها ، و مسألة التعبد المحض و العمل بالرأي ، بحيث لا يمكن انفكاكهما ، كان لا بدّ لنا من إلقاء الضوء على حقيقة أنّ روّاد الوضوء الثنائي المسحي هم من المتعبدين و من المجيزين للتحديث و الكتابة و التدوين ، و أنّ المؤسسين و الداعين للوضوء الثلاثي الغسلي ـ في زمن عثمان و ما بعده ـ هم من العاملين بالرأي و من المانعين للتحديث و الكتابة و التدوين.

و قد أقرّ عثمان بن عفّان بأنّ المخالفين لوضوئه الثلاثي الغسلي هم من المحدّثين المتعبدين فقال بعد أن توضّأ وضوءً غسليّاً ثلاثيّاً : « إنّ أناساً يتحدثون عن رسول الله بأحاديث لا أدري ما هي !! إلاّ أني رأيت رسول الله توضّأ مثل وضوئي هذا » (١) ، تُرى ما هو سرّ معارضة المحدثين لعثمان ؟ و ما هو سبب منع الشيخين و أتباعهما للتحديث و الكتابة و التدوين ؟ و لماذا فتح باب التدوين بعد زمن طويل في زمان عمر بن عبدالعزيز ؟ و ما ارتباط كل ذلك بالوضوء ؟

نحن سنعرض عليك بنحو الاختصار منع الخلفاء أصحاب الرأي للتدوين ، و إصرار المتبعدين على جوازه ، و ستقف على تطبيق مفردات هذه الكلّية على مرويات عبدالله بن عباس الوضوئية ، و سترى أن غالب رواة المسح عنه هم من المدونين ، بعكس رواة الغسل عنه فإنّ غالبهم من

_______________________________

(١) صحيح مسلم ١ : ٢٠٧ / ٨ ، كنز العمال ٩ : ٤٢٣ / ٢٦٧٩٧.

١١١

أتباع منع التدوين ، و إليك الآن مجمل الكلام :

جاء عن الخليفة أبي بكر أنّه جمع الناس بعد وفاة نبيهم و نهاهم عن التحديث بقوله : « فلا تحدّثوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن سألكم فقولوا : بيننا و بينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله و حرّموا حرامه » (١) ، و قد أحرق بالفعل مدوّنته الحديثية التي كان فيها خمسمائة حديثاً (٢).

و مثله كان فعل الخليفة عمر بن الخطّاب ، فإنّه لمّا بلغه أنّه قد ظهرت في أيدي الناس كتب ، استنكرهها و كرهها و قال : أيّها الناس !! إنّه قد بلغني أنّه قد ظهرت في أيديكم كتب فأحبّها إلى الله أعدلها و أقومها ، فلا يبقين أحد عنده كتاباً إلاّ أتاني به ، فأرى فيه رأيي. فظنوا أنّه يريد أن ينظر فيها و يقوّمها على أمرٍ لا يكون فيه اختلاف ، فأتوه بكتبهم ، فأحرقها بالنار ، ثمّ قال : أمنية كأمنية أهل الكتاب (٣).

و روي عن يحيى بن جعدة : أنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السنة ، ثمّ بدا له أن لا يكتبها ، ثمّ كتب في الأمصار : من كان عنده منها شيء فليمحه (٤).

و كان عمر بن الخطاب قد استشار الصحابة في تدوين أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « فأشاروا عليه بأن يكتبها ، فطفق يستخير الله فيها شهراً ، ثمّ

_______________________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ : ٢ ـ ٣ ، حجية السنة : ٣٩٤.

(٢) تذكرة الحفاظ ١ : ٥ ، الاعتصام بحبل الله المتين ١ : ٣٠ ، حجية السنة : ٣٩٤.

(٣) حجية السنة : ٣٩٥ ، و في الطبقات الكبرى لابن سعد ٥ : ١٨٨ ( مثناة كمثناة أهل الكتاب ).

(٤) تقييد العلم : ٥٣ ، حجية السنة : ٣٩٥.

١١٢

أصبح يوماً و قد عزم الله له ، فقال : إنّي كنت أردت أن أكتب السنن ، و إنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها ، فتركوا كتاب الله تعالى ، و إنّي لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً » (١).

فهذه النصوص تؤكّد على أنّ مذهب الشيخين ـ و من بعدهما عثمان و معاوية كما سيأتي ـ كان هو النهي عن حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله و كتابته و تدوينه لأسباب ذكرناها في كتابنا « منع تدوين الحديث » (٢) ، و أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد أخبر بوقوع هذا الأمر من بعده بقوله ( يوشك ) الذي هو من أفعال المقاربة ، و قد تحقّق بالفعل من بعده ؛ حيث أخرج أحمد في مسنده و ابن ماجة و أبو داود و الدارمي و البيهقي في سننهم : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « يوشك الرجل متّكئ على أريكته يحدّث بحديثي فيقول : بيننا و بينكم كتاب الله ، فما وجدناه فيه من حلال أحللناه و من حرام حرّمناه » (٣) ، و هذا بعينه ما قاله الخليفة أبو بكر بعد وفاة رسول الله.

_______________________________

(١) تقييد العلم : ٤٩ ، حجية السنة : ٣٩٥ عن البيهقي في المدخل و ابن عبدالبر.

(٢) و كانت خلاصة الكلام أنّ منع الحكام من التحديث و الكتابة و التدوين كان لأسباب ثلاثة : أوّلها : طمس فضائل أهل البيت المفسّرة بإمامتهم و ولايتهم ، و ثانيها : عدم إحاطة الحكام بالأحكام بالأحكام و خوفهم من المدوّنات أن تكشف عن جهلهم ، و ثالثها : فتحهم لأنفسهم باب الرأي و الإفتاء طبق الضرورات و صياغتهم للأحكام من المواقف ، و المدوناتُ تحفظ الأحكام الصادرة عن رسول الله و ترفض فتح باب الرأي والإفتاء.

(٣) مسند أحمد ٤ : ١٣٣ ، سنن ابن ماجة ١ : ٦ / ١٢ ، سنن أبي داود ٤ : ٢٠٠ / ٤٦٠٤ ، السنن الكبرى للبيهقي ٩ : ٣٣١ ، دلائل النبوة ١ : ٢٥ ، ٦ : ٥٤٩ ، الإحكام لابن حزم ٢ : ١٦١ ، الكفاية في علم الدراية : ٩.

١١٣

نعم ، إنّ نهج الاجتهاد و الرأي ـ و تصحيحاً لما ذهب إليه الشيخان ـ نسب كراهة التدوين إلى بعض أعيان الصحابة كابن عبّاس (١) و ابن مسعود (٢) و غيرهما ، لكنّ المراجع لسيرتهم ومواقفهم يعرف سقم هذه النسبة إليهم ، و أن اختلاف النقل عنهم يشير إلى هذه الحقيقة المرّة.

فقد أخرج الخطيب بسنده إلى أبي رافع : كان ابن عبّاس يأتي أبا رافع فيقول : ما صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم كذا ؟ ما صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم كذا ؟ و مع ابن عبّاس ألواح يكتب فيها (٣).

و عن ابن عبّاس قوله : « قيدوا العلم ، و تقييده كتابته » (٤) ، و في آخر : « خير ما قُيّد به العلم الكتاب » (٥) ، و في ثالث : « قيّدوا العلم بالكتاب ، من يشتري منّي علماً بدرهم » (٦).

و عن معن ، قال : أخرج لي عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود كتاباً و حلف لي أنّه خطّ أبيه بيده (٧).

فالنصوص توضّح أنّ ابن عبّاس و ابن مسعود كانا من المدوّنين و المحدثين و أنّ الحقيقة هي أنّ النهي عن تدوين الحديث هو ممّا شرعه الشيخان ، و كان مما يؤرّق أنصارهم و يؤذيهم ، إذ كيف يمكن فرض الحصار على حديث رسول الله و هو صلى‌الله‌عليه‌وآله المبيّن لأحكام الله ‏؟

_______________________________

(١) تقييد العلم : ٤٣.

(٢) تقييد العلم : ٣٨ ، ٥٣.

(٣ ـ ٦) تقييد العلم : ٩٢.

(٧) جامع بيان العلم وفضله ١١ : ٧٢.

١١٤

فمن أجل رفع هذا التنافي وضعوا أوّلاً أحاديث دالّة على نهي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن كتابة حديثه ، ثمّ تشكيكهم بالنصوص الدالة على نهي الشيخين عن حديث رسول الله ، و أخيراً نقل أقوال عن الخليفة الثاني دالّة على لزوم الكتابة ، كقوله : « قيدوا العلم بالكتاب » (١) !!

فالحضر على حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله و منع الكتابة هو مما لا يقبله أحد ، فما جاء عن زيد بن ثابت من قوله : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمرنا أن لانكتب شيئاً من حديثه » ، يخالف ما نقل عنه من سماحه بالكتابة وكتابته للفرائض !!

قال جعفر بن برقان : سمعت الزهري يقول : لولا أنّ زيد بن ثابت كتب الفرائض لرأيتُ أنّها ستذهب من الناس (٢).

و قال ابن خير : كتاب الفرائض لزيد بن ثابت رحمه‌الله حدّثنى به أبوبكر ... عن خارجه بن زيد بن ثابت ، عن أبيه زيد بن ثابت (٣). و قال الدكتور الأعظمي : و لا تزال مقدّمة هذا الكتاب محفوظة في المعجم الكبير للطبراني (٤).

و عن كثير بن أفلح : « كنّا نكتب عن زيد بن ثابت ... » (٥) ، و روى

_______________________________

(١) تقييد العلم : ٨٨.

(٢) سير اعلام النبلاء ٢ : ٣١٢ ، تاريخ دمشق لابن عساكر ٥ : ٤٤٨ كما جاء في هامش تقييد العلم : ٩٩.

(٣) فهرست ابن خير الاشبيلي : ٢٦٣ كما في الدراسات ١ : ١٠٩.

(٤) دراسات في الحديث النبوي ١ : ١٠٩.

(٥) تقييد العلم : ١٠٢.

١١٥

قتادة عن كثير بن الصلت أنّهم كانوا يكتبون عن زيد (١).

و مثله الحال بالنسبة إلى أبي سعيد الخدري ، فلو صحّ أنّ الخُدري روى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : « لا تكتبوا عنّي إلاّ القرآن فمن كتب عنّي شيئاً غير القرآن فليمحه » (٢) ، فكيف نراه يقول : « ما كنا نكتب شيئاً غير التشهد و القرآن » ؟! و في آخر عن ابن مسعود : « و الاستخارة » (٣). و هما غير القرآن ؟!

و جاء عنه قوله لأبي نضرة بأنّه سيكتب إلى ابن عبّاس أن لا يفتيه في مسألة الصرف (٤) ، و هذان يشيران إلى كتابته غير القرآن.

و أمّا روايات أبي هريرة الناهية (٥) فيعارضها قوله للحسن بن عمرو بن أميّة الضمري : إن كنت سمعته منّي فهو مكتوب عندي ، فأخذ بيدي إلى بيته فأرانا كتبا كثيرة من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فوجد ذلك الحديث ، فقال : قد أخبرتُكَ إن كُنتُ حدّثتك به فهو مكتوب عندي (٦).

و قول بشير بن نهيك : كنت آتي أبا هريرة فآخذ منه الكتب ،

_______________________________

(١) تاريخ ابن أبي خيثمة ٣ : ٦ ب كما في دراسات الحديث النبوي ١ : ١٠٩.

(٢) صحيح مسلم : كتاب الزهد باب (١٦) التثبت في الحديث / ح ٧٢ ، مسند أحمد ٣ : ٢١ و ٣٩ ، سنن الدارمي ١ : ٩٨ رقم ٤٥٦ ، تقييد العلم : ٣٠ ـ ٣١.

(٣) تقييد العلم : ٩٣.

(٤) مسند أحمد ٣ : ٦٠ ، صحيح مسلم / المسافاة : ٩٩.

(٥) تقييد العلم : ٣٣ ـ ٣٥ ، مسند أحمد ٣ : ١٢.

(٦) جامع بيان العلم وفضله ١ : ٧٤ ، فتح الباري ١ : ٢١٥ ط السلفية ، المستدرك للحاكم ٣ : ٥١١ وعلق عليه الذهبي بقوله : هذا منكر لم يصح.

١١٦

فأنسخها ، ثمّ أقرأها عليه ، فأقول : هل سمعتها منك ؟ فيقول : نعم (١).

و قد كتب عن أبي هريرة مضافاً إلى بشير بن نهيك ، أبو صالح السمان (٢) و سعيد المقبري (٣) و عبدالعزيز بن مروان (٤) ، و همام بن منبه (٥) ، و عبدالله‏ بن هرمز (٦) و مروان بن الحكم (٧) و محمد بن سيرين (٨) و عبيدالله‏ بن وهب القرشي (٩) و عقبة بن أبي الحسناء (١٠).

كل هذه النصوص توضّح حقيقة أنّ أمر التدوين كان جائزاً على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، و لم يحظر من قِبَلِهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل كان النهي قراراً من الشيخين ، لقول الراوي ( بدا له ) و ( أراد ) و ( ثمّ كتب في الأمصار ) و غير ذلك من العبارات الدالّة على إرادته الخاصّة و رغبته الشخصيّة.

و إذا كان الأمر كذلك فلا بدّ من الوقوف عند أحاديث النهي المدّعى

_______________________________

(١) شرح العلل لابن رجب كما في دراسات في الحديث النبوي ١ : ٩٧.

(٢) الموضوعات لابن الجوزي ١ : ٣٤ ، هدي الساري ١ : ٢٣ ، مسند علي بن الجعد : ٨٠ كما في الدراسات.

(٣) تهذيب التهذيب ٩ : ٣٤٢.

(٤) الطبقات الكبرى لابن سعد ٧ / ٢ : ١٥٧.

(٥) طبعت هذه الصحيفة بتحقق الدكتور محمد حميد الله. و ترجمت إلى الانجليزية كما في هامش الدراسات للاعظيمي ١ : ٩٩.

(٦) مسند أحمد ٢ : ٥٣١.

(٧) سير اعلام النبلاء ٢ : ٤٣١ ـ ٤٣٢ ، البداية و النهاية ٨ : ١٠٦.

(٨) تاريخ الفسوي ٣ : ١٤ ب ، الاملاء ١٧٣ ، الجامع كما في الدراسات ١ : ٩٩.

(٩) المجروحين ٢٥٠ ب ، انظر ايضاً تهذيب التهذيب ١١ : ٢٥٣ كما في الدراسات ١ : ٩٨.

(١٠) الميزان ٣ : ٨٥.

١١٧

صدورها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ هي تخالف تماماً روح التشريع الإسلامي الدالّة على كسب العلم والحاضّة على الكتابة بقوله تعالى ( فاكتبوه ولا تسئموا أن تكتبوه ) و ( الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) و ...

و عليه ، فيمكن عدّ أحد أسباب اختلاف النقل عن الصحابي الواحد هو محاولة النهج الحاكم إرجاع أحد قولَي الصحابي إلى ما قاله الخلفاء و شرّعوه من أحكام ، و لا يختصّ مدّعانا هذا بما شرّعه الشيخان ، بل يمكن تعميمه إلى غيرهما من الخلفاء ، كعثمان و معاوية و ... و حتى لعائشة و لأبي هريرة و غيرهم من أئمّة الفقه الحاكم.

و نحن لو جمعنا هذه المفردات من كتب الفقه و الحديث و التفسير لصار مجلداً ضخماً ، يوضِّح مسار انحرافِ كمٍّ ضخم من الأحكام الشرعية التي يعمل عليها كثير من المسلمين اليوم ، و هو ما نحيله على أصحاب الفكر و القلم لدراسته و الكتابة فيه.

و بهذا ، فقد عرفنا وجود اتجاهين ، أحدهما يدافع عن قرارات الخليفة و يطلب لكلامه الأعذار ، و الآخر يصرّ على الأخذ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله و ما جاء به الوحي لا غير. و قد سمّينا الاتجاه الأوّل بأصحاب الرأي و الاجتهاد ، و الثاني بالتعبد المحض ، و قد كان هذان الاتجاهان على تخالف و تضادّ ، فما يذهب إليه الأوّل ينفيه الثاني لعدم تطابقه مع القرآن و السنة النبوية ، و ما كان يذهب إليه الثاني لا يعمل به الأوّل لمخالفته لاجتهاده و رأيه ، و قد مر عليك قبل قليل كلام الخليفة الأول « إنّكم تحدّثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحاديث تختلفون فيها ، و الناس بعدكم أشدّ اختلافاً ، فلا

١١٨

تحدّثوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئاً » و قول عمر بن الخطّاب « فلا يبقين أحدٌ عنده كتاب إلاّ أتاني به فأرى فيه رأيي ».

فهذه النصوص توضّح بأنّ الشيخين لم يرتضيا التدوين و التحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، و أن الناس قد كرهوا التدوين ؛ لكراهة الشيخين له ، ثمّ أحبّوه لحب عمر بن عبدالعزيز له ؛ قال الزهري : « كنا نكره التدوين حتّى أكرهنا السلطان ـ يعني به عمر بن عبدالعزيز ـ على ذلك و ... ».

فالنهي إذا لم يكن نهياً شرعياً عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل الاتجاه الفقهي للاجتهاد و الرأي بَذَرَ بذرته و راح في الأزمنة اللاحقة يسعى إلى تحديد الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله و تأطيره بخصوص ما عمل به في عهد أبي بكر و عمر لا غير.

فقد جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد و مسند أحمد : أنّ محمود بن لبيد قال : سمعت عثمان على المنبر يقول : لا يحلّ لأحد أن يروي حديثاً عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يسمع به في عهد أبي بكر و لا عهد عمر (١).

و عن معاوية قوله : أيّها الناس ! أقلّوا الرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إن كنتم تحدّثون فحدّثوا بما كان يُتَحَدَّثُ به في عهد عمر (٢).

و في رواية ابن عساكر : إيّاكم و الأحاديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ حديثاً ذكر على عهد عمر (٣).

_______________________________

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ٢ : ٣٣٦ ، و عنه في السنة قبل التدوين : ٩٧.

(٢) كنز العمال ١ : ٢٩١.

(٣) تاريخ دمشق ٣ : ١٦٠.

١١٩

و هذه النصوص ـ عن هؤلاء الخلفاء ـ تؤكّد مدّعانا ، حيث ترى عثمان و معاوية يؤكدان على عدم جواز نقل حديث لم يسمع به على عهد أبي بكر و عمر ، و هذا معناه إقرارهم لما شرّع و عمل به في عهدهما و النهي عما نَهَيَا عنه دون النظر إلى أصل الحديث صحّةً و سُقْماً ، و صدوره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو عدم صدوره.

و الباحث في الفقه الإسلامي يوافقنا فيما قلناه لأنّه غالباً ما يرى أنّ الفقه المطلوب و الحديث المسموح به هو ما يوافق الاتجاه الحاكم « نهج الاجتهاد و الرأي » لا غير ، فلو بحثت عمّا شرعه الخليفة عمر بن الخطّاب أو نهى عنه مثلاً لرأيته مدوّناً موجوداً في كتب الفقه و الحديث و يعمل به اليوم طائفة من المسلمين ، و أمّا الفقه الآخر فلا ترى له عيناً ولا أثراً على الصعيد العملي ، و قد مرّت عليك بعض المفردات الفقهية التي كان وراءها الخليفة عمر ، فترى ما شرّعه عمر و أئمّة الفقه الحاكم هو الشرعيّ ، و ما نهى عنه هو المنهيّ عنه اليوم ، كالنهي عن المتعة ، و مشروعية صلاة التراويح ، و النهي عن الصلاة بعد الصبح و العصر ، و القول بالمسح على الخفّين ، و تربيع التكبيرات على الميت ، و النهي عن تدوين حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتراها كما قالها عمر بن الخطّاب من ناحية ، و ملقاةً على عواتق آخرين من ناحية أخرى.

لكنّ نهج التعبّد المحض لم يستسلموا لقرارات الخليفة و ما شرّعه و طبّق الرأي فيه ، بل جدّوا لتطبيق ما سنّه الله و رسوله ، فترى علياً لايرتضي الشرط الإضافي الذي أُقْحِمَ متأخّراً في الشريعة ـ يوم الشورى ـ من قبل عبدالرحمن بن عوف.

١٢٠