عدّة الأصول

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]

عدّة الأصول

المؤلف:

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]


المحقق: محمد مهدي نجف
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٢

لكانت الدواعى تقوى الى نقله، وقد جرت العادة بتعذر كتمانه. فاذا لم ينقل ذلك ، نقل مثله علم كذبه وهو أن يخبر المخبر بحادثة عظيمة وقعت في الجامع، ورؤية الهلال والسماء مصحية (۱) في انه اذا لم يظهر النقل فيه علم انه كذب

ومنها : أن تكون الحاجة في باب الدين الى نقله ماسة ، فاذا لم ينقل نقل نظيره في هذا الباب ، علم انه كذب. نحو ما نقول: ان العرب لو عارضت القرآن لوجب نقله كنقل نظيره، لان الحاجة الى نقله كالحاجة الى نقل القرآن، وحالهما في قرب العهد سواء (۲) ولذلك نقول : انه لا يجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه و آله شرائع اخر لم تنقل الينا، لانها لو كانت لنقلت نقل نظيرها لمساواتها لها في الحاجة اليها وقرب العهدبها. هذا اذا فرضنا ان الموانع والصوارف عن نقله كلها مرتفعة يجب ذلك

فأما اذا جوزنا أن يمنع من نقل بعض الاخبار مانع من خوف و ما يجرى مجراه، فلم يجب القطع على كذب ذلك الخبر، لان هذا الذي ذكرناه حكم أكثر الفضائل المروية لامير المؤمنين عليه‌السلام والنص عليه. والعلة فيها ما قلناه من اعتراض موانع من خوف وتقية

____________________________________________

(۱) قوله (والسماء مصحية) أي لاغيم فيها . ويجب أن يقيد بنظر جمع كثير، بحيث تحكم العادة برؤيتهم معه لو رأى .

(۲) قوله (سواء) أو المعارض أقرب .

٢٨١

وغير ذلك .

فأما ما يعم البلوى به (۱) أو ما وقع في الاصل شائعاً ذائعاً (۲) فيجب نقله على وجه يوجب العلم ما لم يعرض فيه ما يمنع من نقله. فمتى لم يعرض هناك ما يمنع من نقله، وكان في الاصل شائعاً ذائعاً علم انه باطل .

والخبر اذا كان ظاهره يقتضى الجبر والتشبيه، أو أمراً علم بالدليل بطلانه ولا يمكن تأويله على وجه يطابق الحق غير متعسف ولا بعيد من الاستعمال، وجب القطع على كذبه . فان أمكن تأويله على وجه قريب، أو على ضرب من المجاز، جرت العادة باستعماله، لم يقطع على كذبه .

فأما ما تكلفه محمد بن شجاع البلخي (۳) من تأويل الاخبار

____________________________________________

(۱) قوله (فأما ما يعم البلوى به) كعدد الصلوات اليومية ، وانما غير الاسلوب لدخولهما في السابق عليهما .

(۲) قوله (أو ما وقع في الاصل شائعاً) اما باخبار المخبر عن وقوع المخبر شائعاً ، أو تكون الواقعة مما اذا وقعت وقعت شائعة ، كالنص على خلافة من تمكن من الخلافة بلامنازع غالب .

__________________

(۳) ويقال الثلجي ، وهو محمد بن شجاع بن الثلجي ، الفقيه البغدادي الحنفى أبو عبد الله . حكى الذهبي في الميزان عن ابن عدى : كان يضع الحديث في التشبيه . وعن الساجي قال : محمد بن شجاع كذاب احتال في ابطال الحديث . مات سنة ست وستين وماتين عن ست وثمانين سنة .

٢٨٢

الواردة من الجبر والتشبيه من التعسف والخروج عن حد الاستعمال فلا يحتاج اليه ، لانه لوساغ ذلك لم يكن لنا طريق نقطع على كذب أحد، وذلك باطل .

والفائدة في نقل ما علم كذبه ، هو أن ينحصر المنقول من الاحاديث ليعلم ان ما ادخل فيه معمول (۱) كما خص الخلاف في الفقه ليعلم به الخلاف الحادث، فيطرح ولا يلتفت اليه

وليس لاحد أن يقول ان في تجويز الكذب على هذه الاخبار أو فى بعضها طعناً على الصحابة، لان ذلك يوجب تعمدهم الكذب وذلك انه لا يمتنع أن يكون وقع الغلط (۲) من بعض الصحابة، لانه

____________________________________________

(۱) قوله (معمول) أي مخترع للمتأخرين .

(۲) قوله (وقع الغلط) أى تعمد الكذب ، بقرينة ذكر وجوه الخطأ بعد ذلك، ويؤيده ما في الكافي، في باب اختلاف الحديث (۳)، وما في نهج البلاغة في جواب السائل عن احاديث البدع ، وعما في أيدي الناس من اختلاف الخبر (۴) .

ويجوز أن يراد بالغلط، الخطأ. ويؤيده ما سيجيء من قوله (وهذه الوجوه التي ذكرناها أو أكثرها الخ ) فان الظاهر ان الأول مبني على جواز نقل الحديث بالمعنى ، والثاني على عدم الجواز . وأيضاً يؤيده قوله ( وأما من تأخر الخ) .

__________________

(۳) اصول الكافي ١ : ٦٢ .

(٤) نهج البلاغة (شرح بن أبي الحديد) ۱۱ : ۳۸ .

٢٨٣

ليس كل واحد منهم معصوماً لا يجوز عليه الغلط ، وانما يمنع من اجماعهم على الخطأ، دون أن يكون ذلك ممتنعاً من آحادهم .

وأيضاً فانهم كانوا يسمعون الحديث من النبي صلى الله عليه و آله ولا يكتبونه، ويسهون عنه أو عن بعضه فيقع الغلط في نقله .

وأيضاً انهم كانوا يحضرونه صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد ابتدأ الحديث، فيلحقه بعضهم فينقلونه با نفراده فيتغير معناه لذلك. ولذلك كان صلى‌الله‌عليه‌وآله اذا أحسن برجل داخل ابتداء الحديث ، ولهذا أنكرت عائشة على من روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : الشؤم في ثلاث : فى الفرس ، والمرأة، والدار (۱) وذكرت أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان حاكياً لذلك ، فلم يسمع الراوى أول كلامه.

وكذلك خطأت من روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن قال : «التاجر فاجر» (۲) وان «ولد الزنا شر الثلاثة» (۳) وذكرت ان كلامه خرج على تاجر قد دلس، وولد زنا قد سب لامه .

__________________

(١) سنن ابن ماجة ١ ٦٤٢ ، كتاب النكاح (٥٥) باب ما يكون فية اليمن والشؤم رواه سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و آله .

(۲) من لا يحضره الفقيه ۳ : ۱۲۱ ، الحديث ۱۳. وفيه : « التاجر فاجر والفاجر في النار ... »

( ۳ ) سنن أبي داود ٤ : ۲۹ ، كتاب العتق ، باب في عتق ولد الزنا . رواه ا بوهريرة .

٢٨٤

وعلى هذا الوجه أنكرت، وابن عباس جميعاً ما رواه ابن عمر ان الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ) (۱) وغير ذلك، فقالا : وهل ـ ابن عمرـ انما قال صلى الله عليه و آله : ان صاحب هذا ليعذب، وأهله يبكون عليه (۲) .

وقد كان منهم من ينقل الحديث بالمعنى دون اللفظ ، فيقع الغلط فيه من هذا الوجه وهذه الوجوه التي ذكرناها، أو أكثرها تنقى الطعن عن ناقل الخبر وان كان كذباً .

فأما من تأخر عن زمان الصحابة والتابعين ، فلا يمنع من أن يكون فيهم من يدخل في الاحاديث الكذب عمداً، ويكون غرضه الافساد في الدين كماروى عن عبد الكريم بن أبي العوجاء (۳) انه لما صلب (٤) وقتل قال: اما انكم ان قتلتموني ، لقد أدخلت في أحاديثكم أربعة آلاف حديث مكذوبة. وهذا واحد من الزنادقة والملحدين، فكيف الصورة في الباقين؟ .

____________________________________________

(٤) قوله (لما صلب الخ) أشرف عليهما .

__________________

(۱) سنن أبي داود ١٩٤:٣.

(۲) المصدر السابق .

(۳) قال ابن حجر في لسان الميزان ٥١٫٤ : عبد الكريم بن أبي العوجاء ، خال معن بن زائدة، زنديق مغتر، قال أبو أحمد ابن عدى لما اخذ ليضرب عنقه قال: لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث احرم فيه الحلال واحلل فيه الحرام قتله محمد بن سليمان العباسي الأمير بالبصرة (انتهى) .

٢٨٥

فأما الاخبار التى هى من باب العمل، كالاخبار الواردة في فروع الدين، فسنذكر القول فيها ان شاء الله تعالى في الفصل الذي يليه .

فصل

في ذكر الخبر الواحد، وجملة من القول في أحكامه

اختلف الناس في خبر الواحد (۱) ، فحكى عن النظام (۲) أنه كان يقول: انه يوجب العلم الضرورى اذا قارنه سبب. وكان يجوز في الطائفة الكثيرة ألا يحصل العلم بخبرها .

وحكى عن قوم من أهل الظاهر انه يوجب العلم مطلقاً، وربما سموا ذلك علما ظاهراً.

____________________________________________

( ۱ ) قوله ( اختلف الناس في خبر الواحد ) الذي يخرج من التقسيم السابق في تعريف خبر الواحد، هو انه خبر لا يعلم ان مخبره على ما تناوله ، ولا انه على خلافه، وهذا لا يصلح للنزاع في افادته العلم. نعم يظهر من حصر الخبر الذي يعلم صدقه في الاقسام المذكورة فيه ، وحصر الخبر الذي يعلم كذبه في الاقسام المذكورة فيه، ان خبر الواحد مالا يكون شيئاً من الاخبار المذكورة، فبهذا الاعتبار يصلح للنزاع .

__________________

(۲) النظام كشداد لقب أبو اسحاق ، ابراهيم بن سيار بن هاني البصري، ابن اخت أبي الهذيل العلاف شيخ المعتزلة، وكمان النظام صاحب المعرفة بالكلام، وأحد رؤساء المعتزلة واستاذ الجاحظ، كان في ايام هارون الرشيد .

٢٨٦

وذهب الباقون من العلماء، من المتكلمين والفقهاء، الى انه لا يوجب العلم، ثم اختلفوا .

فمنهم من قال: لا يجوز العمل به (۱) .

____________________________________________

(۱) قوله (فمنهم من قال: لا يجوز العمل )به ان أرادوا انه لا يجوز العمل به في نفس أحكام الله تعالى بالافتاء بمضمونه، أو القضاء به. فهذا المذهب قوي متين يدل عليه العقل والنقل من القرآن والاحاديث المتواترة معنى من أصحاب العصمة سلام الله عليهم ..

أما العقل فان جواز العمل بالظن فيها يفضي الى أن يتخذ الناس رؤساء جهالا ضالين مضلين، يدعو كل رئيس تبعه وعوامه الى مخالفة الآخر ، ويتقرب في دعاويه الى حكام الجور، ويتسلط به حكام الجور على المتسمين بالعلماء، ويهين العلم في نظر الخلائق، وربما وقع بينهم فتن وحروب، كما وقع بين الصحابة والتابعين من المخالفات والحروب .

وكل عاقل يعرف ان الشرع الالهي لم يبين على امثال هذه الظنون المنقولة المتسمين بالمجتهدين، وهذا دليل قاطع على الاحتياج في كل زمان الى وجود من لا يخطىء في نفس أحكام الله تعالى، سواء كانت علمية أو عملية خذل الله من حرمنا عن الاستفاضة منهم صلى‌الله‌عليه‌وآله مشافهة .

ولا ينتقض هذا بالتعبد بالشهادات، وبالظن الحاصل بجهة القبلة ، وبقيم المتلقات ومقادير الجراحات الموجبة للديات، فانها ليست ظنوناً في نفس أحكامه تعالى ، فلا يستتبع هذه المفاسد المذكورة من الحروب ، من طالبي الرئاسة وغيرها، وما يترتب عليها من المناقشات يندفع بوجود الحاكم بالحق واليقين في جميع احكام الله تعالى على انه سيجيء قبيل (فصل في ذكر ألفاظ

٢٨٧

الجمع والجنس) ما يدل على كون الظن مطلقاً قبيحاً عقلا، وانه لا يجوز على الحكيم اباحته.

وأما القرآن، فالايات المانعة عن اتباع الظن وتخصيصها باصول الدين ظاهر البطلان، لان التخصيص ان كان بقاطع، فاما اجماع أوسنة متواترة أو كتاب، فلم يثبت. واما دليل العقل فكذلك. نعم العقل يخرج ما لا يمكن للمكلف العلم به كما سيجيء. لكن لا يحكم بوقوع هذا الفرد في الشرعيات على فرضنا وهو ما اذا لم يعترض من جهة المكلفين ما يمنع العلم به، وظاهر الآيات يمنع وقوعه، وهو يفيد القطع عند المصنف كمامر وسيجيء .

والادلة التي ذكروها على جواز العمل به مدخولة في فرضنا كما سيجيء وان كان بطني فلا يجوز عند المصنف كما سيجيء في مسألة تخصيص الكتاب بخبر الواحد .

والحق انا لو جوزنا تخصيص الكتاب بالظني أيضاً لا يجوز تخصيص هذه الآيات به ، لان المنع من اتباع الظن مع تجويز تخصیصه به بدلیل مثلا كالمتناقض، ويصير الكلام به خارجاً عن طور كلام الحكيم .

نعم يجوز العقل تخصيصه بقاطع صار بعد تمادي الزمان، وانقطاع العلم عن الرعية ظنياً عند الرعية ، وهذا انما يقدح في افادة ظاهر القرآن القطع عند الرعية في كل زمان ولا يدل على جواز تخصیصه به فيما نحن فيه، لانه مع انه خارج عن فرضنا لا يدل على جواز العمل بهذا التخصيص، كما اذا جوز العقل تخصيصه بأمر موهوم كان قطعياً .

وأما الاحاديث فظاهر تواترها مضى على من تتبع كتب الاصحاب في الحديث كالكافي ، ونهج البلاغة ، والفقيه وغيرها ، على انها لو لم يكن متواترة أيضاً، أمكن الاستدلال بها بأن يقال: لو كان الظن متبعاً لوجب اتباع

٢٨٨

ومنهم من قال: يجب العمل به .

واختلف من قال لا يجوز العمل به فقال قوم: لا يجوز العمل به عقلا .

وقال آخرون انه لا يجوز العمل به، لان العبادة لم تردبه ، وان كان جائزاً في العقل ورودها به وربما قالوا: وقد ورد السمع بالمنع من العمل به .

واختلف من قال يجب العمل به، فمنهم من قال: يجب العمل به عقلا وحكى هذا المذهب عن ابن سريج (۱) وغيره .

وقال آخرون: انما يجب العمل به شرعاً والعقل لا يدل عليه ، وهو مذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين ممن خالفنا

ثم اختلفوا، فمنهم من قال: يجب العمل به ، ولم يراع في ذلك عدداً

____________________________________________

الظن الحاصل منها، لانها من أقوى الظنون . والمنع بالفرق في اتباع الظن بين المسائل الاصولية والفروعية، سيجيء تحقيقه وبيان الحق فيه. وان أرادوا أنه لا يجوز العمل به مطلقاً، فالادلة الدالة على جواز العمل به في الجملة حجة عليهم كما سيجيء .

__________________

(١) القاضي أبو العباس ، احمد بن عمر بن سريج . الفقيه الفارسي الشيرازي الشافعي . أحد المجتهدين على مذهب الشافعي يقال له : الباز الاشهب مات ، ببغداد سنة (٣٠٦ هــ . ) .

٢٨٩

ومنهم من راعى فى ذلك العدد وهو أن يكون رواته أكثر من واحد. وهذا المذهب هو المحكى عن أبي على (۱)

والذي أذهب اليه ان خبر الواحد لا يوجب العلم (۲)، وان كان يجوز أن ترد العبادة بالعمل به عقلا (۳). وقد ورد جواز العمل به في الشرع (٤) ، الا أن ذلك موقوف على طريق مخصوص، وهو

____________________________________________

(۲) قوله (ان) خبر الواحد لا يوجب العلم أي وان قارنه سبب، والمراد انه لا يجوز أن يكون للخبر دخل في افادة العلم ، بحيث لولم ينضم الى السبب لم يفد ذلك السبب العلم ، لا انه لا يجوز أن يفيد بعض الاسباب العلم، لما سيجيء من بيان القرائن المفيدة للمعلم .

(۳) قوله : وان كان يجوز ان ترد العبادة بالعمل به عقلا ذهب اليه السيد المرتضى أيضاً ، (٥) والظاهر ان مراده ان العقل لا يجد مستقلا عن الشرع مفسدة في العمل به، لا أنه ليس في نفس الامر مفسدة في العمل به ، لان الدليل الذي سيذكره ظاهر انه لا يدل عليه ، وأيضاً ينافي القول بعدم جواز العمل به شرعاً على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين كما ذهب اليه سيدنا المرتضى .

(٤) قوله (وقد ورد جواز العمل به في الشرع) المراد العمل بدون فتوى بمضمونه ، والقضاء به ، والقرينة عليه اكتفاؤه فيما سيجيء من جواب من استدل على العمل بقياسه على الاستفتاء بما سيجيء من الجوابين بقوله (لان لاصحابنا في هذه المسألة مذهبين : أحدهما الخ) وأيضاً اشترط في المفتي

__________________

(۱) هو محمد بن عبد الوهاب الجبائي ، المتقدمة ترجمته في هامش الصفحة ٠٢٤.

(٥) ذهب الیه فی الذریعة : ٥١٩ .

٢٩٠

ما يرويه من كان من الطائفة المحقة (۱) ، ويختص بروايته (۲)، ويكون على صفة (۳) يجوز معها قبول خبره من العدالة وغيرها .

وأنا أبتدىء أولا ، فادل على فساد هذه المذاهب التي حكيتها ثم ادل على صحة ما ذهبت اليه .

أما الذي يدل على ان خبر الواحد لا يوجب العلم (٤)، فهوانه

____________________________________________

العلم كما سيجيء في (فصل في صفات المفتي والمستفتي) .

(۱) قوله يرويه من كان من الطائفة المحقة أي كل من كان من الطائفة المحقة ، لكن اما تحقيقاً أو تقديراً ، بأن لا يرويه لكن قرر الرواية أو عمل بها أو صححها لما سيجيء من تجويز العمل بأخبار الواقفة ونحوها تمسكاً بالاجماع .

(۲) قوله (ويختص بروايته) الضمير المرفوع راجع الى من كان ، أي لا يروي ما يضاد تلك الرواية .

(۳) قوله (ويكون على صفة) المناسب لما سيجيء من جعل العدالة مرجحة لاحد الخبرين على الاخر لا شرطاً في أصل القبول بناءاً على تجويز العمل بخبر الفاسق الثقة في الرواية أن يقول أو يكون ليكون معادلا لقوله (ويختص بروايته) .

(٤) قوله (لا يوجب العلم) أي الضروري بقرينة قوله ( ولو كان يوجب العلم الضروري لما صح ذلك ) فتوضيح قوله (لو أوجب العلم لكان الخ) ان المراد بالسبب ان كان القرينة التي اذا علمت افاد الخبر العلم لزم أن يكون العلم الحاصل بها نظرياً و ان كان أمراً أجرى الله تعالى عادته باحداث العلم عقيبه ، فهو فيما نحن فيه ليس الا صدق المخبر وكونه الى ما أخبر به مضطراً

٢٩١

لو أوجب العلم، لكان يوجبه كل خبر واحد اذا كان المخبر صادقاً والى ما أخبر به مضطراً، ولو كان كذلك لوجب أن يعلم صدق أحد المتلاعنين وكذب الآخر ، وكان يجب أن لا يصح الشك في خبر النبي صلى الله عليه و آله انه اسرى به الى السماء، وقد علمنا خلاف ذلك. لانا لا نعلم صدق أحد المتلاعنين .

ونجوز أن تدخل الشبهة فى نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، فلا يعتقد صحة نبوته، فيشك فى خبره عن الاسراء به، ولو كان يوجب العلم الضرورى لما صح ذلك ، ولكان يجب أيضاً أن يحصل لنا العلم بصدق كل رسول ادعى رسالة بعضنا الى بعض ، لان ذلك يعلمه ضرورة، فكان يجب حصول العلم به، وقد علمنا خلاف ذلك فاذا بطل جميع ذلك، علم انه لا يوجب العلم .

فأما ما اعتبره النظام (۱) من اقتران السبب به، فليس يخلو (۲)

____________________________________________

كما يعلم مما مر في شروط افادة التواتر العلم الضروري ( ولو كان كذلك لوجب أن يعلم الخ) تأمل .

(۱) قوله (فأما ما اعتبره النظام الخ) هذا ابطال لاعتبار السبب ، كما اعتبره النظام . أي في التواتر والاحاد جميعاً مطلقاً ، بعد ابطال اعتباره في الاحاد لافادة العلم الضروري .

(۲) قوله (فليس يخلو الخ) المراد بالشق الأول أن يكون العلم بالسبب شرطاً ، وبالثاني أن يكون السبب باعتبار تحققه في الواقع شرطاً ، والثالث

٢٩٢

من أن يقول : يقع العلم به وبالسبب جميعاً. أو يقول: ان العلم يقع به بشرط أن يقارنه السبب. أو يقول: ان العلم يقع به الا أن لا يكون السبب حاصلا .

وكل هذه الوجوه تبطل ، لانه يوجب أن لا يمتنع أن يخبر الجماعة العظيمة عن الشيء ولا يقترن بها ذلك السبب، فلا يحصل عند خبرها العلم وهذا يؤدى الى تجويز أن نصدق من يخبرنا عن نفسه بأنه لا يعلم ان فى الدنيا مكة مع اختلاطه بالناس ونشوءه بينهم وقد علمنا خلاف ذلك .

فأما ما يذكره (۱) من مشاهدة من رأى مخرق الثياب يلطم

____________________________________________

أن يكون السبب باعتبار تحققه في الواقع كاشفاً عن عدم المانع الذي هو ضد السبب ويمكن أن يراد بالاول أن يكون السبب جزءاً من المؤثر وفيه بعد.

(۱) قوله (فأما ما يذكره الخ) كان يجب على المصنف أن يدل على عدم افادة الخبر الواحد العلم مطلقاً، أي سواء كان نظرياً أو ضرورياً ، وسواء قارنه سبب أم لا ، لانه داخل فيما اختاره . وانما اكتفى فيه بابطال مثال مشاهدة مخرق الثياب مع الضمائم التي ذكرها النظام ، اشارة الى أن كل مثال يتصور فيما نحن فيه ليس أقوى من المذكور ، وكذا السيد في الذريعة (۲) اشار اليه ، وقال المحقق الحلي في الرسالة المسماة بالمعارج في اصول الفقه ، ولا احيل في بعض الاخبار انضمام قرائن قوية كثيرة تبلغ الى حد يفيد معها العلم (٣) ،

__________________

(٢) الذريعة : ٥١٨ .

(۳) المعارج : الباب السابع في الاخبار ، الفصل الثاني ، المسألة الأولى .

٢٩٣

على وجهه، وقد كان علم أن له عليلا ويخبر بموته، انا نعلم عند خبره انه ميت ، فدعوى لا برهان عليها ، لان مثل ذلك قد يفعله العقلاء لاغراض كثيرة، ثم ينكشف الامر خلاف ذلك. فمن أين ان الذي يعتقده عند خبره علم لا يجوز التشكيك فيه ؟

فأما من قال : انه لو لم يوجب العلم (۱) لما صح أن يتعبد به، لان

____________________________________________

وفيه ان القرائن ان افادة العلم وان لم ينضم اليها الخبر فهو خارج عما نحن فيه كما مر، وان لم تفد فالانكشاف عن باطل محتمل مع انضمام الخبر أيضاً يجده العقل ، مع تعوده الفرق بين الظن الغالب والعلم ، فبطل ما قيل من أنه حصل العلم بضميمة القرائن، اذ لولا الخبر لجوز موت شخص آخر، ويمكن جعل مختار المصنف من انه لا يوجب العلم مقابلا لجعل العلم تابعاً للعمل لا العكس ، وسيجيء الدلالة بقوله ( ولو كان الخ) .

(۱) قوله (فأما من قال انه لو لم يوجب العلم الخ) ذكر السيد في الذريعة ان النظام يجعل العمل تابعاً للعلم فهما لم يحصل علم فلا عمل. ثم قال : وفي الناس من يقول : ان كل خبر وجب العمل به فلابد من ايجابه العلم ، ويجعل العلم تابعاً للعمل (انتهى) (۲).

ولا يخفى ان مقصود رد كلام هذا ، والظاهر ان هذا قائل بجواز العمل بخبر الواحد على ما يذهب اليه مخالفونا من جواز الافتاء والقضاء ، وكون المعيار حصول الظن والاجتهاد ، وقد مرمافيه في الفصل الأول ، ولذا قال المصنف (ولم يثبت لهذا القائل واحد من الأمرين) وسيفصل المصنف في (فصل في الكلام على من أحال القياس عقلا) بطلان الامر الاول .

__________________

(٤) الذريعة : ٥١٧ .

٢٩٤

العبادة لا تصح الا بما نعلمه دون ما لا نعلمه، فانما كان يدل لو ثبت ان

__________________

وتوهم بعض الاصحاب من كلام المصنف هذا ، انه ينكر جواز العمل بالخبر المظنون ، ويدعي افادة الاخبار المروية في التهذيب ، و الاستبصار ، والكافي ، والفقيه وأمثالها العلم القطعي ، وعاضده بأن الطائفة اعتمدوا في الاصول التي يشترط فيها العلم على أخبار الاحاد المذكورة ، وفيه مافيه، لانه ينافي سابق كلامه ولاحقه .

وأما اعتماد الاصحاب على أخبار الاحاد في الاصول فغير معلوم ، وما ظاهره ذلك مأول . مثلا قد روي ان زرارة (۱) بعث ابنه عبيداً (۲) بعد وفات أبي عبد الله ليعرف الخبر.

وقد روى الصدوق في كمال الدين وتمام النعمة عن الرضا عليه‌السلام انه قال : ان زرارة كان يعرف أمر أبي عليه‌السلام ونص أبيه عليه، وانما بعث ليتعرف من أبي عليه‌السلام هل يجوز له أن يرفع التقية في اظهار أمره ونص أبيه عليه ، وانه لما أبطأ عنه ابنه طولب باظهار قوله في أبي عليه‌السلام ، فلم يحب أن يقدم على ذلك دون أمره ، فرفع المصحف وقال : اللهم ان امامي من اثبت هذا المصحف امامتة من ولد جعفر بن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (۳).

__________________

(۱) قال ابن النديم زرارة لقب ، واسمه عبد ربه بن أعين بن سنبس ، أبو على أكبر رجال الشيعة فقهاً وحديثاً ومعرفة بالكلام والتشيع . وقال النجاشي: شيخ أصحابنا فی زمانه ومتقدمهم ، وكان قارئاً فقيهاً متكلماً شاعراً أديباً ، اجتمعت فيه خلال الفضل والدين صادقاً فيما يرويه مات سنة ( ١٥٠ هـ .) .

(۲) قال النجاشي عبيد بن زرارة بن أعين الشيباني . روى عن أبي عبد الله عليه‌السلام ثقة ثقة ، عين ، لاليس فيه ولاشك .

(۳) كمال الدين وتمام النعمة ١ : ٧٥ .

٢٩٥

في العقل لا يجوز العبادة بما طريقه الظن، ثم يثبت انه تعبد به، ولم يثبت لهذا القائل واحد من الأمرين، فلا يصح التعلق به .

فأما تعلقه بقوله: وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (۱) فهو لا يدل على ايجاب خبر الواحد العلم ، لان معنى الآية النهى عن الكذب على الله تعالى ، وليس من عمل بخبر الواحد يضيف اليه (۲) ان الله تعالى قد قال ما تضمنه الخبر، وانما يضيف اليه انه تعبده بالعمل بما تضمنه الخبر، وذلك معلوم عنده بدليل دل عليه، فيسقط بجميع ذلك هذا المذهب .

ولو كان خبر الواحد يوجب العلم (۳)، لما كان اختلاف الناس في قبوله وشكهم في صحته صحيحاً ، ولا صح التعارض في الاخبار (٤)

____________________________________________

(۲) قوله (وليس من عمل بخبر الواحد يضيف اليه) من الاضافة بمعنى الضم والضمير في اليه راجع الى العمل ، والمقصود ان العامل بخبر الواحد لا يجوز أن يفتى غيره بمضمونه حتى يحتمل كونه كاذباً ، بل انما يعمل به ويخبر عن وجوب العمل عليه نفسه تدبر.

(۳) قوله (ولو كان خبر الواحد يوجب العلم) هذا ابطال لقول من يجعل العلم تابعاً للعمل، كما يذهب اليه مخالفونا .

(٤) قوله ( ولا صح التعارض في الاخبار) بأن يكون صدق أحد الخبرين مستلزماً لكذب الآخر، لا أن يكون مخبريهما نقيضين لجو از ذلك في أخبار الأئمة عليهم‌السلام

__________________

(١) البقرة : ١٦٩ .

٢٩٦

ولا احتيج الى اعتبار صفات الراوى (۱)، ولا ترجيح بعض الاخبار على بعض، وكل ذلك يبين فساد هذا المذهب .

فأما تسمية من سماه علماً ظاهراً، فربما عبر عن الظن بأنه علم، لان العلم لا يختلف حاله الى أن يكون ظاهراً وباطناً. فان أراد ذلك، فهو خلاف في العبارة لا اعتبار به .

فأما من قال لا يجوز العمل به عقلا (۲)، فالذي يدل على بطلان قوله ان يقال : اذا تعبد الله تعالى بالشيء، فانما يتعبد به لانه مصلحة لنا، وينبغي أن يدلنا عليه وعلى صفته التي اذا علمناه عليها كان مصلحة لنا، وصح منا أداؤه على ذلك الوجه، ولا يمتنع ان تختلف

____________________________________________

عليهم السلام للنقيسة ونحوه. ويمكن أن يخصص قوله (الاخبار) بأخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

(۱) قوله (ولا احتيج الى اعتبار صفات الراوي الخ) أي كما اعتبروه ، ولا ينافي هذا جواز الاحتياج الى اعتبار صفات الراوي من حيث كون بعض الرواة أبعد من التقية من بعض، وكذا الكلام في قوله (ولا ترجيح بعض الاخبار على بعض) .

(۲) قوله (فأما من قال لا يجوز العمل به عقلا الخ ) ان أراد هذا الفائل عدم الجواز في نفس الاحكام اذا لم يعترض من جهة المكلفين ما يمنع عنه ، فابطاله بما ذكره ظاهر الدفع تدبر ، وكذا يظهر مما ذكرنا بطلان ماقيل في هذا البحث

٢٩٧

الطرق (۱) التي بها يعلم ان الله سبحانه تعبدنا به، كما لا يمتنع اختلاف الادلة (۲) التي بها يعلم صحة ذلك .

فاذا صحت هذه الجملة لم يمتنع أن يدلنا على انه قد أمرنا بأن نفعل ما ورد به خبر الواحد اذا علمناه على صفة ظننا انه صادق كعلمنا انه تعبدنا بما أنزله من القرآن ، وان كان أحدهما قد علق بشرط (۳) والآخر لم يعلق به. واذا صح هذا ، وكان صورة خبر الواحد هذه الصورة، فيجب أن لا يمتنع ورود العبادة بالعمل به .

__________________

(۱) قوله (ولا يمتنع أن تختلف الطرق) ان أراد صحة الاختلاف في نفس الأمر بالظن والعلم مطلقاً وهو ممنوع ، واسند مامر من مفاسد العمل بالظن في نفس أحكام الله تعالى، وان أراد عدم وجدان العقول مفسدة في العمل به مطلقاً، فغاية ماله عدم وجدانه مفسدة فيه، لا عدم وجدان جميع العقول وحينئذ لا يتم التقريب .

وان أراد عدم المفسدة أو عدم وجدانها في غيبة الامام عليه‌السلام بعد الضرورة فهو مسلم وممكن، فليكتف في جواز العمل بموضع الضرورة، وحيث لا يمكن فيه الاحتياط تدبر .

(۲) قوله ( كمالا يمتنع اختلاف الادلة الخ ) اشارة الى تعدد الادلة على صحة الاختلاف بالظن والعلم في طرق الاحكام، وهو موضع نظر وتأمل .

(۳) قوله: (قد علق بشرط) هو علمنا اياه صفة ظننا أنه صادق ، ويحتمل غیره ککونه غیر مخالف لكتاب مثلا .

٢٩٨

والذي يبين ذلك (۱) أيضاً ورود العبادة بالشهادات وان لم يعلم صدقهم ، وجرى وجوب الحكم بقولهم في أنه معلوم مجرى الحكم بما علمناه بقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وليس لاحد أن يقول : اذا لم يصح ان يتعبد الله تعالى بالقبول من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا علم معجز يظهر عليه، فبان لا يجوز القبول من غيره أولى (۲) .

وذلك ان فقد ظهور العلم على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يقتضى الجهل بالمصالح التي لا يعلم الا من جهته، وليس في فقد الدلالة على صدق خبر الواحد ذلك، لانه يصح أن يعلم بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجوب ما أخبر به الواحد، فيصير في حكم علم قد ظهر عليه، وان جوزنا كونه كاذباً فيه ، لانه لا يمتنع أن تكون المصلحة لنا في العمل به وان كان هو كاذباً. كما لا يمتنع أن يكون الواجب علينا ترك سلوك الطريق اذا خوفنا الواحد من سبع فيه أو لص وان كان كاذباً .

____________________________________________

(۱) قوله ( والذي يبين ذلك الخ ) هذا قياس في العقليات ، ومع هذا فالفارق متحقق كمامر .

(۲) قوله (أولى) الاولوية انما تظهر بعد ثبوت النبوة ، والكلام مفروض قبل اثباته، بل هي منعكسة لان شأن النبوة أرفع وأعلى، فهوقياس مع الفارق وملخص جواب المصنف يرجع الى هذا .

٢٩٩

ثم هذا يوجب (۱) عليه ألا يحكم بشهادة الشهود، مع تجويز أن يكونوا كذبه، كما لا تقبل من الرسول صلى الله عليه و آله الشريعة الا بعلم يدل على نبوته .

فان قالوا: ولم لا يجوز ان يعلم أيضاً بقول نبي متقدم وجوب تصدیق نبی آخر يجيء بعده ، والعمل بما معه مثل ما قلتموه في خبر الواحد من أنه يعلم وجوب العمل به بقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قيل له : ان كان سؤالك (۲) عن وجوب العمل بما يجيء به انسان في المستقبل فهذا هو معنى قبول خبر الواحد وجواز العمل به بعينه، فذلك جائز .

وان كان سؤالك عن تصديق نبى يجيء. فذلك طريقه العلم لا العمل، فلا يجوز أن يعمل بقوله لانا بينا ان خبر الواحد لا يوجب العلم .

____________________________________________

(۱) قوله (ثم هذا يوجب الخ ) الأولى تقديمه على قوله ( وذلك الخ ) ثم لا يرد نقضاً على القياس الأول، لان الاول مشتمل على جامع هو الجهل بنفس الاحكام، وليس هذا في الحكم بشهادة الشهود .

(۲) قوله ( قيل له ان كان سؤلك ) الشق الأول من الترديد غير محتمل ، والثاني تسليم للبحث على السند الأول ، وعدول الى سند آخر، ولا حجر فيه لانه فن من الكلام حسن .

٣٠٠