موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤١

وغير أخي وابنيه» ثمّ سدّ كل باب شارع إلى المسجد غير بابه ، فتكلم في ذلك من تكلّم فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما أنا سددت أبوابكم وفتحت بابه ، ولكن الله أمرني بسدّ أبوابكم وفتح بابه» ثمّ نهى الناس أن يناموا في المسجد غيره ... وإنّ عمر بن الخطاب حرص على كوّة قدر عينيه من منزله إلى المسجد ، فأبى عليه! قالوا : اللهم نعم!

قال : أنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال له في (خروجه إلى) «غزوة تبوك» : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، وأنت وليّ كل مؤمن بعدي»؟ قالوا : اللهم نعم.

قال : أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نصبه «يوم غدير خم» فنادى له بالولاية وقال : «فليبلّغ الشاهد الغائب»؟ قالوا : اللهم نعم.

قال : أنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين دعا النصارى من أهل «نجران» إلى «المباهلة» لم يأت إلّا به وبصاحبته وابنيه؟ قالوا : اللهم نعم!

قال : أتعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في آخر خطبة خطبها : «أيها الناس ، إنّي تركت فيكم الثقلين : كتاب الله وأهل بيتي ، فتمسّكوا بهما لن تضلّوا»؟ قالوا : اللهم نعم!

قال : أتعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمره بغسله وأخبره : أنّ جبرئيل يعينه عليه؟ قالوا : اللهم نعم!

فلم يدع شيئا أنزله الله في عليّ بن أبي طالب خاصّة وفي أهل بيته من القرآن ، ولا على لسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلّا ناشدهم فيه ، فيقول الصحابة : اللهم نعم قد سمعناه ، ويقول التابعي : اللهم نعم قد حدّثنيه من أثق به!

ثمّ ناشدهم : أنهم هل سمعوه صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «من زعم أنه يحبّني ويبغض عليا فقد كذب ، ليس يحبّني وهو يبغض عليا» فقال قائل : يا رسول الله وكيف ذلك؟ فقال : «لأنه منّي وأنا منه ، من أحبّه فقد أحبّني ومن أحبّني فقد أحبّ الله! ومن أبغضه فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله»!

٤١

فقالوا : اللهم نعم قد سمعناه (١).

هذا ما جاء في كتاب سليم بن قيس الهلالي.

وروى الحسن بن علي الحرّاني عنه عليه‌السلام خطبة أنسب ما تكون صدرا أو ذيلا لما مرّ قال :

اعتبروا أيّها الناس ـ بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ)(٢) وقال : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ* كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ)(٣) وإنما عاب الله ذلك عليهم ؛ لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك ، رغبة فيما كانوا ينالون منهم ، ورهبة مما يحذرون ، والله يقول : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ)(٤) وقال : (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(٥) فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه لعلمه بأنّها إذا ادّيت وأقيمت استقامت الفرائض كلها هيّنها وصعبها ، وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام ، مع ردّ المظالم ، ومخالفة الظالم ، وقسمة الفيء والغنائم ، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها.

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٧٨٨ ـ ٧٩٣ ، وراعينا في المناشدات تواريخ وقوع حوادثها.

(٢) المائدة : ٦٣.

(٣) المائدة : ٧٨ و ٧٩.

(٤) المائدة : ٤٤.

(٥) التوبة : ٧١.

٤٢

ثمّ أنتم ـ أيتها العصابة ـ عصابة بالعلم مشهورة ، وبالخير مذكورة ، وبالنصيحة معروفة ، وبالله في أنفس الناس مهابة يهابكم الشريف ، ويكرمكم الضعيف ، ويؤثركم من لا فضل لكم عليه ولا يدلكم عنده ، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت من طلّابها ، وتمشون في الطريق بهيبة الملوك وكرامة الأكابر! أليس كل ذلك إنما نلتموه بما يرجى عندكم من القيام بحق الله ، وإن كنتم عن أكثر حقّه تقصّرون! إذ استخففتم بحقّ الأئمة!

فأمّا حقّ الضعفاء فضيعتم ، وأمّا حقكم ـ بزعمكم ـ فطلبتم! فلا مالا بذلتموه ، ولا نفسا خاطرتم بها للذي خلقها ، ولا عشيرة عاديتموها في ذات الله! وأنتم تتمنون على الله جنته ومجاورة رسله وأمانا من عذابه!

لقد خشيت عليكم ـ أيّها المتمنّون على الله ـ أن تحلّ بكم نقمة من نقماته! لأنكم بلغتم من كرامة الله منزلة فضّلتم بها ، ومن يعرف بالله لا تكرمون ، وأنتم بالله في عباده تكرمون. وترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون ، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون ، وذمّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مخفورة (فلا تنكرون) والعمى والبكم والزمنى في المدائن مهملة لا ترحمون ، لا في منزلتكم تعملون ولا من عمل فيها تغنون ، وبالإدهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون. كل ذلك مما أمركم الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون.

وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من «منازل العلماء» لو كنتم تعون! ذلك لأنّ «مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه» فأنتم المسلوبون تلك «المنزلة». وما سلبتم ذلك إلّا بتفرقكم عن الحقّ واختلافكم في السنّة بعد البيّنة الواضحة! ولو صبرتم على الأذى وتحمّلتم المؤونة في ذات الله كانت «أمور الله» عليكم ترد ، وعنكم تصدر ، وإليكم ترجع! ولكنّكم مكّنتم الظلمة من «منزلتكم» وأسلمتم «أمور الله»

٤٣

في أيديهم ، يعملون بالشبهات ويسيرون بالشهوات ، سلّطهم على ذلك فراركم من الموت وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم.

فأسلمتم الضعفاء في أيديهم : فمن بين مستعبد مقهور ، وبين مستضعف على معيشته مغلوب ، يتقلّبون في الملك بآرائهم ، ويستشعرون الخزي بأهوائهم ، اقتداء بالأشرار وجرأة على الجبار! في كل بلد منهم على منبره خطيب يصقع! فالأرض لهم شاغرة وأيديهم فيها مبسوطة ، والناس لهم خول لا يدفعون يد لامس من جبّار عنيد وذي سطوة على الضعفة شديد ومطاع لا يعرف المبدئ المعيد!

فيا عجبا! وما لي لا أعجب! والأرض من غاشّ غشوم ، وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم! فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا ، والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا!

اللهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منّا تنافسا في سلطان ، ولا التماس شيء من فضول الحطام ، ولكن لنردّ المعالم من دينك ، ونظهر «الإصلاح» في بلادك ، ويأمن المظلومون من عبادك ، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك. وإنّكم إن لم تنصفونا وتنصرونا قوي الظلمة عليكم وعملوا في إطفاء نور نبيّكم! وحسبنا الله عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير (١).

هذا ما جاء مرسلا منفردا في «تحف العقول» مما يتناسب صدورا من الحسين عليه‌السلام ولا يتناسب خطابا إلّا لذلك الحشد المذكور في الخبر السابق عن سليم بن قيس الهلالي في موسم الحجّ. ثمّ لم يذكر فيهما ولا في غيرهما أي عمل أو ردّ فعل من معاوية أو عامله على مكة أو الموسم أو المدينة. ويبعد جدا أن يكون الخبران عن خطبتين في موسمين. والأخير يستشهد به لولاية العلماء الفقهاء المعبّر عنها فيه بمنزلة العلماء.

__________________

(١) تحف العقول : ١٧١ ، ١٧٢ مرسلا.

٤٤

ثمّ وفد ابن زياد بأشراف أهل البصرة ومعهم الأحنف بن قيس التميمي على معاوية ، فأخذ معاوية عليهم البيعة لابنه يزيد سنة تسع وخمسين أو ستّين (١).

معاوية يعهد إلى يزيد :

وفي سنة ستين مرض معاوية. فدعا ابنه يزيد.

فأجلسه بين يديه وقال له : يا بنيّ ، إنّي قد ذلّلت لك الرّقاب الصّعاب ، ووطّدت لك البلاد وجعلت الملك وما فيه لك طعمة! وإنّي أخشى عليك من ثلاثة نفر يخالفون عليك بجهدهم ، وهم : عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، والحسين بن علي عليه‌السلام.

فأمّا عبد الله بن عمر ؛ فهو معك ، فالزمه ولا تدعه (أي راقبه ملازما)!

وأما عبد الله بن الزبير ، فإنّه يجثو لك كما يجثو الأسد لفريسته ، ويواربك مواربة الثعلب للكلب! فإن ظفرت به فقطّعه إربا إربا (أي اظفر به واقتله)!

وأما الحسين عليه‌السلام فقد عرفت حظّه من رسول الله (بل) هو من لحم رسول الله ودمه! وقد علمت ـ لا محالة ـ أنّ أهل العراق سيخرجونه إليهم (لكن) ثمّ يخذلونه ويضيّعونه ، فإن ظفرت به فاعرف حقّه ومنزلته من رسول الله ولا تؤاخذه بفعله ... وإياك أن تناله بسوء ويرى منك مكروها (٢). (أي اظفر به ولكن لا تقتله).

وروى الطبري ، عن الكلبي عن عوانة بن الحكم : أنّ يزيد كان غائبا عن أبيه عند موته في سنة ستّين ، فدعا بصاحب شرطته الضحاك بن قيس الفهري ومعه مسلم بن عقبة المرّي فقال لهما : أبلغا وصيّتي يزيد : أن انظر أهل الحجاز

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣١٦ و ٣٢٢.

(٢) أمالي الصدوق : ١٢٩ المجلس ٣٠ ، الحديث الأوّل بسنده عن الصادق عليه‌السلام. وروى الطبري عن الكلبي عن أبي مخنف ٥ : ٣٢٢ نحوه أو مثله.

٤٥

فإنّهم أصلك ، فأكرم من قدم عليك منهم وتفقّد من غاب. وانظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل عنهم كلّ يوم عاملا فافعل ، فإنّ عزل عامل أحبّ إليّ من أن تشهر عليك مئة ألف سيف! وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك ، فإن نابك شيء من عدوّك فانتصر بهم ، فإن أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم.

وإنّي لست أخاف من قريش إلّا ثلاثة : الحسين بن علي ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير.

فأما الحسين بن علي فإنّه رجل خفيف (سريع الرضا والغضب) ولا أظنّ أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه! وأرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه وخذل أخاه (من أهل العراق) فإن قدرت عليه فاصفح عنه (١).

وأما ابن عمر فرجل قد وقذه الدين فليس ملتمسا شيئا قبلك (من الخلافة والملك).

وأما ابن الزبير ، فإنّه خبّ ضبّ (حاقد خائن) فإذا شخص لك فالبدله ، فإن التمس صلحا فنعم (٢).

هلاك معاوية وأحواله :

قال اليعقوبي : توفي في مستهل رجب سنة (٦٠) وهو ابن ثمانين سنة ، وقد كان ضعف ونحل وسقطت ثناياه. ولما مات خرج صاحب شرطته الضحّاك بن

__________________

(١) فهو يوعز إليه أن يقابل من مع الحسين من أهل العراق بمن يستجيب منهم لبني امية فيظفر به ولا يقتله.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٢٣ والخبران سابق ولا حق فلا منافاة بينهما.

٤٦

قيس الفهري يحمل أكفانه فوضعها على المنبر ثمّ قال : إن معاوية كان ناب العرب وحبلها ، وقد مات وهذه أكفانه ونحن مدرجوه فيها وموردوه قبره. وكان يزيد في ذلك الوقت غائبا فصلّى عليه الضحّاك بن قيس ودفنه بدمشق. وله أربعة ذكور : يزيد وعبد الله ، وعبد الرحمن ، ومحمد!

وكان معاوية : جهم الوجه ، جاحظ العينين ، وافر اللحية ، عريض الصدر ، عظيم الأليتين! قصير الفخذين والساقين. وحجّ بالناس في ولايته سنة (٤٤) و (٥٠) واعتمر في رجب سنة (٥٦ ه‍) ، وكان أوّل من كسا الكعبة الديباج واشترى لها العبيد وقفا عليها.

وسمع سعيد بن العاص : أنه سمع معاوية يوما يقول : لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي.

ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني. ولو أنّ بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت! قيل : وكيف يا أمير المؤمنين؟ قال : كانوا إذا مدّوها خلّيتها وإذا خلّوها مددتها. فكان له حلم ودهاء وجود بالمال ، فإذا بلغه عن رجل ما يكره قطع لسانه بالعطاء ، وربّما يحتال عليه بأن يبعثه في حرب ويقدّمه في القتال ، وكان أكثر فعله المكر والحيلة (١)!

قال : وكان معاوية أول من حبس النساء بجرائر الرجال ... وأول من أقام في الإسلام الحرس والشرط والبوّابين وأرخى الستور ، ومشي بين يديه بالحراب ، وجلس على السرير والناس تحته. وجعل ديوان الخاتم ، واستكتب النصارى! واستصفى أموال الناس فأخذها لنفسه ، وبنى وشيّد البناء وسخّر الناس في بنائه ولم يفعل من قبل.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٣ : ٢٣٨ ، ٢٣٩.

٤٧

ورحل إليه عبد الله بن عمر يوما ، فقال له : يا أبا عبد الله ، كيف ترى بنياننا؟ قال : إن كان من مال الله فأنت من الخائنين! وإن كان من مالك فأنت من المسرفين!

وكان سعيد بن المسيّب يقول : فعل الله بمعاوية وفعل! فإنه أوّل من أعاد هذا الأمر ملكا وكان هو يقول : أنا أوّل الملوك (١).

وفعل معاوية بالشام والجزيرة واليمن مثل ما فعل بالعراق من استصفاء ما كان للملوك من الضياع وتصييرها لنفسه خالصة ... وكان أول من كانت له الصوافي في جميع الدنيا! حتى بمكة والمدينة فإنه كان فيهما شيء يحمل في كل سنة من أو ساق التمر والحنطة.

وكان صاحب العراق يحمل إليه من مال صوافيه في نواحيه مئة ألف ألف (١٠٠ مليون) درهما. واستقر خراج مصر بعد عمرو بن العاص على ثلاثة آلاف ألف (٣ ملايين) دينارا! واستقر خراج فلسطين على أربعمئة وخمسين ألف دينار ، واستقر خراج الأردن على مئة وثمانين ألف دينار ، وخراج دمشق على أربعمئة ألف وخمسين ألف دينار ، وخراج جند حمص على ثلاثمئة وخمسين ألف دينار ، وخراج قنّسرين والعواصم على أربعمئة ألف وخمسين ألف دينار ، وخراج الجزيرة وهي ديار ربيعة ومضر على خمسة وخمسين ألف ألف (٥٥ ميليون) درهما. وخراج اليمن على ألف ألف (مليون) ومئتي ألف دينار (٢).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٣٢ ، وهذا أولى وأقرب وأنسب ممّا نسبه إليه المسعودي في مروج الذهب ٣ : ٤٩ : أن معاوية لمّا احتضر دعا بدعاء بلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال : لقد رغب إلى من لا مرغوب إليه مثله ، وإني لأرجو أن لا يعذّبه الله!

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٣٣ و ٢٣٤.

٤٨

ونقل ابن قتيبة ، عن ابن إسحاق : أنه مات وله ثمان وسبعون سنة بعلّة الناقبات وهي الدبيلة وهي دمل كبير يظهر في الجوف فيقتل صاحبه (١).

وروى الدينوري ، عن نافع بن جبير : أنّه كان يزيد يوم موت معاوية غائبا فاستخلف معاوية الضحّاك حتّى يقدم يزيد فنهى الضحّاك أن يحمل نعش معاوية غير قرشي ، فطلب إليه الشاميّون أن يجعل لهم نصيبا فأذن لهم فازدحموا عليه حتى شقّوا البرد الذي عليه! حتى دفنوه ، وبعد عشرة أيام قدم يزيد إلى دمشق.

وقال خليفة : كان على ديوانه وأمره كلّه : سرجون بن منصور الرومي. ومات في آخر ولاية معاوية سنة ٥٩ : أبو هريرة ، واسامة بن زيد ، وسعيد بن العاص ، وجبير بن مطعم العدوي ، وشيبة بن عثمان ، وعبد الله بن عامر بن كريز (٢) صهر معاوية وأبو زوجة يزيد أم كلثوم.

وقال المعتزلي الشافعي : كان معاوية في أيام عمر يستر نفسه قليلا خوفا منه ، إلّا أنه كان يلبس الحرير والديباج ، ويشرب في آنية الذهب والفضة ، ويركب البغلات ذوات السروج المحلّاة بها ، وعليها جلال الديباج والوشي ، وكان حينئذ شابّا وعنده نزق الصبا وأثر الشبيبة ، وسكر السلطان والإمرة!

ثمّ كان أيام عثمان شديد التهتك موسوما بكل قبيح ، ونقل عنه الناس في كتب السيرة أنه كان يشرب الخمر بالشام في أيام عثمان! ولم يتوقّر ولم يلزم قانون الرياسة إلّا منذ خرج على أمير المؤمنين عليه‌السلام واحتاج إلى السكينة والناموس!

__________________

(١) المعارف : ٣٤٩ وهي السرطان اليوم. وراجع فجائع معاوية في الغدير ١٠ : ١٧٦ ـ ٢٩٣ ـ ١٢٠ صفحة تقريبا يبحث فيها ١٨ من موبقاته ونحن ذكرنا المؤرّخ منها في هذا الكتاب وتركنا سائرها فهي من الكلام لا التاريخ.

(٢) تاريخ خليفة : ١٣٩ ـ ١٤١.

٤٩

واختلفوا فيه بعد وفاة أمير المؤمنين عليه‌السلام واستقرار الأمر له ، فقيل : إنه شرب الخمر سرّا وقيل : إنه تركه! (ولزمه ابنه يزيد) ولا خلاف في أنه كان يسمع الغناء ويطرب به ويعطي عليه ويصل أيضا (١)!

وانفرد المسعودي بذكر برنامجه اليومي نذكر جملا منه قال : كان إذا صلّى الفجر جاء قاصّ يقصّ عليه بعض القصص ثمّ يقرأ في مصحفه ، ثمّ يدخل منزله لبعض أمره ، يخرج إلى مجلسه فيأذن لخواصه يحدّثونه ويدخل عليه وزراؤه يكلّمونه فيما يخصّ يومهم ذلك إلى الليل ، ثمّ يؤتى ببعض فاضل عشائه من فرخ أو جدي بارد أو ما يشبهه ، ثمّ يدخل منزله لبعض شأنه ، ثمّ يخرج فيوضع كرسيّه خلف مقصورته في المسجد ويقوم الحرس حوله فيجلس عليه لبعض أرباب الحوائج من الأعراب والنساء وحتّى الصبيان! ثمّ يدخل قصره على سريره فيأذن لأشراف الناس على قدر منازلهم فيقضي حوائجهم ثمّ يؤتى بغدائه ويقوم كاتبه عند رأسه يقرأ كتبه فيأمره بأمره ويأكل ويأكلون معه ، ويتعاقبون لديه على غدائه لحوائجهم فربما كانوا نحو أربعين شخصا ، ثمّ يدخل المنزل ولا يأذن لأحد حتى ينادى لصلاة الظهر فيخرج فيصلي ، ثمّ يجلس فيأذن لخواصّه ، فإن كان الوقت صيفا اتي بالفواكه الرطبة ، وإن كان الوقت شتاء أتوه بزاد الحجاج من الأخبصة اليابسة والأقراص المعجونة باللبن والسكر والكعك المسمّن والفواكه اليابسة والخشكانج ، ويدخل إليه وزراؤه فيؤامرونه لحوائجهم ليومهم إلى صلاة العصر فيخرج فيصلي العصر ، ثمّ يدخل المنزل ولا يأذن لأحد ، حتى آخر أوقات العصر فيخرج فيجلس على سريره ويؤذن للناس على منازلهم بدون أصحاب الحوائج ويؤتى بعشائه فيأكل حتى ينادى لصلاة المغرب فيخرج فيصليها ويصلّي بعدها

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٦١.

٥٠

أربع ركعات ، ثمّ يدخل المنزل ولا يأذن لأحد حتى ينادى بالعشاء الآخرة فيخرج فيصلي ، ثمّ يؤذن لخواصّه وحاشيته والوزراء فيؤامرونه صدرا من ليلتهم ، ثمّ كان له غلمان مرتّبون قد وكّلوا بحفظ دفاتر وقراءتها ، فيحضرونها ويقرؤونها ، فيستمر معهم إلى ثلث الليل في أخبار العرب والعجم وملوكها وسياستها لرعيتها وسيرهم وحروبهم ومكايدهم وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة ، فتمر بسمعه كل ليلة جمل من الأخبار والسير والآثار وأنواع السياسات! ثمّ تأتيه من نسائه الطرف الغريبة والمآكل اللطيفة من الحلوى وغيرها ، ثمّ يدخل فينام ثلث الليل ، ثمّ يقوم فيقعد فيحضرون له الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارهم وحروبهم ومكايدهم فيقرأ ذلك عليه غلمانه (بدل تهجد الليل) حتى ينادى لصلاة الصبح فيخرج فيصلّيها ، وهكذا (١).

وقال السيوطي فيه : روي له عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مئة وثلاثة وستّون حديثا ... وورد في فضله أحاديث قلّما تثبت (٢) وكان عنده شيء من شعر رسول الله وقلامة أظفاره فأوصى أن تجعل في فمه وعينيه! ودفن بين باب الجابية وباب الصغير (٣) ثمّ لا يشير إلى زيارة قبره.

بينما قال المسعودي : دفن بدمشق بباب الصغير وعليه بيت مبني يفتح كلّ يوم اثنين وخميس فيزار إلى اليوم من سنة (٣٣٢) (٤) ولكنّه اليوم مأوى البوم! ولقد ابدع «المجدوب الشامي» إذ خاطبه قائلا :

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢٩ ـ ٣١.

(٢) تاريخ الخلفاء : ٢٣٣.

(٣) تاريخ الخلفاء : ٢٣٧.

(٤) مروج الذهب ٣ : ٣ فلا إشكال على البناء على القبور وزياراتها!

٥١

هذا ضريحك لو بصرت ببؤسه

لأسال مدمعك المصير الأسود

كتل من الترب المهين بخربة

سكر الذباب بها فراح يعربد

ضاعت معالمها على زوّارها

فكأنّها في مجهل لا تقصد

ومشى بها ركب البلى ، فتجد بها

عارا يكاد من الضراعة يسجد

القبة الشّماء نكّس طرفها

في كل جزء للفناء بها يد

تهمي السحائب من خلال سقوفها

والريح في جنباتها تتردّد

حتى المصلّى مظلم فكأنّه

مذ كان لم يجتز به متعبّد

أأبا يزيد لتلك حكمة خالق

تجلى على قلب الحكيم فيرشد

أرأيت عاقبة الجموح ونزوة

أودى بليلك غيّه المترصّد

أغررت بالدنيا فرحت تشنّها

حربا على الحقّ الصّراح وتوقد

تغدو بها ظلما على من حبّه

دين ، وبغضته الشقاء السرمد

علم الهدى وإمام كلّ مطهّر

ومثابة العلم الذي لا يجحد

ورثت شمائله براءة أحمد

فيكاد من برديه يشرق أحمد

وخلوت حتّى قد جعلت زمامها

إرثا لكل مذمّم لا يحمد

هتك المحارم واستباح خدورها

ومضى بغير هواه لا يتغمّد

فأعادها ـ بعد الهدى ـ عصبية

هو جاء تلتهم النفوس وتفسد

فكأنما الإسلام سلعة تاجر

وكأن أمته لآلك أعبد

فاسأل مرابض كربلاء ويثرب

عن تلكم النار التي لا تخمد

ما كان ضرك لو كففت شواظها

فسلكت نهج الحقّ وهو معبّد

ولزمت ظل أبي تراب وهو من

في ظله يرجى السداد ويرشد

ولو أن فعلت لصنت شرعة أحمد

وحميت مجدا قد بناه محمد

ولعاد دين الله يغمر نوره الد

نيا فلا عبد ولا مستعبد!

***

٥٢

أأبا يزيد ساء ذلك عبرة

ماذا أقول وباب سمعك موصد

قم وارمق «النجف الشريف» بنظرة

يرتدّ طرفك وهو باك أرمد

تلك العظام أعزّ ربّك قدرها

فتكاد لو لا خوف ربّك تعبد

أبدا تباركها الوفود يحثّها

من كل صوب شوقها المتوقّد

نازعتها الدنيا ففزت بوردها

ثم انطوى ـ كالحلم ـ ذاك المورد

وسعت إلى الاخرى فأصبح ذكرها

في الخالدين ، وعطف ربّك أخلد

وهذه القصيدة البديعة الخالدة للشاعر الدمشقي المبدع الأديب الاستاذ محمد المجدوب ، قد ألقاها في مهرجان مولد الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في جامع الهندي في النجف الأشرف عام (١٣٧١ ه‍ ـ ١٩٥٢ م) في انتهاء دهاء معاوية وعاقبته.

بداية عهد يزيد :

اختار أبو مخنف خبر هلاك معاوية لأوّل شهر رجب عام (٦٠ ه‍) (١) وكان يزيد قد خرج قبل موت أبيه بيوم إلى حوران للصيد ، وأخبر الضحّاك الفهري بمسيره وطلب منه أن يخبره بخبر أبيه. فلما مات معاوية كتب بذلك الضحّاك إلى يزيد ، فلمّا بلغه وقرأه وثب باكيا وأمر من معه بالرجوع إلى دمشق فوصلها بعد ثلاثة أيام (٢) ، وهو معتمّ بعمامة خزّ سوداء متقلّد سيفا.

وكان الضحاك الفهريّ قد أخبر الناس بقدومه وأمرهم باستقباله ، فركب لذلك من أطاق الركوب وحمل السلاح ، فلمّا قرب يزيد من دمشق تلقّوه باكين ، وأمامه راث يرثي معاوية. وكان الفهري قد فرش له قصر القبّة الخضراء لأبيه

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٣٨.

(٢) وفي الإمامة والسياسة ١ : ٢٠٣ : بعشرة أيام.

٥٣

وفرش له فيه فرشا كثيرا بعضه على بعض! ووضع له الكرسي (١) وجاء به الفهريّ إلى قبر أبيه فصلّى له عنده (٢).

ثم أتى القبّة الخضراء وصعد على الفرش حتّى جلس على الكرسي ، وأدخل الناس عليه يعزّونه بأبيه ويهنئونه بالخلافة ويبايعونه (٣) ثمّ خطبهم فأبّن أباه ورثاه ثمّ بشّرهم عن نفسه فقال لهم : لقد كان معاوية يغزوكم في البحر (للروم) وأنا لا أحمل أحدكم على البحر! وكان يشتّيكم بأرض الروم ، وأنا لا أشتّي أحدا للروم ، وكان يخرج عطاءكم أثلاثا في السنة كلّ أربعة أشهر ، وأنا أجمعه لكم كلّه (٤)!

ثمّ أمر ففتحوا بيوت الأموال ففرّقها عليهم ، وكتب إلى البلدان بأخذ البيعة له (٥) وعمره ثلاث وثلاثون سنة (٦).

كتابه للبيعة إلى المدينة :

كان معاوية ولّى المدينة ابن أخيه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، سنة (٥٨ ه‍) (٧) فولّى يزيد وابن عمّه الوليد على المدينة ، ولم يكن ليزيد همّة إلّا بيعة الممتنعين الثلاثة وفي مقدّمتهم وعلى رأسهم الحسين عليه‌السلام ، فكتب إلى الوليد

__________________

(١) مقتل الخوارزمي ١ : ١٧٧ ـ ١٧٩ عن ابن الأعثم الكوفي.

(٢) الكامل في التاريخ ٤ : ٩ ، والبداية والنهاية ٨ : ١٤٣.

(٣) مقتل الخوارزمي ١ : ١٧٩ عن ابن الأعثم.

(٤) البداية والنهاية ٨ : ١٤٣ فأمّن الروم ضمنا!

(٥) مقتل الخوارزمي ١ : ١٧٩ عن ابن الأعثم.

(٦) تاريخ الطبري ٥ : ٤٩٩ ولد سنة (٢٨ ه‍).

(٧) تاريخ الطبري ٥ : ٣٠٩.

٥٤

كتابا بنعي معاوية وأردفها بصحيفة أخرى صغيرة وفيها : أمّا بعد ، فخذ حسينا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتّى يبايعوا ، والسلام (١) فكان ذلك يعني إبقاءه على عمله ضمنا وتلويحا.

ولدى اليعقوبي : إذا أتاك كتابي هذا فخذ الناس بالبيعة وأحضر الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير وخذهما بالبيعة لي ، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما وابعث إليّ برأسيهما! ومن امتنع من الناس فأنفذ فيه الحكم ، والسلام (٢).

وروى ابن الخياط بسنده عن زريق مولى معاوية قال : بعثني يزيد إلى الوليد ، فقدمت المدينة ليلا وقد دخل الوليد ، وقال حاجبه : قد دخل فلا سبيل إليه! فقلت له : إنّي قد جئته بأمر! فدخل وأخبره فأذن لي وهو على سريره ، فلمّا قرأ الكتاب جزع وجعل يقوم على فراشه ويرمي بنفسه على الفراش جزعا. ثمّ بعث إلى مروان ـ وناس من بني أميّة ـ فجاء وعليه قميص أبيض وملاءة مورّدة ، فنعى له معاوية وأخبره أنّ يزيد كتب إليه أن يبعث إلى هؤلاء الرهط فيدعوهم إلى بيعته (٣).

وقرأ عليه كتاب يزيد ، فاسترجع وترحّم على معاوية ، واستشاره الوليد قال : كيف نصنع؟ قال : فإنّي أرى أن تبعث الساعة ليلا إلى هؤلاء النفر فتدعوهم إلى البيعة والدخول في الطاعة ، فإن فعلوا قبلت منهم وكففت عنهم ، وإن أبوا قدّمتهم وضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية! فإنّهم إن علموا بموت معاوية وثب كلّ امرئ منهم في جانب وأظهر الخلاف والمنابذة ودعا الناس إلى نفسه (٤).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٣٨ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٣٢ بمعناه.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٤١.

(٣) تاريخ خليفة : ١٤٤.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ٣٣٩ عن أبي مخنف.

٥٥

مجلس الوليد ليلا :

فأرسل الوليد إلى ابن الزبير والحسين عليه‌السلام : عبد الله بن عمرو بن عثمان وهو إذ ذاك غلام حدث! وكأنّ الفصل كان صيفا ، وكان ابن الزبير بعد الصلاة قد قعد لدى الحسين عليه‌السلام في المسجد يتحدّثان ، فبحث عبد الله عنهما فدلّ على المسجد ووجدهما جالسين فيه يتحدّثان ، فوقف عليهما وقال لهما : أجيبا! الأمير يدعوكما! فقالا له : انصرف ؛ الآن نأتيه.

ثم قال ابن الزبير للحسين عليه‌السلام : ظنّ فيما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها؟

فقال الحسين عليه‌السلام : قد ظننت أنّ طاغيتهم قد هلك! فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشوا الخبر في الناس.

فقال ابن الزبير : وما أظنّ غيره ، فما تريد أن تصنع؟

قال الحسين عليه‌السلام : أجمع فتياني الساعة ثم أمشي إليه وأحتبسهم على الباب وأدخل عليه.

ثمّ قام فجمع إليه أهل بيته ومواليه وأقبل بهم يمشي حتّى انتهى إلى باب الوليد فقال لهم : إنّي داخل ، فإن دعوتكم ، أو سمعتم صوته قد علا فاقتحموا بأجمعكم عليّ ، وإلّا فلا تبرحوا حتى أخرج إليكم.

ثمّ دخل فسلّم عليه بالإمرة ، وكان مروان قبل هذا قد قاطع الوليد وجلس عنه لا يأتيه ، ورآه الحسين عليه‌السلام الليلة عند الوليد فقال : أصلح الله ذات بينكما فالصلة خير من القطيعة! فلم يجيباه في هذا بشيء! حتى جلس الحسين عليه‌السلام فأقرأه الوليد كتاب نعي معاوية ، ثمّ دعاه إلى البيعة.

فقال الحسين عليه‌السلام : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ...) أمّا ما سألتني من البيعة فإنّ مثلي لا يعطي بيعته سرّا ، ولا أراك تجتزئ بها منّي سرّا دون أن تظهرها على

٥٦

رؤوس الناس علانية! قال : أجل. قال : فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس فكان أمرا واحدا.

وكان الوليد يحبّ العافية من أمر الحسين عليه‌السلام فقال له : فانصرف على اسم الله حتّى تأتينا مع جماعة الناس.

فقال له مروان : والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا! حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه! احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتّى يبايع أو تضرب عنقه!

فوثب عند ذلك الحسين عليه‌السلام وقال له : يابن الزرقاء (١) أنت تقتلني أم هو؟! كذبت ـ والله ـ وأثمت (٢) ثمّ خرج إلى أصحابه فمشى معهم إلى منزله.

فقال مروان للوليد : عصيتني! لا والله لا يمكّنك من مثلها من نفسه أبدا.

قال الوليد : ويح غيرك يا مروان! إنّك اخترت لي التي فيها هلاك ديني! والله ما احبّ أنّ لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وأنّي قتلت حسينا! سبحان الله أأقتل حسينا أن قال : لا ابايع؟! والله إنّي لأظنّ امرءا يحاسب بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم القيامة!

فقال له مروان وهو غير حامد له رأيه : فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت فيما صنعت (٣)!

__________________

(١) الزرقاء بنت موهب امرأة الحكم بن العاص ، وكانت في الجاهليّة من المومسات ذوات الرايات كما في الكامل في التاريخ ٤ : ٧٥.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٣٩ عن أبي مخنف. والإرشاد ٢ : ٣٣ ، والخوارزمي ١ : ١٨٤ عن ابن الأعثم وزاد : إنّا أهل بيت النبوّة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومهبط الرحمة ، بنا فتح الله وبنا يختم! ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، قاتل النفس ، معلن بالفسق! فمثلي لا يبايع مثله! ولكن نصبح وتصبحون ، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة!

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٣٣٩ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٣٣ ـ ٣٤.

٥٧

الحسين عليه‌السلام في المسجد :

جاء في الخبر السابق عن أبي مخنف : أنّ ابن الزبير لما علم من الحسين عليه‌السلام أنّه لا ينكل عن المثول عند الوليد قال له : فإنّي أخافه عليك! قال عليه‌السلام : آتيه وأنا قادر على الامتناع منه بفتياني عند الباب. فلسان ابن الزبير هذا ترجمان عن نفسه أنّه لا يأمن من الحضور عند الأمير الأموي ، وكذلك كان ، فلقد جاء في تمام الخبر : أنّ ابن الزبير أيضا قال للرسول : انصرف والآن نأتيه ، إلّا أنّه أتى داره ولم يذهب إليه ، ولمّا أصبح انشغل الوليد عن الحسين عليه‌السلام بطلب ابن الزبير وأخذ يلحّ عليه بكثرة الرسل والرجال في إثر الرجال ، وبعث الوليد إليه مواليه فصاحوا به : يابن الكاهلية ؛ والله لتأتينّ الأمير أو ليقتلنّك! فقال : لا تعجلوني حتى أبعث إلى الأمير من يأتيني بأمره ورأيه! ثمّ بعث إليه أخاه جعفر بن الزبير يسأله أن يؤجّله إلى غد ، فأمهله ، فخرج هو وأخوه جعفر في جوف الليل من طريق الفرع إلى مكّة. فسرّح الوليد في طلبه ثمانين راكبا فلم يعثروا عليه فرجعوا.

وفي صبيحة جلسة الوليد وحين انشغالهم بابن الزبير ، خرج الحسين عليه‌السلام بين رجلين إلى المسجد النبويّ الشريف ، فسمعه المولى أبو سعيد كيسان المقبري المدني ، يتمثّل ببيتين ليزيد بن المفرّغ مولى حمير يقول :

لا ذعرت السّوام في فلق الصب

 ـ ح مغيرا ولا دعيت يزيدا

يوم اعطي من المهابة ضيما

والمنايا يرصدنني أن أحيدا (١)

قال المقبري : فقلت في نفسي : والله ما تمثّل بهذين البيتين إلّا لشيء يريده ، فما مكث إلّا يومين حتّى بلغني أنّه سار إلى مكّة (٢).

__________________

(١) أي : لا اريد أن أبقى حيّا أسوق السوائم صباحا وادعى باسمي يزيد ، إذا ما اعطى من نفسي ضيما من خوف عدوّي ، في حين أنّ منيّة الموت تراقبني أن أموت فأحيد عن الضيم.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٤٢ عن أبي مخنف ، وأنساب الأشراف ٣ : ١٦٠ ، الحديث ١٦٨.

٥٨

موقف ابن الحنفية :

طبيعيّ أن يكون ما فهمه المقبريّ قد فهمه غيره ولا سيّما من بني هاشم ، ومنهم أخو الحسين : محمّد بن علي المعروف بابن الحنفيّة ، وكان يعلم بحق أخيه الحسين عليه‌السلام في الخلافة بشرط أخيه الحسن عليه‌السلام على معاوية في عقد الصلح ، ويعرف استنكاف الحسين عليه‌السلام وإباءه البيعة ليزيد على عهد معاوية ، فما دعا أخاه الحسين عليه‌السلام إلى ذلك ، ولا إلى الإقامة بالمدينة وعدم خروجه منها ، وكأنّه كان يرجو اجتماع الناس عليه ويخاف من الاختلاف فيه وعليه ، فجاءه وقال له :

يا أخي ؛ أنت أحبّ الناس إليّ وأعزّهم عليّ ، فلست أدّخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بها منك : تنحّ ببيعتك عن يزيد ... وانزل مكّة ، فإن اطمأنّت بك الدار فسبيل ذلك ، وإن نبت لحقت بالرمال وشعف الجبال (رؤوسها) وخرجت من بلد إلى بلد ... و (تنحّ) عن الأمصار ما استطعت ، ثمّ ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك وانظر إلى ما يصير أمر الناس ... فإن بايعوك حمدت الله على ذلك ، وإن أجمعوا على غيرك ... لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ، ولا تذهب به مروءتك ولا فضلك (فلا تنازع في الأمر؟!).

فإنّي أخاف أن تدخل مصرا من هذه الأمصار (؟ البصرة والكوفة!) تأتي جماعة الناس فيختلفون فيما بينهم : فطائفة معك وأخرى عليك (كما صار إليه المصران) فيقتتلون ، فتكون لأوّل الأسنة غرضا (كما صار إليه أخونا في المدائن) فإذا خير هذه الأمّة أبا وأمّا ونفسا أذلّها أهلا وأضيعها دما! وإنّك حين تستقبل الأمور استقبالا (قبل وقوعها مفكّرا فيها ومدبّرا لها) تكون أصوب رأيا وأحزم عملا.

٥٩

فقال له الحسين عليه‌السلام : يا أخي ، قد أشفقت فنصحت ، فأرجو أن يكون رأيك سديدا موفّقا (١).

بلا ذكر أيّ عذر له لتخلّفه عنه عليه‌السلام ، ولا أي إعذار من أخيه الإمام له ، ولكن بلا دعوة منه ليكون معه.

نعي معاوية ، وابن عباس بمكة :

نقل ابن قتيبة : عن عتبة بن مسعود قال : كنّا بالمسجد الحرام ـ ولعلّه لعمرة رجب ـ إذ تلقّينا نعي معاوية ، فقمنا وأتينا إلى عبد الله بن عباس ، وكان على مكّة يومئذ خالد بن الحكم. فقلنا لابن عباس : يابن عباس أما علمت بالخبر؟ قال : ما هو؟ قلنا : هلك معاوية ... وجاء رسول خالد بن الحكم إلى ابن عباس : أن انطلق فبايع! فقال للرسول : أقرئ الأمير السلام وقل له : والله ما بقي فيّ ما تخافون منه (وكان قد عمي) فاقض ما أنت قاض ... قال عتبة الراوي : فما برحنا حتّى جاء رسول خالد فقال له : يقول لك الأمير : لا بدّ لك أن تأتينا! قال : فإن كان لا بدّ فلا بدّ مما لا بدّ منه! ثمّ نادى الجارية : يا نوار هلمّ ثيابي. وقال : وما ينفعكم إتيان رجل إن جلس (عن البيعة) لم يضركم؟ قال عتبة الراوي : فقلت له : أتبايع ليزيد وهو يشرب الخمر ويلهو بالقيان ويستهتر بالفواحش؟! فقال : وكم بعده من آت ممن يشرب الخمر

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٤١ ، عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٣٤ ـ ٣٥ ، والخوارزمي ١ : ١٨٨ عن ابن الأعثم وزاد وصيّة الإمام إلى أخيه ابن الحنفية : أمّا بعد فإنّي لم أخرج ... وفيها : وأسير بسيرة جدّي والخلفاء الراشدين بعده! وهذا «الراشدين» من المصطلحات التي روّج لها أحمد بن حنبل في القرن الثالث الهجري ، فلا سابقة له يومئذ!

٦٠