موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤١

فأتينا بالأمر الذي تسألونه وتسومونه ، أو كرهنا فرددناه. وإنّما أراد بذلك أن يردّهم عنه تلك العشيّة حتّى يأمر بأمره ويوصي أهله.

وحيث كان شمر هو الذي جاء بالإسراع ، وأصبح هو المباشر للقتال قال له عمر : يا شمر ما ترى؟

فقال شمر : أنت الأمير والرأي رأيك! فأقبل عمر على سائر الناس وقال لهم : ماذا ترون؟

وكان عمرو بن الحجاج معه فقال له : سبحان الله! والله لو كانوا من الديلم ثمّ سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم إليها!

وقال قيس بن الأشعث بن قيس الكندي لعمر : أجبهم إلى ما سألوك ، فلعمري ليصبحنّك غدوة بالقتال! فدعا ابن سعد رجلا وأمره أن يتقدّم إلى أصحاب الحسين عليه‌السلام ويسمعهم قوله : إنا قد أجّلناكم إلى غد ، فإن استسلمتم سرّحنا بكم إلى أميرنا عبيد الله بن زياد ، وإن أبيتم فلسنا بتاركيكم! فأتاهم وقام بحيث يسمع صوته وناداهم به وانصرف (١).

خطبة الإمام مساء التاسع :

ما عاد ابن سعد عن الحسين وأصحابه إلّا قرب المساء ، فبعد ما رجع عمر عنه جمع الحسين عليه‌السلام أصحابه ليخطبهم ، وكان عليّ بن الحسين السجّاد مريضا فرووا عنه قال : دنوت منه لأسمع أبي فسمعته يقول لهم :

أثني على الله ـ تبارك وتعالى ـ أحسن الثناء ، وأحمده على السرّاء والضرّاء. اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة ، وعلّمتنا القرآن ، وفقّهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة ولم تجعلنا من المشركين.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤١٧ عن أبي مخنف عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام ، والإرشاد ٢ : ٨٩ ـ ٩١.

١٤١

أما بعد ، فإني لا أعلم أصحابا أولى ولا خيرا من أصحابي! ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي! فجزاكم الله عنّي جميعا خيرا.

ألا وإني أظنّ يومنا من هؤلاء القوم غدا ، ألا وإنّي قد رأيت لكم ، فانطلقوا جميعا في حلّ ليس عليكم منّي ذمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملا!

ثمّ ليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي [و] تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتّى يفرّج الله! فإنّ القوم إنّما يطلبوني ، ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري.

فقال له أخوه العباس : لم نفعل [ذلك] ألنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبدا! ثمّ تكلّم بهذا ونحوه إخوته وابنه عليّ ، وبنو أخيه الحسن ، وابنا عبد الله بن جعفر. وكأنما لم يسمع الإمام عليه‌السلام من بني عمّه عقيل مثل ذلك فقال لهم : يا بني عقيل! حسبكم من القتل بمسلم ، اذهبوا قد أذنت لكم!

فقالوا : فما يقول الناس؟! يقولون : إنا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرب معهم بسيف! ولا ندري ما صنعوا! لا والله لا نفعل! ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا! ونقاتل معك حتّى نرد موردك! فقبّح الله العيش بعدك!

وكان مسلم بن عوسجة الأسدي قد التحق بالإمام عليه‌السلام من الكوفة قبل اليوم بلا خبر في كيفية ذلك ، فقام وقال : أنحن نخلّي عنك! ولمّا نعذر إلى الله في أداء حقّك! أما والله حتّى أكسر في صدورهم رمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي! ولا افارقك ، ولو لم يكن معي سلاح اقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت معك!

وكان سعيد بن عبد الله الحنفي أيضا قد التحق بالإمام عليه‌السلام بلا خبر في كيفية ذلك ، فقام وقال : والله لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا حفظنا غيبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيك ،

١٤٢

والله لو علمت أني اقتل ثمّ أحيا ثمّ احرق حيّا ثمّ اذرّ! يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك! فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا!

وقام زهير بن القين وقال : والله ليت أني قتلت ثمّ نشرت ثمّ قتلت ، حتّى اقتل كذا ألف قتلة ، وأنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك!

وقال آخرون من أصحابه : والله لا نفارقك! ولكنّ أنفسنا لك الفداء! نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا ، فإذا نحن قتلنا كنّا وفينا وقضينا ما علينا!

وتكلّم جماعة أصحابه في وجه واحد بكلام يشبه بعضه بعضا (١).

الإمام وزينب ليلة عاشوراء :

كان لأبي ذر الغفاري مولى يدعى حوي كان انتهى بعد وفاة أبي ذر إلى دار عليّ ثمّ الحسنين عليهم‌السلام ، فكان اليوم مع الحسين عليه‌السلام وانصرف الإمام بعد خطبته إلى خيمته وناول سيفه إلى حويّ هذا فكان يعالجه ويصلحه ، والإمام يقول :

يا دهر افّ لك من خليل

كم لك بالإشراق والأصيل

من صاحب أو طالب قتيل

والدهر لا يقنع بالبديل

وإنّما الأمر إلى الجليل

وكلّ حيّ سالك سبيلي

وأعادها مرّتين أو ثلاثا. فروى أبو مخنف عن السجّاد عليه‌السلام : أنّه كان جالسا عندئذ في خيمة مجاورة وعنده عمّته زينب تمرّضه وهي حاسرة ، وفهم هو

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤١٨ عن أبي مخنف عن زين العابدين وغيره ، وفي الإرشاد ٢ : ٩١ ـ ٩٣.

١٤٣

كلام أبيه وعرف ما أراد وعلم أنّ البلاء قد نزل! وخنقته عبرته ولكنّه ردّها ولزم السكون.

قال : فأمّا عمّتي فإنّها ـ وهي امرأة وفي النساء الرقّة والجزع ـ لمّا سمعت ما سمعت لم تملك نفسها دون أن وثبت إليه تجرّ ثوبها حتّى انتهت إليه (في خيمته ، ولعل المولى خرج) فنادت : وا ثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة! اليوم ماتت فاطمة امّي! وعليّ أبي ، وحسن أخي ، يا خليفة الماضي وثمال الباقي!

فقال لها الحسين عليه‌السلام : يا اخيّة! لا يذهبنّ بحلمك الشيطان!

فقالت : بأبي أنت وأمي يا أبا عبد الله! استقتلت نفسي فداك!

فقال لها : «لو ترك القطا لنام»!

فقالت : يا ويلتى! أفتغصب نفسك اغتصابا! فذلك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي!

ولطمت وجهها! وأهوت إلى جيبها فشقّته وخرّت مغشيا عليها!

فقام إليها الحسين عليه‌السلام فصبّ على وجهها الماء (كذا (١) ولمّا أفاقت) قال لها :

يا اخيّة! اتّقي الله! وتعزّي بعزاء الله! واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون ، وأنّ أهل السماء لا يبقون ، وأنّ كلّ شيء هالك إلّا وجه الله ، الذي خلق الأرض بقدرته ويبعث الخلق فيعودون وهو فرد وحده. أبي خير منّي وأمّي خير منّي ، وأخي خير منّي ، ولي ولكلّ مسلم برسول الله اسوة! يا اخيّة! إنّي اقسم عليك فأبرّي قسمي : لا تشقّي عليّ جيبا! ولا تخمشي عليّ وجها! ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت! ثمّ (أخذ بيدها) وجاء بها حتّى أجلسها عندي (٢).

__________________

(١) ولعلّه كان من آخر ما ادّخروه من العشرين قربة التي استقوها ليلة السابع ، ادّخروه للضرورات القصوى.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٤٢٠ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٩٣ ـ ٩٤.

١٤٤

الإمام وأصحابه ليلة عاشوراء :

ثمّ خرج الإمام عليه‌السلام إلى أصحابه فأمرهم أن يقلعوا الخيم ويقرّبوا بعضها من بعض حتّى تتداخل أطناب بعضها في بعض ويجعلوا موقفهم بينها من وجه عدوهم.

وأن يجمعوا ما أمكنهم من حطب وقصب إلى ماورائهم ، وكان وراءهم مكان منخفض كساقية ، فأمرهم أن يحفروه في ساعة من الليل حتّى يجعلوه كالخندق ، ثمّ يلقوا فيه ذلك الحطب والقصب ، حتّى إذا عدا عليهم الأعداء يلقون فيه النار كي لا يؤتوا من ورائهم ويقاتلوا القوم من وجه واحد (١).

ثمّ قاموا الليل كلّه يصلّون ويستغفرون ويدعون ويتضرّعون ، ويقرؤون القرآن.

وكان ابن سعد قد جعل عليهم خيلا تحرسهم (لئلّا يفرّوا!) وارتفع صوت الإمام عليه‌السلام بهذه الآيات : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ* ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ...)(٢) وكان صوته عاليا بحيث يسمعه القوم ، فسمعه منهم أبو حرب عبد الله بن شهر الهمداني السبيعي وكان بطّالا فاتكا مضحاكا حتّى أنّه حبس سابقا في جناية ، فرفع صوته قائلا : نحن وربّ الكعبة الطيّبون ميّزنا منكم!

وحيث كان من همدان عرفه الضحّاك بن عبد الله المشرقي الهمداني فعرّفه لابن عمّه برير بن حضير الهمداني ـ وكان التحق بالإمام عليه‌السلام من الكوفة بلا خبر في

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤٢٢ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٩٤.

(٢) آل عمران : ١٧٨ ـ ١٧٩.

١٤٥

كيفيته ـ فناداه برير : يا فاسق! أنت يجعلك الله في الطّيبين؟! فسأله أبو حرب : من أنت؟ قال : أنا برير بن حضير! قال أبو حرب : إنّا لله! عزّ عليّ! هلكت والله يا برير! قال برير : يا أبا حرب هل لك أن تتوب إلى الله من ذنوبك العظام! فو الله إنّا لنحن الطيّبون ولكنّكم لأنتم الخبيثون! فقال أبو حرب : وأنا على ذلك من الشاهدين! قال برير : قبّح الله رأيك! أنت سفيه على كل حال! وانصرف الرجل (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤٢٣ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٩٥.

١٤٦

أخبار عاشوراء

(١)

مقاتل أنصار سيد الشهداء عليه‌السلام

١٤٧
١٤٨

صبيحة يوم عاشوراء :

في يوم عاشوراء في كربلاء كان ربع تميم ومعهم همدان مع الحرّ بن يزيد الرياحي اليربوعي التميمي ، وربع كندة ومعهم ربيعة مع قيس بن الأشعث الكندي ، وربع مذحج ومعهم بنو أسد مع عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي المذحجي ، وربع أهل المدينة مع عبد الله بن زهير الأزدي.

وجعل ابن سعد على الخيل عزرة بن قيس الأحمسي ، وعلى الرّجالة شبث بن ربعي الرياحي التميمي ، وجعل على ميمنته عمرو بن الحجّاج الزبيدي ، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن الكلابي الضبابي ، وكانت راية ابن سعد بيد مولاه ذويد (١) وصلّى صلاة الغداة (الصبح) وخرج فيمن معه من الناس (٢).

فروى عن عليّ بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام قال : لمّا صبّحت الخيل الحسين عليه‌السلام رفع يديه فقال :

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤٢٢ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٩٥ ـ ٩٦.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٤٢١ عن أبي مخنف.

١٤٩

«اللهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب ، ورجائي في كلّ شدّة ، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة ، كم من أمر يضعف فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو ، أنزلته بك وشكوته إليك ، رغبة منّي عن من سواك ، ففرّجته وكشفته ، فأنت وليّ كلّ نعمة وصاحب كلّ حسنة ومنتهى كلّ رغبة» (١).

وأمر الإمام عليه‌السلام أن يضرموا النار في الحطب في الخندق خلفهم فأضرموها ، وبادر شمر الكلابي وهو كامل الأداة يركض فرسه حتّى دنا من معسكر الإمام فإذا هو لا يرى إلّا حطبا تلتهب فيه النار ، فرجع ونادى بأعلى صوته : يا حسين! استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة!

فقال الحسين عليه‌السلام لأصحابه : كأنّه شمر بن ذي الجوشن! فقالوا : نعم ، أصلحك الله ، هو هو.

فأجابه الإمام : يابن راعية المعزى! أنت أولى بها صليّا!

فقال مسلم بن عوسجة : يابن رسول الله ، جعلت فداك ، ألا أرميه بسهم فإنّه قد أمكنني والفاسق من أعظم الجبّارين! فقال له الحسين عليه‌السلام : لا ترمه ؛ فإنّي أكره أن أبدأهم (٢).

وكان الحسين عليه‌السلام بعد أن صلّى بأصحابه صلاة الغداة (الفجر) ومعه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا ، فأعطى رايته أخاه العباس ، وجعل على ميمنته زهير بن القين البجلي ، وعلى ميسرته حبيب بن مظاهر الأسدي (٣).

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٩٦ ، والطبري ٥ : ٤٢٣ عن أبي مخنف عن أبي خالد الكابلي أو الكاهلي وهو من أصحاب السجّاد عليه‌السلام.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٤٢٣ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٩٦.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٤٢٢ عن أبي مخنف.

١٥٠

الخطبة الأولى للإمام عليه‌السلام :

ولمّا دنا القوم من الإمام عليه‌السلام دعا براحلته (الناقة) فركبها ، ثمّ دنا منهم بين أخيه العباس وابنه علي الأكبر ، ثمّ ناداهم بأعلى صوته :

أيّها الناس ، اسمعوا قولي ، ولا تعجلوني حتّى أعظكم بما يحقّ لكم عليّ ؛ وحتّى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم! فإن قبلتم عذري وصدّقتم قولي ، وأعطيتموني النصف ، كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم عليّ سبيل ، وإن لم تقبلوا منّي العذر ، ولم تعطوا النصف من أنفسكم (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ)(١) ، (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)(٢).

ولما كان نداؤه بأعلى صوته سمعه جلّ الناس ، وسمعه أخواته وبناته فارتفعت أصواتهن حتّى بلغته ، فالتفت إلى أخيه العباس وابنه عليّ وقال لهما : سكّتاهنّ فلعمري ليكثرنّ بكاؤهن ؛ فذهبا فسكّتاهن.

ثمّ حمد الله وأثنى عليه وذكر الله بما هو أهله ، وصلّى على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلى ملائكته وأنبيائه ثمّ قال : أمّا بعد ، فانسبوني فانظروا من أنا؟ ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها ، فانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟! ألست ابن بنت نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ وابن «وصيّه» وابن عمّه ، وأوّل المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربّه؟! أو ليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي؟! أو ليس جعفر الشهيد الطيار ذو الجناحين عمّي؟!

__________________

(١) يونس : ٧١.

(٢) الأعراف : ١٩٦.

١٥١

أو لم يبلغكم قول مستفيض فيكم : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لي ولأخي : «هذان سيّدا شباب أهل الجنة»؟! فإن صدّقتموني بما أقول ، وهو الحق ، فو الله ما تعمّدت كذبا مذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله ويضرّ به من اختلقه ... وإن كذّبتموني! فإنّ فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم :

سلوا : جابر بن عبد الله الأنصاري ، أو أبا سعيد الخدري ، أو سهل بن سعد الساعدي ، أو زيد بن أرقم ، أو أنس بن مالك ، يخبروكم ، أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لي ولأخي ، أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟!

وكان شمر بن ذي الجوشن متقدّما نحو الإمام عليه‌السلام وخاف أن يتأثّر الناس بكلامه فقطعه يقول : من كان يدري ما تقول فهو ممّن يعبد الله على حرف (طرف) فتظاهر بهذا بعدم فهمه لكلام الإمام عليه‌السلام.

ولذلك أجابه حبيب بن مظاهر الأسدي بقوله : وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول (إذ) قد طبع الله على قلبك!

فقال الإمام عليه‌السلام : فإن كنتم في شكّ من هذا القول! أفتشكّون أثرا بعد؟! أما إنّي ابن بنت نبيّكم؟! فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري ، منكم ولا من غيركم ، أنا ابن بنت نبيّكم خاصة.

أخبروني أتطلبوني بقتيل منكم قتلته؟! أو مال استهلكته؟! أو بقصاص من جراحة؟! فأخذوا لا يكلّمونه ...

ورأى الإمام عليه‌السلام قوّادهم متقدّمين أمامه يسمعونه : شبث بن ربعي اليربوعي التميمي ، وحجّار بن أبجر العجلي ، وقيس بن الأشعث الكندي ، ويزيد بن الحارث الشيباني ، وكانوا ممّن كتبوا إليه أن يقدم إليهم وهو يعرفهم ، فخصّهم بالنداء وقال : ألم تكتبوا إليّ : أن «قد أينعت الثمار واخضّر الجناب ، وطمّت الجمام (ارتفعت مياه الحفر) وإنّما تقدم على جند لك مجنّد ، فأقبل»؟! فتنكّروا وانكروا وقالوا : لم نفعل! فقال : سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم! ثمّ التفت إلى الناس وقال :

١٥٢

أيّها الناس! إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض.

فقال له قيس الكندي : أو لا تنزل على حكم بني عمّك! فإنّهم لن يروك إلّا ما تحبّ! ولن يصل إليك منهم مكروه!

وكان الإمام عليه‌السلام يعرفه وقد بلغه قول أخيه محمّد مثل هذا القول لمسلم بن عقيل ، فقال له : أنت أخو أخيك (محمد) أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟! لا والله ، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقرّ إقرار العبيد (١)!

عباد الله! (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ)(٢) ، أعوذ (بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ)(٣).

ثمّ انصرف عنهم وأناخ راحلته وأمر عقبة بن سمعان أن يعقل الناقة فعقلها (٤).

وبهذا الكلام أتمّ الإمام عليه‌السلام حجّته عليهم أنّه لا يقرّ لهم كإقرار العبيد ولا يعطيهم إعطاء الذليل لمن هو متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب! وإنّما أجاب دعوتهم ، فليتركوه ليرجع عنهم إلى موضع يأمن فيه ، فهو يطالب بالأمان منهم دون الإخلال بأمنهم. أجل يقول هذا ـ إتماما للحجّة ـ وهو يعلم أنّهم لا يتركونه بأمان ، فقد أخبر وأخبر بذلك كما مرّ.

__________________

(١) كذا في الطبري عن الكلبي عن أبي مخنف عن الضحاك المشرقي الهمداني الذي انفلت من أصحاب الإمام عليه‌السلام ، ولكن في الإرشاد ٢ : ٩٨ : لا أفر فرار العبيد. وهو جواب الإمام لابن الأشعث وهو لم يعرض الفرار على الإمام وإنّما النزول على حكمهم ، فإنّما يناسبه : لا أقرّ ، وليس : لا أفرّ.

(٢) الدخان : ٢٠.

(٣) المؤمن : ٢٧.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ٤٢٤ ـ ٤٢٥ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٩٨.

١٥٣

خطبة زهير بن القين البجلي :

مرّ الخبر أنّ الإمام عليه‌السلام جعل زهير بن القين على ميمنته ، وسمع زهير كلام الإمام عليه‌السلام ، ورأى عدم تأثيره في القوم وجوابهم له ، ولكن ابن القين لم ييأس منهم ، وبإذن من الإمام عليه‌السلام وهو شاك في السلاح ركب فرسه وخرج إليهم حتّى وقف أمامهم وناداهم :

يا أهل الكوفة! نذار لكم من عذاب الله نذار! إنّ حقا على المسلم نصيحة أخيه المسلم ، ونحن (وأنتم) حتّى الآن إخوة وعلى دين واحد وملّة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف ، وأنتم أهل للنصيحة منّا ، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة (الرابطة) وكنّا امّة وأنتم أمّة.

إنّ الله قد ابتلانا (واختبرنا) وإياكم بذريّة نبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لينظر ما نحن وأنتم عاملون! إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد! فإنّكم لا تدركون منهما [من ابن زياد ويزيد] إلّا سوءا ، عمر سلطانهما كلّه : ليسملان أعينكم! ويقطّعان أيديكم وأرجلكم! ويمثّلان بكم! ويرفعانكم على جذوع النخل! ويقتّلان أماثلكم وقرّاءكم أمثال : حجر بن عدي وأصحابه ، وهانئ بن عروة وأشباهه!

فكرّروا عليه قولهم : والله لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومن معه! أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله سلما!

فقال لهم : عباد الله! إنّ ولد فاطمة (رضوان الله عليها) أحقّ بالودّ والنصر من ابن سميّة! فإن لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم! فخلّوا بين الرجل وبين ابن عمّه يزيد بن معاوية! فلعمري إنّ يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين.

وهنا مرّة ثانية خاف شمر بن ذي الجوشن من تأثير كلام زهير في القوم فبدأ برميه بأوّل سهم للقتال وقال : اسكت ، أسكت الله نأمتك (نغمتك) أبرمتنا بكثرة كلامك!

١٥٤

فأجابه زهير : يابن البوّال على عقبيه! ما إيّاك أخاطب ، إنّما أنت بهيمة! والله ما أظنّك تحكم من كتاب الله آيتين! فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم!

فأجابه شمر : إنّ الله قاتلك وصاحبك عن ساعة!

فأجابه زهير : أفبالموت تخوّفني! فو الله للموت معه أحبّ إليّ من الخلد معكم! ثمّ التفت إلى الناس وقال رافعا صوته : عباد الله! لا يغرّنكم عن دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه! فو الله لا تنال شفاعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قوما هراقوا دماء ذريّته و «أهل بيته» وقتلوا من نصرهم وذبّ عن حريمهم.

ورأى الإمام عليه‌السلام في هذا الكلام كفاية لإتمام الحجّة عليهم ، فأمر رجلا من أصحابه فنادى زهيرا من خلفه قال : إنّ أبا عبد الله يقول لك : أقبل ، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون (١) نصح لقومه وأبلغ في الدعاء ، فلقد نصحت لهؤلاء وأبلغت ، لو نفع النصح والإبلاغ (٢).

توبة الحرّ الرياحي وخطبته :

كان الحرّ الرياحي قد سمع بالخصال التي عرضها الإمام عليه‌السلام على القوم ، وكان لا يرى أنّ الأمر ينتهي بهم إلى قتال الحسين عليه‌السلام ، فلما زحف ابن سعد للقتال تقدّم إليه وسأله : أصلحك الله ، أمقاتل أنت هذا الرجل (الحسين)؟! قال عمر : إي والله قتالا أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي!

فقال الحرّ : أما لكم رضا في واحدة من الخصال التي عرض عليكم؟!

__________________

(١) شبّهه الإمام بمؤمن آل فرعون ، لأنه كان عثمانيّ الرأي والهوى ثمّ آمن بحق الحسين عليه‌السلام.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٤٢٦ عن أبي مخنف ، وليس في الإرشاد.

١٥٥

قال عمر : أما والله لو كان الأمر إليّ لفعلت ، ولكنّ أميرك قد أبى! فانصرف الحرّ عنه وعاد إلى موقفه ، وكان معه قرّة بن قيس التميمي من قوم الحرّ ، فسأله الحرّ : هل سقيت فرسك اليوم؟ قال : لا ، فقال الحرّ : أما تريد أن تسقيه؟ فقال قرّة : لم أسقه وأنا منطلق فساقيه ، وابتعد عن الحرّ ، وإنّما ظنّ أنّ الحرّ يريد أن يتنحّى فلا يشهد قتال الحسين عليه‌السلام فخاف أن يرفع تقريرا عليه!

ثمّ أخذ الحرّ يدنو من الحسين عليه‌السلام قليلا قليلا وهو يرتجف! ورآه المهاجر بن أوس التميمي من قومه فسأله : يابن يزيد ماذا تريد؟ أتريد أن تحمل؟! فما أجابه ، فقال له : يابن يزيد ؛ والله إنّ أمرك لمريب! والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل شيء أراه الآن ، ولو قيل لي : من أشجع رجل من أهل الكوفة لما عدوتك؟ فما هذا الذي أرى منك؟!

فأجابه الحرّ : والله إني اخيّر نفسي بين الجنة والنار! وو الله لا أختار على الجنّة شيئا ولو قطّعت وحرّقت! ثمّ ضرب فرسه فلحق بالحسين عليه‌السلام.

فلمّا دنا منه وهو راكب فرسه شاك في السلاح لم يعرف ، وقال للإمام : يابن رسول الله ، جعلني الله فداك! أنا صاحبك الذي حبسك عن الرجوع ، وسايرتك في الطريق ، وجعجعت بك في هذا المكان ، والله الذي لا إله إلّا هو ما ظننت أبدا أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم ، ولا أن يبلغوا منك هذه المنزلة ، فقلت (حينئذ) في نفسي : لا ابالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم فلا يرون أنّي خرجت من طاعتهم ، وأما هم فسيقبلون من حسين هذه الخصال التي يعرض عليهم ، وو الله لو ظننت أنّهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك.

وإنّي قد جئتك تائبا إلى ربّي ممّا كان منّي ، ومواسيا لك بنفسي حتّى أموت بين يديك! أفترى ذلك لي توبة!

فقال الإمام عليه‌السلام : نعم يتوب الله عليك ويغفر لك. وحيث لم يعرّف بنفسه وكان شاكيا في السلاح ما عرف فسأله : ما اسمك؟ قال : أنا الحرّ بن يزيد!

١٥٦

قال : أنت الحرّ كما سمّتك أمّك ، أنت الحرّ إن شاء الله في الدنيا والآخرة ، انزل. قال : أنا لك فارسا خير منّي راجلا ، اقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النزول يصير آخر أمري. فقال الحسين : فاصنع ما بدا لك. فبدا له أن يخطبهم فعاد إليهم ، وكان ابن سعد متقدّما فكلّمه بمثل ما كلّمه من قبل فقال عمر : قد حرصت ، ولو وجدت إلى ذلك سبيلا لفعلت! فالتفت إلى الناس وقال لهم :

يا أهل الكوفة! لأمّكم الهبل والعبر (الهلاك) إذ دعوتموه حتّى إذا أتاكم أسلمتموه! وزعمتم أنّكم قاتلو أنفسكم دونه ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه! أمسكتم بنفسه! وأخذتم بكظمه (حلقومه) وأحطتم به من كلّ جانب! فمنعتموه التوجّه في بلاد الله العريضة حيث يأمن ويأمن أهله! فأصبح في أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع ضرّا! وحلأتموه ونساءه وصبيته وأصحابه عن ماء الفرات الجاري ، الذي يشربه اليهوديّ والمجوسيّ والنصرانيّ! وتتمرّغ فيه خنازير السواد وكلابه! وها هم أولاء صرعهم العطش ، بئسما خلفتم محمّدا في ذرّيته! لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عمّا أنتم عليه في يومكم هذا وفي ساعتكم هذه!

فرماه رجّالتهم بالنبال ، فتراجع حتّى وقف أمام الإمام (١) كلّ ذلك قبل بدء القتال.

بدء القتال ومبارزة الكلبي :

كان عبد الله بن عمير الكلبي نازلا في الكوفة عند بئر الجعد من همدان ، ورأى الناس يعرضون ليسرّحوا للقتال فسأل عنهم فقيل له : يسرّحون إلى حسين بن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : والله لقد كنت حريصا على جهاد أهل

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤٢٧ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٩٩ ـ ١٠١.

١٥٧

الشرك ، وإني لأرجو أن لا يكون جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيّهم أيسر ثوابا عند الله من ثوابه لي في جهاد المشركين! ثمّ دخل داره إلى امرأته امّ وهب وأخبرها بما سمع ثمّ أعلمها بما يريد ، فقالت له : أصبت أصاب الله بك أرشد أمورك! افعل وأخرجني معك ، فلمّا كان الليل خرج وأخرجها معه حتّى التحق بالحسين عليه‌السلام.

وكان لزياد بن أبيه مولى يدعى يسار ، ولابن زياد مولى يدعى سالم ، وكانا قد خرجا مع ابن سعد ، ومعه مولاه ذويد وقد أعطاه رايته ، فناداه وقال : أدن رايتك ، أي قدّمها ، فقدّمها وتقدّم معها ابن سعد ثمّ وضع سهما في كبد قوسه ورمى وقال : اشهدوا أنّي أوّل من رمى! فترامى الرّماة ، إعلاما ببدء القتال.

ثمّ خرج يسار وسالم وقالا : من يبارز؟ ليخرج إلينا بعضكم. فوثب حبيب بن مظاهر الأسدي وبرير بن حضير الهمداني ليبارزاهما ، فلم يأذن لهما الإمام عليه‌السلام. فقام عبد الله بن عمير الكلبي وقال : يا أبا عبد الله رحمك الله ، ائذن لي فلأخرج إليهما. وكان رجلا طويلا شديد الساعدين بعيد ما بين المنكبين ، فقال الحسين : إنّي لأحسبه قتّالا للأقران ، إن شئت فاخرج. فخرج إليهما.

فقالا : ليخرج إلينا زهير بن القين أو حبيب بن مظاهر أو برير بن حضير ، فقال الكلبي ليسار! يابن الزانية! وبك رغبة عن مبارزة أحد من الناس؟ ولا يخرج إليك أحد من الناس إلّا وهو خير منك! ثمّ شدّ عليه فضربه بسيفه ، فشدّ عليه سالم حتّى غشيه فبدره بضربة ، فاتّقاه الكلبي بيساره فأطار أصابعه ، ثمّ مال عليه الكلبي فضربه فقتله ، وعاد وهو يقول :

إن تنكروني فأنا ابن كلب

حسبي بيتي في عليم حسبي

إنّي امرؤ ذو مرّة وعضب

ولست بالخوّار عند النكب

إنّي زعيم لك امّ وهب

بالطعن فيهم مقدما والضّرب

 ضرب غلام مؤمن بالربّ

١٥٨

فلمّا سمعته امرأته أمّ وهب أخذت عمودا من الخيمة وأقبلت نحوه تقول له : فداك أبي وأمي! قاتل دون الطّيبين ذريّة محمّد فأقبل عليها ليردّها إلى النساء فأخذت تجاذبه وتقول : إنّي لن أدعك دون أن أموت معك! فناداها الإمام عليه‌السلام : جزيتم عن أهل بيت خيرا! ارجعي رحمك الله إلى النساء فاجلسي معهنّ ، فإنّه يحرم على النساء قتال. فانصرفت إلى النساء (١).

الحملة الأولى :

وكان عمرو بن الحجّاج الزبيدي على ميمنة ابن سعد ، فمال بها على ميسرة الحسين عليه‌السلام وعليها حبيب بن مظاهر الأسدي ، فلمّا دنوا من أصحاب الحسين عليه‌السلام جثوا على ركبهم وأشرعوا رماحهم نحوهم ، فلم تقدم خيلهم على الرماح وتراجعت ، فرشقهم أصحاب الحسين عليه‌السلام فصرعوا منهم رجالا وجرحوا آخرين (٢).

وكرامة وهداية :

وكان من الحضرميّين مع ابن سعد أخوان هما : عبد الجبار ومسروق ابنا وائل الحضرمي ، وكان ابن زياد زاد في تطميع من يطيعه في قتل الحسين عليه‌السلام. فيروي عبد الجبار عن أخيه مسروق قال : قلت في نفسي : أكون في أوائل الخيل الذي سار إلى الحسين لعلّي أصيب رأسه فأصيب به منزلة عند ابن زياد! فلمّا

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤٢٩ ، ٤٣٠ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ١٠١ بدون خبر امرأته والتحاقه!

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٤٣٠ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ١٠٢.

١٥٩

انتهينا إلى الحسين تقدّم عبد الله بن حوزة التميمي ينادي أصحاب الحسين : أفيكم حسين؟! فلا يجيبونه حتّى قالها الثالثة ، فقال الحسين لهم : قولوا له : نعم ، هذا حسين ، فما حاجتك؟ فلما قالوا له ذلك قال : يا حسين! أبشر بالنار! فقال الحسين عليه‌السلام : كذبت ، بل أقدم على ربّ غفور وشفيع مطاع ، فمن أنت؟ قال : أنا ابن حوزة. فرفع الحسين يديه وقال : اللهمّ حزه إلى النار! فغضب الرجل وأقحم فرسه إليه ، فعلقت قدمه بالركاب وجالت به الفرس فسقط عنها فانقطعت قدمه وساقه وفخذه ، وبقي جانبه الآخر معلّقا بالركاب! ووقع رأسه في الأرض ونفر الفرس ، فأخذ يمرّ به فيضرب رأسه بكلّ حجر وشجر حتّى مات!

فلما رأى مسروق ذلك تراجع عن أوائل الخيل إلى ما ورائه ، فلما سأله أخوه عبد الجبار عن ذلك قال : لقد رأيت من أهل هذا البيت شيئا لا اقاتلهم أبدا (١)!

مباهلة برير ومقتله :

كان برير بن حضير الهمداني علويّ الرأي والهوى ، وكان في أيّام معاوية في بني دودان في الكوفة يماشي يزيد بن معقل العبدي ويقول له : إنّ عثمان بن عفان كان مسرفا على نفسه ، وإنّ إمام الحق والهدى عليّ بن أبي طالب ، وإنّ معاوية بن أبي سفيان ضالّ مضلّ.

وخرج يزيد بن معقل العبديّ من عسكر ابن سعد اليوم إلى أصحاب الحسين عليه‌السلام ونادى بريرا وقال له : كيف ترى صنع الله بك؟ قال برير : والله إنّ الله قد صنع بي خيرا وصنع الله بك شرّا!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤٣٠ ـ ٤٣١ عن أبي مخنف ، ومختصره في الإرشاد ٢ : ١٠٢.

١٦٠