موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤١

كان ابن الزبير يظهر أنّه عائذ بالبيت ويبايع الناس سرّا ، فلمّا قتل الحسين عليه‌السلام قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قال : إنّ أهل العراق غدر فجر إلّا قليلا ، وإنّ أهل الكوفة شرار أهل العراق ؛ فإنّهم دعوا حسينا لينصروه ويولّوه عليهم ، فلمّا قدم عليهم ثاروا إليه وقالوا له : إمّا أن تضع يدك في أيدينا فنبعث بك إلى ابن زياد بن سمية سلما فيمضي فيك حكمه ؛ وإمّا أن تحارب! فرأى أنّه هو وأصحابه قليل في كثير ... ولكنّه اختار الميتة الكريمة على الحياة الذميمة. فرحم الله حسينا ، وأخزى قاتل حسين!

ثمّ قال : أفبعد الحسين نطمئن إلى هؤلاء القوم ونصدّق قولهم ونقبل لهم عهدا؟! لا ولا نراهم أهلا لذلك! أما والله لقد قتلوه طويلا بالليل قيامه كثيرا في النهار صيامه ، أحقّ بما هم فيه منهم وأولى به ، في الدين والفضل! أما والله ما كان يبدّل بالقرآن الغناء! ولا بالبكاء من خشية الله الحداء! ولا بالصيام شرب الحرام! ولا بالمجالس في حلق الذكر الرّكض في تطلاب الصيد! فسوف يلقون غيّا! يعرّض بيزيد.

وثار إليه أصحابه وقالوا له : أيّها الرجل ؛ إذ هلك حسين فإنّه لم يبق أحد ينازعك هذا الأمر! فأظهر بيعتك! فقال لهم : لا تعجلوا.

ولما استقرّ عند يزيد ما جمع ابن الزبير حوله بمكّة ، عاهد الله ليوثقنّه في سلسلة ، ثمّ أعدّ سلسلة من فضة وبرنس خزّ ودعا ابن عضاه الأشعري ومسعدة ومعهما جمع وأرسلهم إليه ليأتوا به إليه في جامعة فضة ليبرّ يمينه ، فمرّوا بالمدينة فبعث معهم مروان بابنيه عبد الملك وعبد العزيز ، فردّهم ردّا رفيقا (١).

وقال اليعقوبي : إنّ ابن الزبير أجاب ابن عضاه الأشعري بجواب غليظ! فقال له ابن عضاه : إنّ الحسين بن عليّ كان أجلّ قدرا في الإسلام وأهله من قبل

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤٧٤ ـ ٤٧٧ عن أبي مخنف.

٢٢١

وقد رأيت حاله! يهدّده بمصير الحسين ، فقال له ابن الزبير : إنّ الحسين بن عليّ خرج إلى من لا يعرف حقّه! وإنّ المسلمين قد اجتمعوا عليّ! فقال له : فهذا ابن عباس وابن عمر لم يبايعاك. وانصرف عنه (١).

وعمرو بن سعيد يومئذ عامل مكّة والمدينة ، فكان مع شدّته عليه يداريه ويرفق به. فوفد الوليد بن عتبة وناس معه إلى يزيد وقالوا له : لو شاء عمرو بن سعيد لأخذ ابن الزبير وبعث به إليك. فسرّح الوليد أميرا على الحجاز وعزل عمرا لهلال ذي الحجة موسم سنة إحدى وستين (٢).

وكما تمرّد ابن الزبير بعد قتل الحسين عليه‌السلام كذلك تمرّد باليمامة نجدة بن عامر الحنفي في بني حنيفة من تميم ، وحجّ بهم ، وحجّ ابن الزبير بأصحابه ، وحجّ الوليد ، ولم يتّبعاه في الموسم (٣).

يزيد ، بعد الحسين الشهيد :

قال السيوطي الشافعي : لما قتل ابن زياد الحسين وبني أبيه وبعث برؤوسهم إلى يزيد سرّ بقتلهم أوّلا ، ثمّ لمّا مقته المسلمون وأبغضه الناس على ذلك ندم. ثمّ نقل عن «مسند أبي يعلى» عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا يزال أمر أمّتي قائما بالقسط حتّى يكون أوّل من يثلمه رجل من بني أميّة يقال له : يزيد» وضعّف سنده (٤) ولكنّه قال : لعن الله قاتل الحسين وابن زياد معه ويزيد أيضا (٥).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٤٧.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٤٧٧.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٤٧٩.

(٤) تاريخ الخلفاء : ٢٤٨.

(٥) تاريخ الخلفاء : ٢٤٧.

٢٢٢

وروى البلاذري قال : كتب يزيد إلى ابن زياد : أمّا بعد ، فزد أهل الكوفة أهل السمع والطاعة في اعطياتهم مئة مئة (١).

وحكى المسعودي : أنه بعد قتل الحسين عليه‌السلام جلس ذات يوم على شرابه وقد دعا إليه ابن زياد فأجلسه عن يمينه وأقبل على ساقيه وقال له :

اسقني شربة تروّي مشاشي

ثمّ مر فاسق مثلها ابن زياد

صاحب السرّ والأمانة عندي

ولتسديد مغنمي وجهادي

ثمّ أمر المغنّين فغنّوا له بها. وغلب على أصحاب يزيد وعمّاله ما كان يفعله من الفسوق ، وفي أيّامه ظهر الغناء بمكّة والمدينة واستعملت الملاهي وأظهر الناس شرب الشراب!

وكان يزيد صاحب جوارح وكلاب ، وفهود وقرود! وكان له قرد يكنّيه بأبي قيس! يحضره مجلس منادمته ويطرح له متّكئا! وكان قردا خبيثا ، وكان يحمله على أتان وحشيّة قد ريّضت وذلّلت لذلك بسرج ولجام ، ويسابق بها الخيل يوم حلبة السباق ، وكان يلبس قرده أبا قيس قباء مشمّرا من الحرير الأحمر والأصفر ، ويجعل على رأسه قلنسوة بشقائق من الحرير ذات ألوان ، وعلى الأتان سرج من الحرير الأحمر منقوش ملمّع بألوان ، فسبق يوما على الخيل فتناول قصب السباق ودخل في الحجرة ، فقال في ذلك اليوم بعض شعراء الشام :

تمسّك أبا قيس بفضل عنانها

فليس عليها إن سقطت ضمان!

ألا من رأى القرد الذي سبقت به

جياد أمير المؤمنين! أتان (٢)

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣ : ٢٢٦ ـ ٢٢٧ ، الحديث ٢٢٧.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٦٧ ـ ٦٨.

٢٢٣

ومع هذا لم يعدم من تملّق له فنقل لعمر بن عبد العزيز قولا عن يزيد ولقّبه بأمير المؤمنين! فأنكر عليه عمر وقال له : أتقول له أمير المؤمنين؟! ثمّ أمر أن يضرب عشرين سوطا! فضرب (١).

يزيد ، وبنو زياد :

إزداد زياد من الأزواج والأولاد ، فقد ذكروا له أكثر من أربعين : أكثر من عشرين بنتا وعشرين بنين (٢) عبيد الله على العراقين ، وأخوه عبد الرحمان على خراسان ، وأخوه عبّاد على سجستان في ثغر البلاد. وقد مرّ الخبر عن تولية عبيد الله البصرة لمّا وفد على معاوية ، فاليوم وفد أخوه سلم على يزيد بعد قتل الحسين عليه‌السلام ، وهو ابن أربع وعشرين سنة ، وكأنّ يزيد أحبّ أن يلقي بأسهم بينهم فقال له : اولّيك عمل أخويك عبد الرحمان وعبّاد؟ فقال : ما أحبّ أمير المؤمنين! فولّاه خراسان وسجستان.

وكان ابن زياد كأنّه عاد من الشام بعد الكوفة إلى البصرة ، فقدم عليه أخوه سلم بكتاب يزيد إليه بنخبة ألفي رجل ـ إلى ستة آلاف ـ لسلم ، فكان سلم ينتخب الوجوه والفرسان لديوانه خلقا كثيرا من فرسان البصرة وأشرافهم. ووجّه أخاه يزيد بن زياد إلى سجستان ، وكان عبيد الله يحبّ عبّادا فكتب إليه يخبره بولاية سلم ، فقسّم عبّاد ما في بيت ماله وخرج من سجستان وخرج منها إلى جيرفت ثمّ إلى فارس حتّى قدم على يزيد بن معاوية وأخبره بتقسيمه ما أصاب بين الناس ، فلم يؤاخذه!

__________________

(١) تاريخ الخلفاء : ٢٤٨ ـ ٢٤٩.

(٢) المعارف لابن قتيبة : ٣٤٧.

٢٢٤

وتجهّز سلم وسار إلى خراسان ، فأخذ الحارث بن قيس السّلمي عامل أخيه عبد الرحمان بن زياد وأقامه في سراويله يطالبه بالمال! وكان عمّال خراسان إذا دخل الشتاء عادوا من مغازيهم إلى بلدة مرو ، ويجتمع ملوك خراسان في بلد من بلاد خوارزم ، وكان مع سلم المهلّب بن أبي صفرة ، فسأله أن يوجّهه إليهم فوجّهه في أربعة آلاف ، فحاصرهم وصالحهم على نيّف وعشرين ألف ألف ، فبلغ قيمة ما أخذ منهم خمسين ألف ألف ، فاصطفى سلم منه ما أعجبه وبعث بعمدته مع مرزبان مرو في وفد إلى يزيد بالشام ، ثمّ عبر إلى سمرقند فصالحه أهلها (١).

ولعلّه لهذا قال الأحوص الشاعر في تملّك يزيد وانقياد الناس لملكه وتجبّره :

ملك تدين له الملوك ، مبارك!

كادت لهيبته الجبال تزول

تجبى له بلخ ، ودجلة كلّها

وله الفرات وما سقى ، والنيل (٢)

وفي اليعقوبي : ولّى يزيد : سلم بن زياد خراسان فصار إليها ومعه عدة من أشراف (البصرة) وأقام بنيسابور ثمّ صار إلى خوارزم ففتحها ، ثمّ صار إلى بخارى.

وكان ملكهم امرأة تدعى خاتون ، فلمّا رأت كثرة جمع سلم هالها ذلك فكتبت إلى ملك السغد طرخون : أقبل إليّ لتملك بخارى وتتزوّجني! فأقبل إليها في مئة وعشرين ألفا ، فلمّا بلغ سلم بن زياد إقبال طرخون وجّه المهلّب بن أبي صفرة طليعة له فخرج إليهم ، فلمّا أشرفوا على عسكر طرخون زحف أصحاب طرخون إليهم والتحم القتال ، فرشقهم المسلمون بالنبال فأصابوا طرخون فقتل

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤٧١ ـ ٤٧٤.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٦٨.

٢٢٥

وانهزموا فقتل منهم كثير ، وغنم المسلمون كثيرا ، حتّى بلغت سهامهم للفارس ألفان وأربعمئة وللراجل ألف ومئتان.

ولم يزل سلم بخراسان حتّى بلغه موت يزيد (في ٦٤ ه‍) فكتمه حتّى ذاع فاستخلف على خراسان عبد الله بن خازم السلمي وعاد ، وأقام ابن خازم بخراسان يفعل الأعاجيب! وسار سليمان إلى هراة ، ووثب أوس بن ثعلبة بالطالقان يحاربهم وينتصر عليهم (١).

إجلاء زينب ووفاتها :

لمّا عادت زينب بنت عليّ عليه‌السلام إلى المدينة من الشام مع النساء والأيتام ، كانت تؤلّب الناس بالمدينة على القيام بأخذ ثار الحسين عليه‌السلام فلمّا بدأ ابن الزبير بمكّة بحمل الناس على خلع يزيد والأخذ بثار الحسين عليه‌السلام وبلغ ذلك إلى أهل المدينة ، أخذت زينب تخطبهم وتؤلّبهم على القيام بأخذ الثار ، وبلغ ذلك عمرو بن سعيد الأشدق ، فثارت فتنة بينها وبين الأشدق والي المدينة من قبل يزيد ، فكتب إلى يزيد يعلمه بالخبر ويشير عليه بنقلها من المدينة. فكتب يزيد إليه أن فرّق بينها وبينهم.

فأمر الأشدق أن ينادى عليها بالخروج من المدينة إلى حيث تشاء!

فأبت زينب وقالت : قد علم الله ما صار إلينا : قتل خيرنا ، وسقنا كما تساق الأنعام! وحملنا على الأقتاب! فو الله لا خرجنا وإن اهرقت دماؤنا!

فاجتمع إليها نساء بني هاشم وتلطّفن معها في الكلام وواسينها ، وكلّمتها منهنّ زينب بنت عقيل بن أبي طالب قالت لها : يا ابنة عمّاه ؛ قد صدقنا الله وعده ، وأورثنا الأرض نتبوّأ منها حيث نشاء ، فطيبي نفسا وقرّي عينا ، وسيجزي الله

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٥٢.

٢٢٦

الظالمين! أتريدين هوانا بعد هذا! فاجلي إلى بلد آمن (؟) وواسى معها للخروج والجلاء ابنتا أخيها الحسين عليه‌السلام : سكينة وفاطمة.

فجهّز الأشدق لها ولمن أراد السفر معها من نساء بني هاشم ، وتعيّن المصير إلى مصر. ولم يورّخ لخروجها وإنّما جاء : فقدمت (الفسطاط ـ القاهرة القديمة) لأيّام بقين من ذي الحجة الحرام لآخر عام إحدى وستين ، وسيأتي عزل الأشدق لهلال ذي الحجّة فيعلم أنّ إخراجها كان قبله.

وروى العبيدلي الأعرجي الحسيني (م ٢٧٧ ه‍) بسنده عن رقيّة بنت عقبة ابن نافع الفهري أنّها كانت فيمن استقبل زينبا عليها‌السلام لمّا قدمت مصر ، فتقدّم إليها مسلمة بن مخلّد الأنصاري الخزرجي (قاتل ابن أبي بكر) وعبد الله بن الحارث وأبو عميرة المزني ، وعزّاها مسلمة وبكى فبكت وبكى الحاضرون وتلت قوله سبحانه : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)(١) ثمّ احتملها مسلمة الوالي إلى داره بالحمراء القصوى. فأقامت به أحد عشر شهرا وخمسة عشر يوما ثمّ توفّيت ، وصلّى عليها مسلمة بن مخلّد في جمع بالجامع ، وكانت قد أوصت أن يدفنوها في مخدعها من دار مسلمة ، ونفّذ مسلمة الوصية فرجعوا بها حتّى دفنوها بمخدعها من الدار بالحمراء القصوى بوصيّتها ، حيث بساتين عبد الله بن عبد الرحمان بن عوف الزهري.

وكان وفاتها عشية يوم الأحد لخمسة عشر يوما مضت من رجب سنة (٦٢) من الهجرة (٢).

__________________

(١) يس : ٥٢.

(٢) كذا في النسخة ، والصحيح : (٦٣ ه‍) وفقا لما مرّ من تاريخي قدومها الفسطاط وإقامتها بها ، والأخبار عن رسالة أخبار الزينبات للعبيدلي النسّابة ، المنشورة ضمن كتاب السيّدة زينب لحسن محمّد قاسم ، ط. المنيرية : ٢١ ـ ٢٢ ، فوفاتها كان قبل وقعة الحرّة ، كما يأتي ، وانظر ترجمة مسلمة في قاموس الرجال ١٠ : ٧٢ / ٧٥٤٧.

٢٢٧

الوليد وعمرو بن سعيد :

ثمّ إنّ الوليد بن عتبة وناسا معه من بني أميّة قالوا ليزيد : لو شاء عمرو بن سعيد لأخذ ابن الزبير ، فلموسم الحجّ لسنة إحدى وستين عيّن يزيد الوليد بن عتبة فحجّ ولم يتّبعه فيه ابن الزبير وأصحابه ونجدة الحنفي وأصحابه. ورجع من الحجّ إلى المدينة وخرج عمرو بن سعيد إلى بعد ليلتين منها ، وكان مواليه وغلمانه نحوا من ثلاثمئة رجل! فأخذهم الوليد وحبسهم وأبى أن يخلّيهم! فبعث عمرو رسولا إلى المدينة بأموال ليشتري لكلّ رجل منهم جملا وأداة وحقيبة فينيخ الجمال في السوق ثمّ يخبرهم فيكسروا باب سجنهم ويركبوا الجمال إلى عمرو ، ففعل رسوله ذلك وخرجوا إليه ، فخرج بهم إلى يزيد في الشام ، واعتذر إليه فقبل عذره (١).

يزيد ، وابن عباس :

مرّ الخبر عن بيعة ابن عباس ليزيد (٢) فلعلّ ذلك هو الذي أطمع ابن الزبير فيها منه ولا سيّما بعد مقتل الحسين عليه‌السلام ، فأرسل إليه : أنا أولى من يزيد الفاسق الفاجر وقد علمت سيرته وسوابق معاوية ، وعلمت سيرتي وسوابق أبي الزبير مع رسول الله! ودعاه إلى بيعته. فقال ابن عباس : ما لي ولهذا وإنّما أنا رجل من المسلمين ، والفتنة قائمة وباب الدماء مفتوح! وامتنع عليه.

وبلغ ذلك إلى يزيد فكتب إليه : أمّا بعد ؛ فقد بلغني أنّ الملحد في حرم الله دعاك لتبايعه فأبيت عليه وفاء منك لنا! فانظر من بحضرتك من أهل بيتك ومن يرد عليك من البلاد فأعلمهم حسن رأيك فينا وفي ابن الزبير! وأنّ ابن الزبير إنّما

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤٧٧ ـ ٤٧٩.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ٢٠٣.

٢٢٨

دعاك إلى طاعته والدخول في بيعته لتكون له على الباطل ظهيرا وفي المأثم شريكا! وقد اعتصمت ببيعتنا طاعة منك لنا ولما تعرف من حقّنا! فجزاك الله من ذي رحم خير ما جزى به الواصلين أرحامهم والموفين بعهدهم! فما أنس من الأشياء فما أنا بناس برّك وتعجيل صلتك بالذي أنت أهله! فانظر من يطلع عليك من الآفاق فحذّرهم زخارف ابن الزبير وجنّبهم لقلقة لسانه! فإنّهم منك أسمع ولك أطوع ، والسلام (١).

جواب ابن عباس ليزيد :

فكتب إليه ابن عباس : من عبد الله بن عباس إلى يزيد بن معاوية. أما بعد ؛ فقد بلغني كتابك تذكر دعاء ابن الزبير إياي إلى نفسه وامتناعي عليه في الذي دعاني إليه من بيعته. فإن يك ذلك كما بلغك ، فلست أردت حمدك ولا ودّك ، والله بما أنوي عليم.

وزعمت أنّك لست بناس ودّي! فلعمري ما تؤتينا ممّا في يديك من حقّنا إلّا القليل ، وإنّك لتحبس عنّا منه العريض الطويل.

وسألتني أن أحثّ الناس عليك وأخذّلهم عن ابن الزبير. فلا ، ولا سرورا ولا حبورا! وأنت قتلت الحسين بن عليّ ، بفيك الكثكث ولك الأثلب (٢) إنّك ـ إن تمنّك نفسك ذلك ـ لعازب الرأي! وإنّك لأنت المفنّد المتهوّر! لا تحسبني ـ لا أبالك ـ نسيت قتلك حسينا وفتيان بني عبد المطلب : مصابيح الدجى ونجوم

__________________

(١) تذكرة الخواص ٢ : ٢٣٧ عن ابن إسحاق! والواقدي والكلبي ، وفي مقتل الخوارزمي ٢ : ٧٧ ، مسندا عن الأعمش.

(٢) الكثكث : التراب ، والإثلب كذلك.

٢٢٩

الأعلام ، غادرهم جنودك مصرّعين في صعيد ، مرمّلين بالتراب ، مسلوبين بالعراء لا مكفّنين ، تسفى عليهم الرياح ، وتعاورهم الذئاب ، وتنشي بهم عرج الضّباع! حتّى أتاح الله لهم أقواما لم يشتركوا في دمائهم ، فأجنّوهم (ستروهم) في أكفانهم ، وبي ـ والله ـ وبهم عززت وجلست مجلسك الذي جلست يا يزيد!

وما أنس من الأشياء فلست بناس تسليطك عليهم الدّعيّ العاهر ابن العاهر ، البعيد رحما ، اللئيم أبا وأمّا ، الذي في ادّعاء أبيك إيّاه ما اكتسب أبوك به إلّا العار والخزي والمذلّة في الآخرة والأولى ، وفي الممات والمحيا ؛ فإنّ نبيّ الله قال : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» فألحقه بأبيه كما يلحق بالعفيف النقيّ ولده الرشيد! وقد أمات أبوك السنّة جهلا ، وأحيا البدع والأحداث المضلّة عمدا!

وما أنس من الأشياء فلست بناس اطّرادك الحسين بن عليّ من حرم رسول الله إلى حرم الله ، ودسّك إليه الرجال تغتاله ، فأشخصته من حرم الله إلى الكوفة ، فخرج منها خائفا يترقّب ، وقد كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديما ، وأعزّ أهلها بها حديثا ، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين لو تبوّأ بها مقاما واستحلّ بها قتالا ، ولكن كره أن يكون هو الذي يستحلّ حرمة البيت وحرمة الحرم ، فأكبر من ذلك ما لم تكبر حيث دسست إليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم ، وما لم يكبر ابن الزبير ، حيث ألحد بالبيت الحرام ، وعرّضه للعائر وأراقل العالم ، وأنت ـ لأنت ـ المستحلّ فيما أظنّ بل لا شك فيه : أنّك للمحرّف العريف ، فإنّك حليف نسوة وصاحب ملاه! فلما رأى (الحسين) سوء رأيك شخص إلى العراق ولم يبتغك ضرابا! وكان أمر الله قدرا مقدورا.

ثمّ إنك الكاتب إلى ابن مرجانة أن يستقبل حسينا بالرجال ، وأمرته بمعاجلته ـ وترك مطاولته ـ والإلحاح عليه حتّى يقتله ومن معه من بني عبد المطلب : أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا! فنحن أولئك ، لسنا كآبائك الأجلاف الجفاة الأكباد ، الحمير.

٢٣٠

ثمّ طلب الحسين بن علي إليه (ابن مرجانة) الموادعة والرجعة ، فاغتنمتم قلّة أنصاره واستئصال أهل بيته ، فعدوتم عليهم ، فقتلوهم كأنّما قتلوا أهل بيت من الترك والكفر!

فلا شيء أعجب عندي من طلبك ودّي ونصري وقد قتلت بني أبي وسيفك يقطر من دمي ، وأنت مأخذ ثأري ، فإن يشأ الله لا يطلّ لديك دمي ولا تسبقني بثأري ، وإن سبقتني به في الدنيا فقبلنا ما قتل النبيّون وآل النبيّين ، وكان الله الموعد ، وكفى به للمظلومين ناصرا ومن الظالمين منتقما ، فلا يعجبنّك إن ظفرت بنا اليوم فو الله لنظفرنّ بك يوما!

وأمّا ما ذكرت من وفائي وما زعمت من حقّي ؛ فإن يك ذلك كذلك فقد والله بايعت أباك وإنّي لأعلم أن ابني عمّي (الحسنين) وجميع بني أبي أحقّ بهذا الأمر من أبيك! ولكنّكم ـ معاشر قريش ـ كاثرتمونا فاستأثرتم علينا سلطاننا ودفعتمونا عن حقّنا ، فبعدا لمن تحرّى ظلمنا واستغوى السفهاء علينا وتولّى الأمر دوننا ، بعدا لهم كما بعدت ثمود وقوم لوط وأصحاب مدين ومكذّبوا المرسلين.

ألا ومن أعجب العجب ـ وما عشت أراك الدهر العجيب ـ حملك بنات عبد المطلب وغلمة صغارا من ولده إليك بالشام ، كالسبي المجلوب! تري الناس أنّك قهرتنا وأنت تمنّ علينا! ولعمري لئن كنت تصبح وتمسي آمنا من جرح يدي إنّي لأرجو أن يعظم جراحك بلساني ونقضي وإبرامي ، فلا يستمرّ بك الجذل (الفرح) ولا يمهلك الله بعد قتلك عترة رسول الله إلّا قليلا حتّى يأخذك أخذا أليما فيخرجك الله من الدنيا ذميما أثيما! فعش لا أبالك! فقد ـ والله ـ أرداك عند الله ما اقترفت! والسلام على من أطاع الله (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٤٨ ـ ٢٥٠ ، وأسنده في مقتل الخوارزمي ٢ : ٧٧ ـ ٧٩ ، وبسنده في بحار الأنوار ٤٥ : ٣٢٣ ـ ٣٢٥.

٢٣١

وزاد السبط عن الواقدي قال : فلما قرأ كتابه يزيد أخذته العزّة بالإثم وهمّ بقتل ابن عباس ، ولكنّه شغله عنه أمر ابن الزبير (١).

يزيد ، وابن الحنفية :

وطمع يزيد بعد اليأس من ابن عباس في محمّد بن الحنفية ، وكان بالمدينة ، فكتب إليه :

أمّا بعد ، فإنّي أسأل الله لي ولك عملا صالحا يرضى به عنّا! فإنّي ما أعرف اليوم في بني هاشم رجلا هو أرجح منك علما وحلما! ولا أحضر منك فهما وحكما ، ولا أبعد منك عن كلّ سفه ودنس وطيش! وليس من يتخلّق بالخير تخلّقا وينتحل بالخير تنحّلا كمن جبله الله على الخير جبلا ، وقد عرفنا ذلك كلّه منك قديما وحديثا شاهدا وغائبا.

غير أنّي قد أحببت زيارتك والأخذ بالحظّ من رويتك! فإذا نظرت في كتابي هذا فأقبل إليّ آمنا مطمئنا. أرشدك الله أمرك. وغفر لك ذنبك! والسلام عليك ورحمة الله وبركاته (٢).

وكان لابن الحنفيّة عشرة بنين (٣) لم يحضر أحد منهم مع عمّهم الحسين عليه‌السلام! سمّي أحدهم باسم جدّه لأمّه جعفر ، والآخر عبد الله. فلمّا جاءه الكتاب وقرأه استشارهما في ذلك.

فقال له ابنه جعفر : يا أبة إنّه قد طمأنك وألطفك في كتابه إليك!

__________________

(١) تذكرة الخواص ٢ : ٢٣٧ ـ ٢٤٠. وسيأتي ما يدلّ على بيعة ابن عباس لابن الزبير!

(٢) مقتل الخوارزمي ٢ : ٧٩.

(٣) المعارف لابن قتيبة : ٢١٦.

٢٣٢

ولا أظنّه يكتب إلى أحد من قريش بأن «أرشدك الله أمرك وغفر ذنبك» فأنا أرجو أن يكفّ الله شرّه عنك.

فسار ابن الحنفية (ببنيه) حتّى قدم الشام على يزيد ، فلمّا استأذن أذن له وقرّبه وأدناه حتّى أجلسه معه على سريره ، ثمّ أقبل عليه بوجهه وقال له : يا أبا القاسم ؛ آجرك الله وإيّاك في أبي عبد الله الحسين! فو الله لئن كان أوجعك فقد أوجعني! ولو كنت أنا المتولّي لحربه لما قتلته بل لدفعت القتل عنه ولو بجزّ أصابعي وذهاب بصري! ولفديته بجميع ما ملكت يدي! وإن كان نازعني حقّي وقطع رحمي وظلمني! ولكن عبيد الله بن زياد لم يعلم رأيي فيه من ذلك فعجّل عليه وقتله ولم يستدرك ما فات! وبعد فإنّه لم يكن يجب (يجوز!) على أخيك أن ينازعنا في أمر خصّنا الله به دون غيرنا! وليس يجب علينا أن نرضى بالدنيّة في حقّنا! وعزيز عليّ ما ناله! وهات ما عندك الآن يا أبا القاسم!

فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : قد سمعت كلامك ، ورحم الله حسينا وبارك الله له فيما صار إليه من ثواب ربّه والخلد الدائم الطويل في جوار الملك الجليل. وقد علمنا أنّ ما عرانا من ترح فقد عراك وأنّ ما نقصنا فقد نقصك! وكذا أظنّ أن لو شهدت ذلك بنفسك لاخترت أفضل الرأي والعمل! ولجانبت أسوأ الفعل والخطل!

والآن فإنّ حاجتي إليك أن لا تسمعني فيه ما أكره ؛ فإنّه ابن أبي وأخي وشقيقي ؛ وإن زعمت أنّه كان عدوّا لك وظالمك كما تقول!

فقال له يزيد : فإنّك لا تسمع منّي فيه إلّا خيرا ، ولكن هلمّ فبايعني! ثمّ اذكر ما عليك من الدّين حتى أقضيه لك!

فقال محمّد : أمّا البيعة فقد بايعتك! وأما ما ذكرت من أمر الدّين فما عليّ بحمد الله دين ، فإنّي من الله تبارك وتعالى في كلّ نعمة سابغة لا أقوم بشكرها!

٢٣٣

وكان خالد بن يزيد بن معاوية عند أبيه فالتفت يزيد إليه وقال له : يا بني إنّ ابن عمّك هذا! بعيد من الدنس والخبّ واللؤم والكذب ، ولو كان غيره كبعض من عرفت لقال : عليّ من الدّين كذا وكذا ، ليستغنم أخذ أموالنا! ثمّ أقبل يزيد على ابن الحنفيّة وقال له : بايعتني يا أبا القاسم؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين! قال : فإنّي أمرت لك بثلاثمئة ألف درهم! فقال محمّد : لا حاجة لي في هذا المال ولا جئت له! فقال يزيد : لا عليك أن تقبضه فتفرّقه فيمن أحببت من أهل بيتك! قال : قد قبلته يا أمير المؤمنين (١)!

وفد المدينة عند يزيد :

وفي موسم الحجّ لسنة اثنتين وستّين حجّ بالناس الوليد بن عتبة (٢) وكان يماكره ابن الزبير فمكر به وكتب إلى يزيد : أنّك بعثت إلينا رجلا أخرق ، لا يتّجه لأمر رشد ، ولا يرعوي لعظة الحكيم! ولو بعثت إلينا رجلا سهل الخلق ليّن الكتف رجوت أن يسهل من الأمور ما استوعر منها! وأن يجتمع ما تفرّق ، فانظر في ذلك ، فإنّ فيه صلاح خواصّنا وعوامّنا إن شاء الله ، والسلام.

فدعا يزيد ابن عمّه الآخر : عثمان بن محمّد بن أبي سفيان ، وبعث به إلى المدينة وعزل عنها الوليد ، وكان عثمان فتى لم يحنّكه السنّ ولم يجرّب الأمور حدثا غرّا.

فدعا عثمان بن محمّد رجالا كثيرين من الأشراف فيهم عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري ، والمنذر بن الزبير ، وعبد الله بن أبي عمرو المخزومي وبعث

__________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢ : ٨٠ ـ ٨١.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٤٨١.

٢٣٤

بهم وفدا إلى يزيد (١) وزاد الخوارزمي : عبد الله بن عمر ، فأقاموا عنده أيّاما ، وقد أنزل ابن الحنفيّة في بعض منازله ، ويلتقي بهم صباحا ومساء ، وأجاز كلّ واحد منهم بخمسين ألف درهم! والمنذر بن الزبير بمئة ألف!

فلما أرادوا الانصراف استأذنه ابن الحنفية ليكون معهم ، فوصله بمئتي ألف درهم مع عروض بمئة ألف أخرى وقال له : كنت أحبّ أن لا تفارقني وتأمرني بما فيه حظّي ورشدي! والله ما احبّ أن تنصرف عنّي وأنت ذامّ لشيء من أخلاقي؟

فقال له محمّد : أمّا ما كان منك إلى الحسين عليه‌السلام فذلك شيء لا يستدرك! وأمّا الآن ... فلو رأيت منك خصلة أكرهها لما وسعني السكوت دون أن أنهاك عنها واخبرك بما يحقّ لله عليك منها (وذلك) للذي أخذ الله تبارك وتعالى على العلماء في علمهم أن يبيّنوه للناس ولا يكتموه ... فأنا أنهاك عن شرب هذا المسكر! فإنّه رجس من عمل الشيطان! وليس من ولي أمور الأمة ودعي له بالخلافة فوق المنابر على رؤوس الأشهاد كغيره من الناس! فاتّق الله في نفسك ، وتدارك ما سلف من ذنبك!

فقال له يزيد : فإنّي قابل منك ما أمرتني به! ثمّ ودّعه وخرج معهم إلى المدينة ففرّق كلّ ذلك المال في الرجال والنساء والذريّة والموالي من بني هاشم وقريش ، ثمّ خرج إلى مكّة مجاورا (٢) محاذرا أمرهم.

وزاد الطبري قال : ولمّا عاد الوفد إلى المدينة قالوا لهم : إنّا قدمنا من عند رجل لا دين له ، يشرب الخمر ويعزف بالطنابير ويضرب عنده القيان ، ويلعب بالكلاب ، ويسامر الخرّاب والفتيان! فنحن نشهدكم أنّا قد خلعناه!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤٧٩ ـ ٤٨٠ عن أبي مخنف.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢ : ٨١ ـ ٨٢.

٢٣٥

وكان المنذر بن الزبير صديقا لابن زياد فقدم عليه بالبصرة ، فلمّا بلغ يزيد أمر أصحابه بالمدينة كتب إلى ابن زياد بحبس المنذر ، فأنذره ابن زياد فخرج إلى المدينة وأخذ يقول لهم : والله لقد أجازني يزيد بمئة ألف درهم ولا يمنعني ذلك أن اخبركم خبره صادقا : والله إنّه ليشرب الخمر ، وإنّه ليسكر حتّى يدع الصلاة! فاشتدّ عليه أكثر من أصحابه.

فدعا يزيد النعمان بن بشير الأنصاري وقال له : إنّ بالمدينة من عشيرتي من لا أحب أن ينهض في فتنتهم فيهلك ، وقومك (الأنصار) إن لم ينهضوا في هذا الأمر لم يجترئ الناس على خلافي! فاذهب إليهم وفتّرهم عمّا يريدون. فجاءهم النعمان ودعاهم إلى لزوم الطاعة والجماعة وقال لهم : إنّه لا طاقة لكم بأهل الشام! فعصاه الناس فانصرف عنهم (١) إلى الشام.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤٨٠ ـ ٤٨١.

٢٣٦

مقدّمات واقعة الحرّة (١)

تمرّد أهل المدينة على يزيد :

وكان معاوية قد اكتسب أموالا ونخيلا بالمدينة ، وعليها قيّم يجبيها لهم يدعى ابن ميثاء ، وكانت له نوق وجمال لذلك في حرّة المدينة ، فأقبل بها يريد جباية الأموال ليزيد ، وكانت نخيلا يجذّ منها كلّ سنة مئة وستّين ألف وسق تمرا!

فاجتمع نفر من قريش والأنصار ودخلوا على عثمان بن محمّد فقالوا له : إنّ معاوية آثر علينا في عطائنا فلم يعطنا درهما فما فوقه قطّ! حتّى مضّنا الزمان ونالتنا المجاعة! فاشترى منّا أموالنا بجزء من مئة من ثمنها! فهذه الأموال كلّها لنا!

فقال لهم عثمان : لأكتبنّ إلى أمير المؤمنين بسوء رأيكم وما أنتم عليه من الضغون القديمة والأحقاد التي لم تزل في صدوركم! فتفرّقوا عنه ، ثمّ اجتمع رأيهم على منع ابن ميثاء القيّم عليها. فكتب عثمان بن محمّد بأمرهم إلى يزيد.

فكتب يزيد كتابا خطابا لأهل المدينة وأمر عثمان بن محمّد أن يقرأه عليهم فقرأه فإذا فيه :

«وايم الله لئن آثرت أن أضعكم تحت قدمي فلأطأنّكم وطأة أقلّ منها عددكم ، وأترككم أحاديث تتناسخ كأحاديث عاد وثمود! فلا أفلح من ندم!

__________________

(١) الحرّة ، مخفّف الحارة أي الحجارة الحارّة كأنها أحرقت بالنار ، وهي هنا الحرّة الشرقية من حرّتي المدينة ، كما في المعجم ٢ : ٢٨٣.

٢٣٧

فلمّا قرئ الكتاب على أهل المدينة بدر عبد الله بن المطيع العدوي القرشي بكلام قبيح وأيّده رجال آخرون.

وأمّل يزيد في وساطة عبد الله بن جعفر وكان عنده ، فأرسل إليه وقال له : إنّ ابن الزبير حيث علمت من مكّة ، وهو زعم أنّه قد نصب الحرب ، فأنا أبعث جيوشا وآمر صاحب أوّل جيش أبعثه أن يتّخذ المدينة طريقا ، فإن نزعوا عن غيّهم وضلالهم وأقرّوا بالطاعة فلهم عليّ عهد الله وميثاقه أنّ لهم في كلّ عام عطاءين : عطاء في الشتاء وعطاء في الصيف ، ما لا أفعله لأحد من الناس طول حياتي ؛ ولهم عليّ عهد أن أجعل الحنطة عندهم كسعر الحنطة عندنا! والعطاء الذي يذكرون أنّه احتبس عنهم في زمان معاوية فهو عليّ أن اخرجه لهم وافرا كاملا! فإن قبلوا ذلك وأنابوا جاوزهم إلى ابن الزبير ، وإن أبوا قاتلهم ، ثمّ إن ظفر بها أنهبها ثلاثا!

فروى ابن قتيبة عن ابن جعفر قال : فرجعت إلى منزلي ليلا وكتبت إليهم كتابا اعلمهم فيه بقول يزيد وأحضّهم على القبول بما بذله لهم ، وأنهاهم أن يتعرّضوا لجيوشه! وسلّمت الكتاب لرسولي وطلبت إليه أن يجهد السير إليهم فوصل إليهم في عشرة أيام ، فما قبلوه» (١).

إخراج بني امية من المدينة :

قال ابن قتيبة : فلمّا استبان لهم أنّ يزيد سيبعث إليهم بجيوشه اتّفقوا على تمرّدهم واختلفوا في رياستهم ، فمنهم من قال : ابن مطيع ، وقائل : إبراهيم بن

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٢٠٦ ـ ٢٠٧ ، ونسب عثمان بن محمّد بالثقفي ، بل هو ابن أبي سفيان الأموي. وسمّى اليعقوبي عامل صوافي معاوية في المدينة : ابن مينا ٢ : ٢٥٠ مصحّف.

٢٣٨

نعيم ، ثمّ اجتمعوا على عبد الله بن حنظلة فبايعوه (١). وكان له ثمانية بنين كانوا معه في وفودهم على يزيد ، فأعطى كلّ واحد منهم عشرة آلاف درهم وأعطى أباه مئة ألف فلمّا عاد وسأله الناس ما وراءك؟ قال لهم : أتيتكم من عند رجل لو لم أجد إلّا بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم! فقالوا : فقد بلغنا أنّه أكرمك وأعطاك! قال : أجل قد فعل ولكنّي ما قبلت ذلك منه إلّا أن أتقوّى به عليه (٢) فلمّا بايعوه للخروج على يزيد قال لهم : والله ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء! إنّه رجل ينكح أمهات الأولاد (أي أمّهات أولاد أبيه!) والأخوات والبنات! ويشرب الخمر حتّى يدع الصلاة (٣).

وكان ابن زياد لمّا قتل الحسين عليه‌السلام قالت له أمّه مرجانة : ويلك ماذا ركبت وماذا صنعت! فلمّا كتب يزيد إليه أن يغزو مكّة أبى عليه وقال : لا أجمعهما للفاسق أبدا! أقتل ابن بنت رسول الله وأغزو البيت (٤)! ولعلّه كان قد بلغه إلقاء يزيد عليه قتله عليه‌السلام.

وتأهّب أهل المدينة لإخراج الأمويّين منها وبلغهم ذلك فاجتمعوا إلى مروان بن الحكم وقالوا له : يا أبا عبد الملك ما الرأي؟ فقال لهم : إنّما الخوف على الحريم فمن يقدر منكم أن يغيّب حريمه فليفعل! وبلغه أنّ عبد الله بن عمر يريد الخروج إلى مكّة ليغيب عن أمرهم هذا ، فأتاه وقال له : احبّ أن اوجّه عيالي معك ، وهي عائشة بنت عثمان بن عفّان. فقال : إنّي لا أقدر على مصاحبة النساء!

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٢٠٧.

(٢) تاريخ خليفة : ١٤٨ ولم يذكر وصفهم ليزيد!

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٤٩ عن الواقدي بطرق ، وصحّف بطرف!

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ٤٨٣ ـ ٤٨٤.

٢٣٩

قال : فاجعلهم مع حرمك في منزلك! قال : فلا آمن أن يدخل على حريمي لمكانكم معهم (١)!

فروى الطبري عن الواقدي نحوه وقال : فلجأ إلى عليّ بن الحسين عليه‌السلام وقال له : يا أبا الحسن ؛ إنّ لي رحما! فتكون حرمي مع حرمك؟! قال : افعل! فبعث بحرمه إلى عليّ بن الحسين ، فخرج بحرمه وحرم مروان إلى ينبع ، فكان مروان شاكرا ذلك له (٢).

ثمّ وثب أهل المدينة على واليهم عثمان بن محمّد بن أبي سفيان ومن بالمدينة من بني أميّة ومواليهم ومن كان معهم من قريش ، فأخرجوهم حتّى أنزلوهم دار مروان بن الحكم وكانوا نحو ألف رجل! وحاصروهم حصارا ضعيفا (٣) وذلك ليخرجوهم من المدينة. فقالوا : نحن نريد الشام فالشقة بعيدة ولنا عيال وصبية ولا بدّ لنا ممّا يصلحنا. فاستنظروهم عشرة أيام ، فأنظروا.

ثمّ أخرجوا كبراءهم إلى منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فحلّفوهم (٤). قالوا لهم : والله لا نكفّ عنكم حتّى نستنزلكم ونضرب أعناقكم أو تعطونا عهد الله وميثاقه أن لا تبغونا غائلة ولا تدلّوا لنا على عورة ، ولا تظاهروا علينا عدوّا ، فنكفّ عنكم ونخرجكم عنّا. فأعطوهم عهد الله وميثاقه (٥) ، وشرطوا عليهم أن يخرجوا فيقيموا عشرة أيّام بذي خشب. فأخرجوهم من المدينة ، وتبعهم السفهاء والصبيان يرمونهم بالحجارة حتّى انتهوا إلى ذي خشب (٦).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٢٠٨.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٤٨٥ وقال : وكانت بينهما صداقة قديمة! بل الصحيح : عداوة قديمة.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٤٨٢.

(٤) الإمامة والسياسة ١ : ٢٠٨.

(٥) تاريخ الطبري ٥ : ٤٨٥ عن الكلبي عن الأزدي عن ابن كرّة الأموي.

(٦) الإمامة والسياسة ١ : ٢٠٨.

٢٤٠