موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤١

ثمّ فسّر ابن زياد ما هدّده به من القتل المحدث المبتدع في الإسلام فقال لجلاوزته : اصعدوا به فوق القصر فاضربوا عنقه (وارموا برأسه إلى الأرض) ثمّ أتبعوا جسده رأسه!

فالتفت مسلم إلى ابن الأشعث وقال له : أما والله لو لا أنّك آمنتني ما استسلمت ؛ قم بسيفك دوني فقد أخفرت ذمّتك! فلم يجبه ابن الأشعث. فعاد إلى ابن زياد وقال له : أما والله لو كانت بيني وبينك قرابة ما قتلتني!

ونادى ابن زياد : أين هذا الذي ضرب ابن عقيل بالسيف رأسه وعاتقه؟ يريد بكير الأحمري الشامي فدعي له فقال له : اصعدا (مع مسلم) فكن أنت الذي تضرب عنقه!

فجرّ الحرس مسلما ليصعدوا به وقال : اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذبونا وأذلّونا! وصعدوا به وهو يكبّر ويستغفر ويصلّي على ملائكة الله ورسله. وأشرفوا به من فوق القصر على موضع الجزّارين فضرب بكير الأحمري عنقه ورموا برأسه إلى الأرض ثمّ أتبعوا جسده رأسه.

ونزل بكير الأحمري ورآه ابن زياد فسأله : قتلته؟ قال : نعم! قال : فما كان يقول وأنتم تصعدون به؟ قال : كان يكبّر ويسبّح ويستغفر ، فلما أدنيته لأقتله قال : اللهم احكم بيننا وبين قوم كذبونا وغرّونا وخذلونا وقتلونا! فقلت له : الحمد لله الذي أقادني منك! ثمّ ضربته ضربة لم تغن شيئا ثم ضربته الثانية فقتلته (١)!

ومصير هانئ ورجال آخرين :

مرّ الخبر : أنّ ابن الأشعث وابن خارجة الفزاري حملا هانئا إلى ابن زياد ، فلمّا ضربه ابن زياد حتى أدماه وحبسه خاف ابن الأشعث من عداوة مراد

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٧٧ ـ ٣٧٨ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٦٢ ـ ٦٣.

١٠١

ومذحج فاستوهبه من ابن زياد ، فوعده أن يفعل. وكأنّه رأى أنّ ذلك جرّأه على منح الأمان لمسلم فما وفى له بذلك ولا بما وعده في هانئ ، بل قال لجلاوزته : أخرجوا هانئا إلى السوق فاضربوا عنقه!

فدخلوا إليه وكتّفوه وأخرجوه إلى موقف الغنم في السوق! وأخذ ينادي : وا مذحجاه! ثمّ يجيب نفسه : وأين مني مذحج ولا مذحج لي اليوم! ثمّ جذب يده فنزعها من الكتاف ونادى : أما من عصا أو سكّين أو حجر أو عظم يدافع به رجل عن نفسه! فاكبّوا عليه وشدّوا وثاقه ثمّ قالوا له : امدد عنقك! وكان معهم مولى تركيّ لابن زياد فضربه بسيفه فلم يصنع شيئا! ونادى هانئ : إلى الله المعاد! اللهمّ إلى رحمتك ورضوانك! فضربه المولى التركي اخرى فقتله (١).

وإذ أبى ابن زياد أن يشفّع ابن سعد في جسد مسلم بل أمر برميه من فوق القصر إلى الأرض ، لم يجرؤ ابن سعد ولا غيره على حمله ودفنه ، بل عرف عرف الناس أنّه يأبى ذلك ، فروى أبو مخنف عن رجل من بني أسد قال : لم أخرج من الكوفة حتى رأيت مسلما وهانئا يجرّان بأرجلهما في السوق (٢) وزاد ابن الأعثم عنه أيضا قال : رأيتهما مصلوبين منكّسين في سوق القصّابين (٣).

وكان قد حبس من أنصار مسلم بعد هانئ : المختار الثقفي ، وعبد الأعلى الكلبي وعمارة الأزدي ، فأمر بإخراج الأزدي وسأله : ممّن أنت؟ قال : من الأزد. قال لجلاوزته : فانطلقوا به إلى قومه. فضربوا عنقه فيهم. وأخرجوا إليه الكلبيّ فقال له : أخبرني بأمرك. فقال : خرجت لأنظر ما يصنع الناس فأخذوني.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٧٨ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٦٤.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٩٧ عن أبي مخنف.

(٣) مقتل الخوارزمي ٢ : ٢١٤ ـ ٢١٥ ، وانظر المناقب ٤ : ١١٢.

١٠٢

فحلّفه فأبى أن يحلف ، فقال لجلاوزته : انطلقوا بهذا إلى جبّانة (مقبرة) السبيع فاضربوا عنقه بها ، فقتلوه هناك (١) وقال للمختار : لو لا شهادة عمرو بن حريث لضربت عنقك (٢).

وبعث بالرؤوس إلى الرئيس :

ثمّ اختار ابن زياد رجلين من تميم وهمدان : الزبير بن الأروح التميمي وهانئ بن أبي حية الهمداني ليبعثهما برأسي مسلم وهانئ إلى يزيد ، ودعا كاتبه عمرو بن نافع أن يكتب إلى يزيد بما كان من مسلم وهانئ ، فكتب كتابا مطوّلا ، فلما رآه ابن زياد قال : ما هذا التطويل وهذا الفضول؟! ثمّ قال له : اكتب : أما بعد ؛ فالحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقّه! وكفاه مؤونة عدوّه. أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله! أنّ مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي ، وإني جعلت عليهما العيون ودسست إليهما الرجال وكدتهما حتى استخرجتهما وأمكن الله منهما! فقدّمتهما وضربت أعناقهما. وقد بعثت إليك برؤوسهما مع هانئ بن أبي حيّة الهمداني والزبير بن الأروح التميمي ، وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة! فليسألهما أمير المؤمنين! عمّا أحبّ من أمر ، فإنّ عندهما علما وصدقا ، وفهما وورعا! والسلام.

وراح ابن الأروح وابن أبي حيّة بهذا الكتاب وبرأسي مسلم وهانئ إلى يزيد في دمشق الشام فكتب إلى ابن زياد :

أمّا بعد ؛ فإنّك لم تعد أن كنت كما احب! عملت عمل الحازم وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش! فقد أغنيت وكفيت وصدّقت ظنّي بك ورأيي فيك!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٧٨ عن أبي مخنف.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٥٧٠ عن أبي مخنف.

١٠٣

ودعوت رسوليك فسألتهما وناجيتهما فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت ، فاستوص بهما خيرا.

وإنّه قد بلغني أنّ الحسين بن علي توجّه نحو العراق! فضع المناظر والمسالح ، واحترس على الظنّ وخذ على التهمة! غير أن لا تقتل إلّا من قاتلك! واكتب إليّ في كلّ ما يحدث من الخبر ، والسلام عليك ورحمة الله.

وكان مخرج مسلم بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان ليال مضين من ذي الحجة سنة ستين (١).

خروج الإمام إلى المصير ، وابن عباس وابن الزبير :

كان ابن الزبير يزور الإمام عليه‌السلام غبّا ، ولم يغيّب عنه الإمام كتب أهل الكوفة لمّا سأله ابن الزبير : خبّرني ما تريد أن تصنع؟ فقال عليه‌السلام : لقد كتب إليّ «شيعتي» بالكوفة وأشراف أهلها ، ولقد حدّثت نفسي بإتيان الكوفة ، واستخير الله (أطلب الخير منه) فقال ابن الزبير : أما لو كان لي بها مثل «شيعتك» ما عدلت بها! ثمّ خرج. فقال الحسين عليه‌السلام لمن حضر : إنّ هذا قد علم أنّه ليس له من الأمر معي شيء وأنّ الناس لا يعدلونه بي ، فودّ أنّي خرجت منها لتخلو له! وليس شيء يؤتاه من الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز إلى العراق (٢).

ولمّا عزم الإمام عليه‌السلام على المسير إلى الكوفة شاع في الناس فبلغ ابن عباس فأتى إلى الإمام عليه‌السلام وقال له : يابن عمّ ؛ قد أرجف الناس أنّك سائر إلى العراق! فبيّن لي ما أنت صانع؟

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٨٠ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٦٥ ـ ٦٦.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٨٣ عن أبي مخنف.

١٠٤

قال : إنّي قد أجمعت المسير في أحد يوميّ هذين (السابع أو الثامن لذي الحجة) إن شاء الله.

فقال ابن عباس : فإنّي اعيذك بالله من ذلك! أخبرني ـ رحمك الله ـ أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم ونفوا عدوّهم وضبطوا بلادهم؟! فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسر إليهم ، وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم ، وعمّاله تجبى بلادهم ، فإنهم إنّما دعوك إلى الحرب والقتال! ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذّبوك! ويخالفوك ويخذلوك! وأن يستنفروا إليك فيكونوا أشدّ الناس عليك (١)!

فقال الإمام عليه‌السلام : وإنّي أستخير الله (أطلب الخير منه) وأنظر ما يكون.

وعلى هذا الوعد بعد ابن عباس عن ابن عمّه الحسين عليه‌السلام يوما أو بعض يوم ، ولكنّه لم يتمالك نفسه على الصبر دون أن عاد إليه وقال له : يابن عمّ ؛ إنّي أتصبّر وما أصبر! فإنّي أخاف عليك في هذا الوجه (العراق) الهلاك والاستئصال! فإنّ (أهل) العراق قوم غدر فلا تقربنّهم! أقم بهذا البلد فإنّك سيّد أهل الحجاز. فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا ، فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم ثمّ أقدم عليهم. فإن أبيت إلّا أن تخرج فسر إلى اليمن ، فإنّ بها حصونا وشعابا ، وهي أرض عريضة طويلة ، وتبث دعاتك ، فإنّي أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحبّ (!) في عافية!

فقال له الحسين عليه‌السلام : يابن عمّ ؛ إنّي والله لأعلم أنّك ناصح مشفق ، ولكنّي أزمعت على المسير!

فقال ابن عباس : فإن كنت سائرا فلا تسر بنسائك وصبيتك! فو الله إنّي لخائف أن تقتل (٢) فلم يتكلّم الإمام عليه‌السلام!

__________________

(١) وذلك ليبرّئوا أنفسهم من سابقتهم لأمرائهم!

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٨٣ ـ ٣٨٤ عن أبي مخنف.

١٠٥

وجاءه رجل من بني مخزوم يدعى عمر بن عبد الرحمن وقال له : يابن عمّ! أتيتك لحاجة في ذكر نصيحة فإن كنت تستنصحني وإلّا كففت عمّا اريد أن أقول؟ فقال الإمام عليه‌السلام : قل فو الله ما أظنّك بسيّئ الرأي ... فقال : قد بلغني أنّك تريد المسير إلى العراق ، وإني مشفق عليك من مسيرك ، إنّك تأتي بلدا فيه عمّاله وامراؤه ومعهم بيوت الأموال ، وإنّما الناس عبيد لهذا الدرهم والدينار! فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحبّ إليه ممّن هو يقاتلك معه!

فقال الإمام عليه‌السلام : جزاك الله خيرا يابن عمّ! ومهما يقض من أمر يكن! أخذت برأيك أو تركته (١) فلا مفرّ منه!

وفي يوم التروية عند ارتفاع الضحى في ما بين حجر إسماعيل وباب الكعبة التقى بالإمام عليه‌السلام ابن الزبير فقال له :

إن شئت أن تقيم أقمت فوليت هذا الأمر ، فآزرناك وساعدناك ونصحنا لك وبايعناك؟

فقال الإمام عليه‌السلام : إنّ أبي حدّثني : أن بها كبشا يستحلّ حرمتها! فما أحبّ أن أكون ذلك الكبش! والله لئن اقتل خارجا منها بشبر أحبّ إليّ من أن اقتل داخلا فيها بشبر! وايم الله لو كنت في جحر هامّة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيّ حاجتهم! والله ليعتدنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت!

ثمّ طاف الحسين عليه‌السلام بالبيت وصلّى وسعى وقصّ من شعره فحلّ من عمرته ، ثمّ توجّه نحو العراق والناس متوجّهون إلى منى عند الظهر (٢) ويظهر أنّه عليه‌السلام تعمّد ذلك تعمية لخروجه واختاره ستارا.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٨٢ عن أبي مخنف.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٨٤ ـ ٣٨٥ عن أبي مخنف.

١٠٦

وروى الكليني عن الصادق عليه‌السلام قال : اعتمر الحسين عليه‌السلام في ذي الحجّة ثمّ راح يوم التروية إلى العراق (١) وقال المفيد : أحلّ من إحرامه عمرة ولم يتمكّن من تمام الحجّ مخافة أن يقبض عليه بمكّة فينفذ إلى يزيد ، فخرج مبادرا بأهله وولده ومن انضمّ إليه من شيعته ، يوم خروج مسلم (٢) في الكوفة.

وفي حدود الحرم :

وجاءت هذه المخافة بصراحة الإمام عليه‌السلام لهمّام بن غالب التميمي البصري الشاعر المعروف بالفرزدق ، لمّا لقيه حين دخل الحرم فرأى قافلة تخرج فسأل عنها : لمن هذا القطار؟ فقيل : للحسين بن علي عليه‌السلام وكان الفرزدق يسوق بعير أمّه ، وكانت له مسائل في المناسك ، فتركها وأتى الإمام فسلّم عليه وهو على راحلته وقال : يابن رسول الله بأبي أنت وأمّي ما أعجلك عن الحجّ؟! فقال : لو لم أعجل لاخذت! ثمّ قال له : أخبرني عن الناس خلفك؟ فقال له : الخبير سألت ؛ قلوب الناس معك وأسيافهم عليك ، والقضاء ينزل من السماء والله يفعل ما يشاء!

فقال عليه‌السلام : صدقت ، لله الأمر ، وكلّ يوم ربّنا في شأن ، فإن نزل القضاء بما نحبّ نحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر ، وإن حال القضاء

__________________

(١) فروع الكافي ٤ : ٥٣٥ ، الحديث ٤ ، وعنه في وسائل الشيعة ١٤ : ٣١١ ، الباب ٧ من أبواب العمرة ، الحديث ٣.

(٢) الإرشاد ٢ : ٦٧ ، وعنه في إعلام الورى ١ : ٤٤٥ الطبعة المحقّقة كذلك : تمام الحجّ ، أي حجّا تامّا ، وليس : إتمام الحجّ ، أي كان متلبّسا بالحجّ! كذا جاء خطأ في الطبعات السابقة ، وعنها في حياة الحسين عليه‌السلام (للقرشي) ٣ : ٥٠.

١٠٧

دون الرجاء فلم يبعد من كان الحقّ نيّته والتقوى سريرته! ثمّ سأله الفرزدق عن أشياء من المناسك ثمّ حرّك الإمام راحلته وقال : السلام عليك (١).

وحاولوا منعه فلم ينفع :

مرّ الخبر عن استضعاف يزيد للوليد الأموي وعزله بعمرو بن سعيد الأموي الأشدق فقدم المدينة في شهر رمضان سنة (٦٠) (٢) وأمّره على الموسم بمكّة فقدمها في ذي القعدة (٣) فكان هذا مما أعجل الإمام للخروج من مكّة إلى العراق مخافة أن يقبض عليه بمكّة فينفذ إلى يزيد ، كما مرّ عن المفيد ، مبادرا بأهله وولده وشيعته ، عند الظهر والناس متوجّهون إلى منى ، متمنيّا انشغال عمّال الأمويين بإمارتهم للحجّ والحجّاج.

هذا ، وما أفاد ذلك كثيرا حتّى بلغ خبره الأمير الأشدق فدعا أخاه يحيى

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٦٧ ، وفي الطبري ٥ : ٣٨٦ عن الكلبي عن عوانة بن الحكم ، عن لبطة بن الفرزدق عن أبيه. وقبله عن الكلبي عن أبي مخنف بسنده عن المذري بن المشمعل وعبد الله ابن سليم الأسديّين أنّهما دخلا مكّة يوم التروية وتوجّها إلى منى ... ثم أقبلنا حتى انتهينا إلى الصفاح.

والصفاح بعد أنصاب الحرم إلى حنين ، وتسمّى اليوم بالشرائع الجديدة وهي مدينة حديثة ولها أسواق وبلدية بعد المغمّس باتّجاه وادي عرنة بعد عرفات ، كما في كتاب معجم معالم مكّة لعاتق بن غيث البلادي ، فهل يعقل أن يكون هذان قد قضيا مناسكهما من يوم عرفة إلى ما بعد الزوال من اليوم الثاني عشر من ذي الحجّة : أربعة أيام ، ثمّ وصلوا إلى الإمام في منزل الصفاح؟! فلذا تبعنا هنا ما رجّحه المفيد في إرشاده.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٤٣ و ٣٩٩.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٣٤٦.

١٠٨

وجعل معه جمعا من شرطه وأمرهم أن يعترضوا الحسين عليه‌السلام فيردّوه ولو بضرب السياط! فاعترضوه واعترضوا عليه خروجه فأبى ، فناداه مناديهم : يا حسين! ألا تتّقي الله! تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الأمة!

فاختار الإمام عليه‌السلام أن يجيبهم بقوله سبحانه : (لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)(١) وتدافعوا وتضاربوا بالسياط! فلم يقووا على ردّهم ومضوا (٢).

هذا وقد تخلّف عن الإمام عليه‌السلام ابن عمّ أبيه عبد الله بن العباس لعماه ، وابن عمّه عبد الله بن جعفر ، وكأنّه كان يرى أنّ خروج الإمام من مكّة إنما هو مخافة أن يقبض عليه بمكّة فينفذ إلى يزيد ، كما مرّ عن المفيد ، فحاول أن يشفع له عند الأمير الأموي لمنحه الأمان ، فبادر برسالة إلى الإمام مع ابنيه عون ومحمّد ، وفيه : أمّا بعد ؛ فإنّي أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي ، فإنّي مشفق عليك من الوجه الذي تتوجّه له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك ، وإن هلكت اليوم طفئ نور الأرض ، فإنّك علم المهتدين ورجاء المؤمنين ، فلا تعجل بالسير فإني في إثر الكتاب ، والسلام.

وقام ابن جعفر إلى عمرو الأشدق وقال له : اكتب إلى الحسين كتابا تجعل له فيه الأمان وتمنّيه فيه البرّ والصلة! وتوثّق له في كتابك وتسأله الرجوع لعلّه يطمئن إلى ذلك فيرجع! وابعث به مع أخيك يحيى بن سعيد ، فإنّه أحرى أن تطمئن نفسه إليه ويعلم أنّه الجدّ منك!

__________________

(١) يونس : ٤١.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٨٥ عن أبي مخنف.

١٠٩

فقال عمرو بن سعيد : اكتب ما شئت وائتني به حتّى أختمه. فكتب عبد الله الكتاب : بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي ، أمّا بعد ؛ فإني أسأل الله أن يصرفك عمّا يوبقك! وأن يهديك لما يرشدك! بلغني أنّك قد توجّهت إلى العراق ، وإني أعيذك من الشقاق ، فإنّي أخاف عليك فيه الهلاك! وقد بعثت إليك عبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد ، فأقبل إليّ معهما ، فإنّ لك عندي الأمان والصلة والبرّ وحسن الجوار ، لك الله بذلك شهيد وكفيل ، ومراع ووكيل ، والسلام عليك.

ثمّ أتى به إلى عمرو بن سعيد فختمه ، وكان يحيى بن سعيد قد عاد فرجع مع ابن جعفر حتّى لحقا بالإمام عليه‌السلام فناوله يحيى الكتاب ، فلمّا قرأه كتب إليه جوابه : أمّا بعد ، فإنّه لم يشاقق الله ورسوله من (دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(١) وقد دعوت إلى الأمان والبرّ والصلة ، فخير الأمان أمان الله! ولن يؤمّن الله يوم القيامة من لم يخفه في الدنيا ، فنسأل الله مخافة في الدنيا توجب لنا أمانه يوم القيامة! فإن كنت نويت بالكتاب صلتي وبرّي فجزيت خيرا في الدنيا والآخرة! والسلام.

وكان ممّا اعتذر به إليهما أن قال لهما : إنّي رأيت رؤيا فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وامرت فيها بأمر أنا ماض له ، كان لي أو عليّ! فقالا له : فما تلك الرؤيا؟ قال : ما حدّثت بها أحدا ، وما أنا محدّث بها حتّى ألقى ربّي!

فانصرفا إلى عمرو الأشدق وقالا له : أقرأناه الكتاب وجهدنا به ، فأبى ، وحدّثاه بما أخبرهم من رؤياه لجدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره له بأمر هو يمضي له سواء كان له أو عليه ، وأنّه لم يحدّثهم برؤياه أكثر من هذا (٢) وأعان عبد الله

__________________

(١) فصّلت : ٣٣.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٨٨ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٦٨ ـ ٦٩.

١١٠

الإمام بابنيه عون ومحمد ، مع أمّهما أخت الحسين زينب عليها‌السلام (١) وما دعاه الإمام ليكون معه. وكان كلّ ذلك قبل منزل التنعيم الذي هو اليوم داخل مكّة وعن الكعبة بست كيلومترات.

وفي منزل التنعيم :

كان الوالي الأموي على اليمن بحير بن ريسان الحميري ، وكان طريق اليمن إلى الشام عن مكّة فالمدينة ، وكان باليمن نبات كالسمسم يصنع منه غمرة وأدام يسمّى الورس لا يكون إلّا باليمن ، فكان ابن ريسان قد حمّل منه قافلة إلى يزيد ومعهم حلل والتقى بهم الإمام عليه‌السلام في منزل التنعيم ، فكأنّه رأى أن يعلن إنكاره ومعارضته لحكم يزيد بمصادرة القافلة ، فأوقفها وقال لأصحاب الإبل فيها : من أجاب أن يمضي معنا إلى العراق أوفينا كراءه وأحسنّا صحبته ، ومن أحبّ أن يفارقنا من مكاننا هذا أعطيناه من الكراء على قدر ما قطع من الأرض. فمن أراد الانصراف اوفي حقّه ، ومن مضى منهم معه أعطاه كراءه وكساه (٢).

ابن مسهر من الحاجر إلى الكوفة :

مرّ الخبر عن حمل قيس بن مسهر الصيداوي الأسدي مع رفيقيه الأرحبي الهمداني والسلمي نحوا من مئة وخمسين صحيفة من أهل الكوفة إلى الإمام عليه‌السلام ،

__________________

(١) كما عن أسد الغابة في سفينة البحار ٣ : ٤٩٧ ، وفي مقاتل الطالبيين : ٦٠ : أنّ محمّدا ابن زينب فحسب. وفي الطبري ٥ : ٤٦٩ : أن أمّه الخوصاء من بكر بن وائل ، وأمّ عون جمانة بنت المسيّب بن نجبة الفزاري الذي أصبح بعد من زعماء التوّابين من خذلان الحسين عليه‌السلام.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٨٥ عن أبي مخنف ، وفي الارشاد ٢ : ٦٨ مختصرا.

١١١

ثمّ سرّحه الإمام مع مسلم بن عقيل إلى الكوفة ، ثمّ حمل كتاب مسلم إلى الإمام من بطن الخبيت ، وحمل جواب الإمام إليه ، ثمّ دخل معه الكوفة دار المختار ، ثمّ نفتقده في الكوفة حتّى نجده مرّة أخرى مع الإمام في منزل الحاجر من بطن الرمّة ، وهو مفترق طرق المدينة إلى الكوفة والبصرة ، فهنا كتب إلى أهل الكوفة :

بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من الحسين بن علي ، إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين ، سلام عليكم ، فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو. أما بعد ؛ فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم ، واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقّنا ، فسألت الله أن يحسن لنا الصنع ، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر.

وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية.

فإذا قدم عليكم رسولي [الصيداوي] فأكمشوا أمركم وجدّوا ، فإنّي قادم عليكم في أيّامي هذه إن شاء الله ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (١).

وكان إقبال الإمام عليه‌السلام من مكّة إلى الكوفة قد بلغ إلى ابن زياد ، وكان صاحب شرطته الحصين بن تميم التميمي فأمره أن يرحل بخيله إلى القادسية في ثغر العراق فينظمّ الخيل بينها إلى القطقطانة وإلى خفّان وإلى لعلع (٢).

فلما انتهى قيس بن مسهر الأسدي إلى القادسية أخذه الحصين التميمي فبعث به إلى ابن زياد ، فأمره أن يصعد القصر فيسبّ الإمام عليه‌السلام بلقب الكذّاب ابن الكذّاب ، فتظاهر بالقبول ، فأصعدوه وأشرفوا به على الناس ، فناداهم : أيّها

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٩٤ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٧٠.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٩٤ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٦٩.

١١٢

الناس! إنّ هذا الحسين بن علي خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول الله ، وأنا رسوله إليكم ، وقد فارقته بالحاجر فأجيبوه! ثمّ استغفر لعلي عليه‌السلام ولعن ابن زياد وأباه! فلمّا بلغه ذلك أمر أن يرمى به من فوق القصر! فرموا به فمات شهيدا رحمه‌الله (١).

وخبر ابن بقطر :

كان من حمير اليمن رجل بالمدينة يدعى بقطر الحميري وله ولد يدعى عبد الله ، وكانت أمّ عبد الله حضنت الحسين عليه‌السلام مع ابنها عبد الله فقيل إنّه رضيع الحسين عليه‌السلام ، وخرج هذا معه فسرّح به من بعض الطريق (بلا تعيين) إلى مسلم بالكوفة ، ويبدو أنّ ذلك كان بعد ابن مسهر ، فكذلك تلقته خيل الحصين التميمي بالقادسية فسرّحوا به إلى ابن زياد ، فكذلك أمره أن يصعد القصر ويلعن الإمام عليه‌السلام بلقب الكذّاب ابن الكذّاب ، فكذلك تظاهر بالقبول فأصعدوه وأشرفوا به على الناس ، فناداهم : أيها الناس ، إنّي رسول الحسين ابن فاطمة بنت رسول الله لتنصروه وتوازروه على ابن مرجانة وابن سميّة الدّعي! فلمّا بلغه ذلك أمر فألقى من فوق القصر إلى الأرض ، وبقي به رمق فذبحه عبد الملك بن عمير اللخمي ، فعيّره الناس فقال : أردت أن أريحه (٢)!

والتحق ابن القين بالحسين عليه‌السلام :

كان من القبائل اليمنيّة المسلمة بنو بجيلة بن أنمار ابن خثعم ، والنسبة إليها البجلي تخفيفا ، ومن أشرافهم جرير بن عبد الله واستعمله عثمان على همدان فكان

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٩٤ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٧١.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٩٨ عن أبي مخنف ، وردّد المفيد الخبر بينه وبين قيس الصيداوي.

١١٣

عليها يوم البصرة ولم يحضر فيها مع قومه ، فكان عليهم فيها رفاعة بن شدّاد (١) ثمّ استقدمه علي عليه‌السلام فأرسله إلى معاوية ليدعوه إلى بيعته ، فتطاول معه بلا نتيجة فاتّهمه الأشتر فاعتزل الإمام بجمع من قومه فهدم الإمام داره بالكوفة. وعاد على من بقي منهم في صفّين رفاعة بن شدّاد (٢) ولقلّتهم كانوا مع الأزد براية مخنف بن سليم (٣) وكان جمع منهم مع معاوية ، قيل كانوا قليلا ، وقيل قاتلوا همدان في يوم القتال الأعظم فقتلوا منهم في ذلك اليوم ثلاثة آلاف رجل (٤)!

وكان في سنة (٣٣ ه‍) على عهد عثمان غزا الصحابيّ سلمان بن ربيعة الباهلي (٥) مدينة الخزر : بلنجر عند باب الأبواب (دربند) ومعهم زهير بن القين بن قيس البجلي ، ففتح الله عليهم وأصابوا فيها غنائم فرحوا بها ، فلمّا رأى ذلك قال لهم : أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟ قالوا : نعم ، فقال لهم : إذا أدركتم شباب آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فكونوا أشدّ فرحا بقتالكم معهم ، منكم بما أصبتم اليوم من الغنائم (٦)! ورفعه بلا إسناد ، ويبدو أنّه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وكان زهير بن القين بن قيس يعرف بأنّه عثماني الرأي والهوى ، وحجّ من الكوفة بامرأته دلهم بنت عمرو ، وابن عمّه سلمان بن مضارب بن قيس (٧) وآخرين

__________________

(١) الجمل (للمفيد) : ٣٢٠.

(٢) وقعة صفين : ٢٠٥.

(٣) وقعة صفين : ١١٧.

(٤) وقعة صفين : ٣٢٩.

(٥) انظر ترجمته في قاموس الرجال ٥ : ١٨٢ ، برقم ٣٣١٧.

(٦) تاريخ الطبري ٥ : ٣٩٦ عن أبي مخنف عن دلهم ، وفي الإرشاد ٢ : ٧٣ وقال سلمان الفارسي. ولكن الصواب موته في آخر عصر عمر ، كما في قاموس الرجال ٥ : ٢٠٧.

(٧) الحدائق الوردية : ١٢٢ ، وعنه في إبصار العين : ١٦٩.

١١٤

من بني فزارة مثله في العثمانية ، فلمّا علموا بمسير الحسين عليه‌السلام أسرعوا في قضاء مناسكهم ليعودوا فيكونوا من الحسين عليه‌السلام على كثب لينظروا إلى ماذا يصير أمره ، ولحقوا به ولكنهم كانوا يكرهون أن ينزلوا معه أو يسايروه! فتقدّم زهير ومن معه فنزل وسار الإمام عليه‌السلام فتخلّف زهير ومن معه ، ثمّ لم يجدوا بدّا أن ينزلوا مع الإمام عليه‌السلام ظهرا وجلسوا يتغدّون.

فدخل عليهم رسول الإمام وقال لزهير : يا زهير بن القين ؛ إنّ أبا عبد الله الحسين بن علي بعثني إليك لتأتيه! وسمعت ذلك امرأته ورأت منه كراهة فقالت له : أيبعث إليك ابن رسول الله ثمّ لا تأتيه! سبحان الله! لو أتيته فسمعت كلامه ثمّ انصرفت.

فذهب زهير إلى الحسين عليه‌السلام وعاد مستبشرا وقال لأصحابه : من أحبّ منكم أن يتبعني (فليتّبعن) وإلّا فإنّه آخر العهد! ثمّ حدّثهم بحديث سلمان الباهلي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ التفت إلى امرأته وقال لها : الحقي بأهلك فإنّي لا احبّ أن يصيبك بسببي إلّا خير ، فأنت طالق (١) وكأنّه أعلمه الإمام عليه‌السلام بأنّه سيصيبه شرّ في الدنيا لخير الآخرة!

وكان ذلك في منزل الخزيمية قبل زرود بأكثر من خمسة عشر ميلا.

وفي زرود :

ظهر للإمام عليه‌السلام رجل من جانب الكوفة فوقف يريده ، وكأنّ الرجل ظنّ أنّه الحسين عليه‌السلام فعدل عن الطريق ، فلمّا رأى الإمام ذلك تركه ومضى. وكان رجلان

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٩٦ عن أبي مخنف عن دلهم زوجة زهير ، والإرشاد ٢ : ٧٣.

١١٥

من بني أسد الكوفة : عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعلّ قضيا حجّهما ولحقا بالإمام هنا ، فلمّا رأيا ذلك توافقا ليلحقا بالرجل فيسألانه عن الكوفة ، ومضيا حتى انتهيا إليه وسلّما عليه وتعارفا معه فإذا هو بكير بن المثعبة الأسدي أيضا وقال : لم أخرج من الكوفة حتّى رأيت مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة مقتولين يجرّان بأرجلهما في السوق! فتركاه ولحقا بالإمام عليه‌السلام (١).

وفي الثعلبية :

وعند المساء وصل الإمام عليه‌السلام منزل الثعلبية فنزلها ، فجاءه الأسديان الكوفيان وسلّما عليه وقالا له : يرحمك الله ، إنّ عندنا خبرا ، فإن شئت حدّثنا علانية وإن شئت سرّا؟ فنظر إلى أصحابه وقال : ما دون هؤلاء سر. فقالا له : أرأيت الراكب الذي استقبلك عشاء أمس؟ (كذا) قال : نعم وقد أردت مسألته. فقالا : قد كفيناك مسألته واستبرأنا لك خبره ، وإنّه امرؤ منّا من بني أسد ذو رأي وصدق وفضل وعقل ، وإنّه حدّثنا أنّه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وحتى رآهما يجرّان في السوق بأرجلهما!

فتلا الحسين عليه‌السلام : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ)(٢)! ثمّ ردّد مرارا : رحمة الله عليهما.

فقالا له : إنّه ليس لك بالكوفة «شيعة» فنحن نتخوّف أن تكون عليك ، فننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلّا انصرفت من مكانك هذا! فلمّا سمع بنو عقيل ذلك وثبوا وقالوا : لا والله لا نبرح حتّى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق أخونا!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٩٧ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٧٣ ـ ٧٤.

(٢) البقرة : ١٥٦.

١١٦

فنظر الإمام عليه‌السلام إلى الأسديّين وقال لهما : لا خير في العيش بعد هؤلاء! فقالا له : خار الله لك. فقال : رحمكما الله.

وعلم أنّه قد عزم على المسير قدما ، ولم يعلم أنّه أعلن خبر مقتل مسلم إعلانا عامّا. وانتظر حتّى إذا كان السحر قال لفتيانه وغلمانه : أكثروا من حمل الماء. فاستقوا وأكثروا. ثمّ ساروا (١).

وفي زبالة :

وكان عليه‌السلام لا يمرّ بأهل ماء من مياه العرب إلّا اتّبعه الأعراب منهم ، وإنّما كانوا يتّبعونه ؛ لأنّهم ظنّوا أنّه عليه‌السلام سيقدم بلدا قد استقامت له طاعة أهله ، وقد علم أنّه إذا بيّن لهم الأمر لم يصحبه إلّا من يريد مواساته والموت معه! فكره أن يسيروا معه إلّا وهم يعلمون علام يقدمون.

ولم يعلم كيف بلغه عليه‌السلام خبر مقتل رسوله عبد الله بن بقطر ، إلّا أنّه أوقف الناس وأخرج لهم كتابا وخطبهم فقال : أما بعد ؛ فقد أتانا خبر فضيع قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن بقطر ، وقد خذلتنا «شيعتنا»! فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف ، ليس عليه منّا ذمام!

فتفرّق الناس تفرّقا فأخذوا يمينا وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة.

ولما كان السحر أمر فتيانه فاستقوا وأكثروا ، ثمّ سار عليه‌السلام (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٩٧ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٧٤ ـ ٧٥.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٩٨ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٧٥ ـ ٧٦.

١١٧

وفي بطن العقبة :

واجهه رجل من بني عكرمة فقال له : إنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك (لتأتيهم) لو كانوا وطّؤوا لك الأشياء وكفوك مؤونة القتال فقدمت عليهم كان ذلك رأيا ، فأمّا على هذه الحال التي تذكرها فإنّي لا أرى لك أن تفعل ، فأنشدك الله لمّا انصرفت!

فقال له : يا عبد الله ؛ إنّه ليس يخفى عليّ ، الرأي ما رأيت! ولكنّ الله لا يغلب على أمره (١)!

وأقبل الإمام عليه‌السلام حتى بلغ منزل شراف وفيها آبار كبار كثيرة عذبة ، فنزل ، فلمّا كان السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء وأكثروا ، ثمّ ساروا (٢).

لقاء الحرّ ، وخطب الإمام عليه‌السلام :

وقبيل الزوال قبيل جبل ذي حسم لبني طيّئ كبّر رجل ممّن مع الإمام عليه‌السلام ، وسمعه الإمام فكبّر ثمّ قال له : ممّ كبّرت؟ قال : رأيت النخل! وكان معه الأسديّان الكوفيّان فقالا : ما رأينا في هذا المكان نخلة قط! فسألهما الإمام : فما تريانه رأى؟ قالا : نرى رأى رؤوس الخيل! فصدّقهما الرجل. فقال الإمام عليه‌السلام : أما لنا (هنا) ملجأ نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟ قال الأسديّان : بلى هذا جبل ذي حسم عن يسارك فهو كما تريد. فأخذ الإمام إليه ذات يساره ومالوا معه فاستبقوا إليه قبل القوم ، وهم لما رأوا أنّ هؤلاء عدلوا عن الطريق عدلوا إليهم ، فنزل الإمام عليه‌السلام وأمر فضربوا الخيم.

فما كان بأسرع من أن طلع القوم عليهم وهم ألف فارس مع الحرّ بن يزيد التميمي اليربوعي ، حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين عليه‌السلام في حرّ الظهر ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٣٩٩ عن أبي مخنف ، وفي الإرشاد ٢ : ٧٦.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٤٠٠ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٧٦.

١١٨

والحسين وأصحابه معتمّون متقلّدون أسيافهم. فقال الحسين لفتيانه : اسقوا القوم وارووهم من الماء ورشّفوا الخيل ترشيفا (١).

فقام فتيانه وسقوا القوم حتى أرووهم ، وأقبلوا يملؤون القصاع والطساس من الماء ويدنونها من الأفراس تعبّ منها ثلاثا أو أربعا أو خمسا حتى سقوا كلّ الخيل.

وحضر الظهر فأمر الإمام مؤذّنه الحجّاج بن مسروق الجعفي أن يؤذّن فأذّن ، ثمّ خرج الإمام بنعليه في إزار ورداء فوقف يخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم : أيّها الناس ، إنّها معذرة إلى الله عزوجل وإليكم ، إنّي لم آتكم حتى أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم ، أن أقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام ، ولعلّ الله يجمعنا بك على الهدى. فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فإن تعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم ؛ أقدم مصركم ؛ وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم! وسكت.

فسكتوا ولم يردّوا جوابا بل قالوا للمؤذّن : أقم الصلاة ، فأقام ، فالتفت الحسين عليه‌السلام إلى الحرّ وقال له : أتريد أن تصلّي بأصحابك؟ قال : لا ، بل تصلّي ونصلّي بصلاتك. فصلّى بهم الحسين عليه‌السلام ثمّ عاد إلى رحله مع أصحابه.

وانصرف الحرّ إلى خيمة ضربت له مع أصحابه ، وعاد سائرهم إلى صفوفهم فجلسوا في ظلال الخيول حتى كان وقت العصر ، وتهيّأ أصحاب الحسين عليه‌السلام للرحيل ، ثمّ خرج وأمر مؤذّنه فأذّن للعصر ثمّ أقام ، ثمّ استقدم الإمام فصلّى بهم وسلّم ثمّ انصرف بوجهه إلى القوم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم :

أما بعد ـ أيّها الناس ـ فإنّكم إن تتّقوا وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله ، ونحن «أهل البيت» أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس

__________________

(١) الرشف : رفع العطش بشربة.

١١٩

لهم! والسائرين فيكم بالجور والعدوان! وإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقّنا وكان رأيكم على غير ما أتتني به كتبكم وقدمت عليّ به رسلكم انصرفت عنكم!

فقال الحرّ : إنّا ـ والله ـ ما ندري ما هذه الكتب التي تذكرها!

فالتفت الإمام إلى غلامه عقبة بن سمعان وقال له : يا عقبة ؛ أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليّ! فأخرج خرجين مملوءين صحفا فنثرها بين أيديهم. فلمّا رآها الحرّ قال : فإنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك ، وقد أمرنا أن إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك على عبيد الله بن زياد! فقال له الحسين عليه‌السلام : الموت أدنى إليك من ذلك! ثمّ التفت إلى أصحابه وقال لهم : قوموا فاركبوا. فقاموا وركبوا وركبت نساؤهم ، وذهبوا لينصرفوا راجعين وتوقّف الحرّ بخيله بينهم وبين الرجوع! فقال له الحسين عليه‌السلام : ثكلتك أمّك ما تريد؟!

فقال الحرّ : أما والله لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمّه بالثكل كائنا من كان! ولكن ـ والله ـ ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلّا بأحسن ما نقدر عليه! فقال له الحسين عليه‌السلام : فما تريد؟ قال الحرّ : أريد ـ والله ـ أن أنطلق بك إلى عبيد الله بن زياد! قال له الحسين عليه‌السلام : إذن ـ والله ـ لا أتّبعك! فقال الحر : إذن ـ والله ـ لا أدعك!

ولما كثر الكلام بينهما قال له الحرّ : إنّي لم اؤمر بقتالك ، وإنّما أمرت أن لا افارقك حتى أقدمك الكوفة ، فإذ أبيت فخذ طريقا تكون نصفا بيني وبينك : لا تدخلك الكوفة ولا تردّك إلى المدينة ، حتّى أكتب إلى ابن زياد ... فلعلّ الله أن يأتيني بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بشيء من أمرك! فتياسر عن طريق العذيب والقادسية. هذا وبينه وبين العذيب : ثمانية وثلاثون ميلا (١) (٧٧ كم تقريبا).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤٠٤ ـ ٤٠٥ عن أبي مخنف ، والإرشاد ٢ : ٧٨ ـ ٨١.

١٢٠