موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤١

وفي موضع الجرف التقى بالحسين عليه‌السلام ومعه عبد الله بن عباس ، فقال معاوية : مرحبا بابن بنت رسول الله ، وابن صنو أبيه. ثمّ انحرف إلى الناس وقال : هذان شيخا بني عبد مناف! وأقبل عليهما فرحّب وقرّب يواجههما ويضاحكهما ويلقاه المشاة وفيهم النساء والصبيان يسلّمون عليه ويسايرونه حتى نزل. فانصرفا عنه.

وزار عائشة واستأذن عليها فأذنت له وحده وعندها مولاها ذكوان ، فقالت له : يا معاوية : أكنت تأمن أن أقعد لك رجلا يفتك بك كما قتلت أخي محمد بن أبي بكر؟! قال : ما كنت لتفعلي ذلك فأنا في بيت أمن بيت رسول الله. فذكرت رسول الله وأباها أبا بكر وعمر فحثّته على اتباع أثرهما والاقتداء بهما! فقال لها : أنت أهل لأن يسمع قولك ويطاع أمرك! ولكن أمر يزيد من قضاء الله! وليس للعباد الخيرة من أمرهم! وقد أعطى الناس على ذلك بيعتهم وأكّدوا عهودهم ومواثيقهم! أفترين أن ينقضوا عهودهم ومواثيقهم؟! فعلمت أنه سيمضي على أمره فقالت : فاتق الله في هؤلاء الرّهط ولا تعجل فيهم فلعلّهم لا يصنعون إلّا ما أحببت! (فكأنها تشفع لابن اختها عبد الله بن الزبير) فلمّا سمع معاوية ذلك منها وهو رضاها وفيه رضاه قام.

فقالت له : يا معاوية! قتلت حجرا وأصحابه العابدين المجتهدين؟!

فقال معاوية : دعي هذا : فكيف أنا في حوائجك بيني وبينك؟! قالت : صالح!

قال : فدعينا وإياهم حتّى نلقى ربّنا (١)!

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٨٢ ، ١٨٣ ، ولعلّ النقل عن ذكوان مولاها كما في أخبار أخرى.

٢١

قالت : فأين عزب حلمك عنهم؟ أما إنّي سمعت رسول الله يقول : «يقتل بمرج عذراء نفر يغضب لهم أهل السماوات» فقال : يا أم المؤمنين! لم يحضرني رجل رشيد : وقال : ما أعدّ نفسي حليما بعد قتلي حجرا وأصحابه (١).

وروى الطبري عن أبي سعيد المقبري : أنّها قالت له : يا معاوية ، أما خشيت الله في قتل حجر وأصحابه؟!

فقال : لست أنا قتلتهم ، إنّما قتلهم الذين شهدوا عليهم! وقالت عائشة : لو لا أنّا لم نغيّر شيئا إلّا آلت بنا الأمور إلى أشدّ ممّا كنّا فيه لغيّرنا قتل حجر! أما والله إن كان ما علمت لمسلما حجّاجا معتمرا (٢).

وأرسل إلى الحسين عليه‌السلام وابن عباس وخطب :

قال الدينوري : لما كان صبيحة اليوم الثاني أمر بفراش وسرير فوضع له ، وسوّيت مقاعد الخاصّة من أهله حوله وتلقاءه ، وأرسل إلى الحسين عليه‌السلام وعبد الله ابن عباس ، وخرج وعليه حلّة يمانية وعمامة سوداء دكناء وقد أسبل طرفيها بين كتفيه وقد تعطّر بعطر الغالية ، فقعد على سريره ، وأمر بكتّابه فأجلسهم بحيث يسمعون ما يأمر به ، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس وإن قرب.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٣١ هذا ، وقد قال قبله : كان قتل حجر في سنة ٥٢ ، وفي : ٢٣٨ قال : حجّ في جميع سنّي ولايته حجتين سنة ٤٤ وسنة ٥٠ ؛ واعتمر في رجب سنة ٥٦. وبعدها في ٢٣٩ قال : في سنة ٥٠ ، حجّ معاوية ، وفي سنة ٥١ ابنه يزيد. وقال خليفة : ١٣١ : في سنة ٥١ قتل معاوية حجرا وأصحابه ثمّ حجّ فيها. وهو الصحيح.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٢٧٩ وهو من أخبار كتاب أبي مخنف في حجر بن عدي ، رواه الكلبي وعنه الطبري. والعذر من عائشة أيّ عذر! كما ترى!

٢٢

وسبق ابن عباس فلمّا دخل وسلّم أقعده على الفراش عن يساره وقال له :

يابن عباس ، لقد وفّر الله حظّكم من مجاورة هذا القبر الشريف ودار الرسول عليه الصلاة والسلام (صلاة بتراء). فقال ابن عباس : نعم ، وحظّنا من القناعة بالبعض والتجافي عن الكلّ أوفر! فجعل معاوية يحيد به عن طريق المجاوبة ويعدل إلى ذكر اختلاف الطبائع والأعمار!

وأمّا الحسين عليه‌السلام فلمّا رآه معاوية جمع له وسادة عن يمينه ، فلمّا دخل وسلّم أشار إليه فأجلسه على الوسادة عن يمينه ثمّ سأله عن حاله وحال بني أخيه الحسن وأسنانهم وأعمارهم.

ثمّ قال : أمّا بعد فالحمد لله وليّ النعم ومنزل النقم! وأشهد أن لا إله إلّا الله المتعالي عمّا يقول الملحدون علوّا كبيرا ، وأنّ محمّدا عبده المختص المبعوث إلى الإنس والجن كافة لينذرهم بقرآن (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(١) فأدّى عن الله وصدع بأمره وصبر على الأذى في جنبه حتّى وضح دين الله وعزّ أولياؤه وقمع المشركون ، وظهر أمر الله وهم كارهون ، فمضى صلوات الله عليه (كذلك صلاة بتراء) وقد ترك من الدنيا ما بذل له ، واختار منها الترك لما سخّر له زهادة واختيارا لله وأنفة واقتدارا على الصبر ، بغيا لما يدوم ويبقى. فهذه صفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كذلك صلاة بتراء).

ثمّ خلفه رجلان محفوظان وثالث مشكور! وبعد ذلك خوض طالما عالجناه مشاهدة ومكافحة ومعاينة وسماعا ، وما أعلم أنا منه فوق ما تعلمان .. وقد علم الله ما أحاول به في أمر الرعيّة من سدّ الخلل ولمّ الصدع بولاية «يزيد» بما أيقظ العين! هذا معناي في يزيد!

__________________

(١) فصلت : ٤٢.

٢٣

وفيكما فضل القرابة وحظوة العلم وكمال المروءة! وقد أصبت من ذلك عند «يزيد» على المقابلة والمناظرة ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما! مع علمه بالسنة وقراءة القرآن! والحلم الذي يرجح بالصمّ الصلاب!

وقد علمتما أنّ الرسول المحفوظ «بعصمة الرسالة» قدّم على «الصديق والفاروق» ومن دونهما من أكابر الصحابة وأوائل المهاجرين يوم «غزوة السلاسل» من لم يقارب القوم برتبة ، من قرابة موصولة ولا سنّة مذكورة (عمرو بن العاص) فقادهم الرجل بأمره وجمّع بهم صلاتهم وحفظ عليهم فيئهم (غنيمتهم!) وفي رسول الله أسوة حسنة!

فمهلا يا بني عبد المطلب فإنا وأنتم شعبا أب وجدّ ، وما زلت أرجو الانصاف في اجتماعكما ، فما يقول القائل إلّا بفضل قولكما ، فردّا على ذي رحم مستعتب ما يحمد به البصيرة في عتابكما هذا ، وأستغفر الله لي ولكما. وسكت (١).

جواب الحسين عليه‌السلام :

قال : فتيسّر ابن عباس للكلام فأشار إليه الحسين عليه‌السلام وقال له : على رسلك! فأنا المراد ونصيبي في التهمة (بالخلاف والتخلّف) أوفر! فأمسك ابن عباس.

فقام الحسين عليه‌السلام فحمد الله وصلّى على رسول الله ثمّ قال : أما بعد ـ يا معاوية ـ فلن يؤدّي القائل وإن أطنب في صفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من جميع جزءا ، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله من إيجاز الصفة والتنكب عن استبلاغ النعت (ولا سيما عن عليّ عليه‌السلام) وهيهات هيهات يا معاوية ، فضح الصبح فحمة

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٨٤ ـ ١٨٦.

٢٤

الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السرج. ولقد فضّلت حتّى أفرطت واستأثرت حتّى أجحفت ، ومنعت حتّى محلت ، وجزت حتّى جاوزت ، ما بذلت لذي حقّ من اسم حقه بنصيب ، حتّى أخذ الشيطان حظه الأوفر ونصيبه الأكمل!

وفهمت ما ذكرت عن «يزيد» كأنّك تصف محجوبا أو تنعت غائبا! أو تخبر عما كان ممّا احتويته بعلم خاص! وقد دلّ «يزيد» من نفسه على موقع رأيه! فخذ «ليزيد» فيما أخذ فيه من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش ، والحمام السّبق لأترابهنّ ؛ والقيان ذوات المعازف وضرب الملاهي! تجده باصرا ، ودع عنك ما تحاول ، فما أغناك أن تلقى الله من وزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه ، فو الله ما برحت تقدح باطلا في جور وحنقا في ظلم ، حتّى ملأت الأسقية! وما بينك وبين الموت إلّا غمضة! فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ، ولات حين مناص!

ورأيتك عرّضت بنا بعد هذا الأمر ومنعتنا عن آبائنا تراثا ورّثناه الرسول ولادة ، وجئت لنا بما حاججتم به القائم عند موت الرسول (من الأنصار) فأذعن للحجّة بذلك وردّه الإيمان إلى الإنصاف ، فركبتم الأعاليل وفعلتم الأفاعيل وقلتم كان ويكون ، حتى أتاك الأمر ـ يا معاوية ـ من طريق كان قصدها لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار!

وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتأميره له. وقد كان ذلك لعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبته الرسول وبيعته له ، وما صار لعمر الله مبعثهم يومئذ حتّى أنف القوم إمرته وكرهوا تقديمه وعدّوا عليه أفعاله فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري» فكيف تحتج بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحكام وأولاها بالمجمع عليه من الصواب (الخلافة؟!) أم كيف قارنت بصاحب تابعا وحولك من لا يؤمن في صحبته

٢٥

ولا يعتمد في دينه ، وتتخطاهم إلى مسرف مفتون (يزيد) تريد أن تلبس الناس شبهة (إن) يسعد بها الباقي في دنياه تشقى أنت بها في آخرتك! إنّ هذا لهو الخسران المبين! وأستغفر الله لي ولكم.

فنظر معاوية إلى ابن عباس وقال له : يابن عباس! ما هذا؟ ولما عندك أدهى وأمرّ!

فقال ابن عباس : لعمرو الله إنها لذرية رسول الله ، وأحد أصحاب الكساء ، ومن البيت المطهّر ، فاله عما تريد (من بيعة يزيد) فلك في الناس مقنعا حتّى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين. فقال معاوية : أتعوّد الحليم التحلّم؟! قال ابن عباس : وخيره التحلّم عن الأهل.

فقال معاوية : فانصرفا في حفظ الله (١).

خطبة معاوية في المسجد النبوي :

قال الدينوري : ثمّ احتجب معاوية عن الناس ثلاثة أيّام ثمّ أمر أن ينادى في الناس : أن يجتمعوا لأمر جامع! فاجتمع الناس في المسجد النبوي ، وأحضر أولئك النفر الممتنعون وأقعدوا حول المنبر ، وخرج معاوية إلى المسجد ورقى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ ذكر يزيد وفضله وقراءته القرآن ثمّ قال : يا أهل المدينة! لقد هممت ببيعة يزيد فما تركت قرية ولا مدرة إلّا بعثت إليها في بيعته فبايع الناس جميعا وسلّموا ، وإنما أخّرت المدينة ببيعته! فقلت : أصله وبيضته : ومن لا أخافهم عليه! وكان الذين أبوا البيعة منهم من كان أجدر أن يصله! وو الله! لو علمت مكان أحد هو خير للمسلمين من يزيد لبايعت له!

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٨٦ ، ١٨٧.

٢٦

فقام الحسين عليه‌السلام فقال : والله لقد تركت من هو خير منه أبا وأمّا ونفسا!

فقال معاوية : كأنك تريد نفسك! إذا اخبرك : أما قولك : خير منه أما.

فلعمري أمّك خير من أمّه ، ولو لم تكن إلّا أنها امرأة من «قريش» لكان لنساء قريش فضلهن! فكيف وهي ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (صلاة بتراء) ثمّ هي فاطمة في دينها وسابقتها ، فأمّك لعمر الله خير من أمه!

وأمّا أبوك ، فقد حاكم أباه (يعني نفسه) إلى الله فقضى لأبيه (معاوية) على أبيك (عليّ عليه‌السلام)!

فقال الحسين عليه‌السلام : حسبك جهلك إذ آثرت العاجل على الآجل! فلم يجبه معاوية وقال :

وأما ما ذكرت من أنّك خير من يزيد نفسا. فيزيد ـ والله! ـ خير لأمة محمد منك!

فقال الحسين عليه‌السلام : هذا هو الإفك والزور : يزيد شارب الخمر ومشتري اللهو خير منّي!

فقال معاوية : مهلا عن شتم ابن عمك! فإنك لو ذكرت عنده بسوء لم يشتمك؟

ثمّ قال للناس : أيّها الناس ، قد علمتم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (صلاة بتراء) قبض ولم يستخلف أحدا! فرأى المسلمون أن يستخلف الناس! أبا بكر ، وكانت بيعته بيعة هدى! فلمّا حضرته الوفاة رأى أن يستخلف عمر ، فعمل عمر بكتاب الله وسنة نبيه ، فلمّا حضرته الوفاة رأى أن يجعلها شورى بين ستّة نفر اختارهم من المسلمين. فصنع أبو بكر ما لم يصنعه رسول الله ، وصنع عمر ما لم يصنعه أبو بكر ، وكل يصنعه نظرا للمسلمين! فلذلك رأيت أن أبايع ليزيد لما وقع الناس فيه من الاختلاف ، ونظرا لهم بعين الانصاف!

٢٧

فقام عبد الله بن الزبير فأكّد عليه أن يصنع كما صنع كلّ منهما حيث زووها عن أبنائهم ، فلم يتكلّم ونزل عن المنبر وانصرف إلى منزله ، وأمر أن يحضروا إليه هؤلاء الممتنعين عن البيعة (١).

قال اليعقوبي : وقال معاوية للحسين عليه‌السلام : يا أبا عبد الله ، علمت أنا قتلنا «شيعة أبيك» فحنّطناهم وكفّناهم وصلّينا عليهم ودفنّاهم! ـ كأنّه يهدّده ويمنّ بها عليه أيضا ـ.

فقال الحسين عليه‌السلام : حججتك وربّ الكعبة! لكنّا ـ والله ـ ان قتلنا «شيعتك» ما كفّنّاهم ولا حنّطناهم ولا صلّينا عليهم ولا دفنّاهم (٢)!

ثمّ قال له : «ولقد بلغني وقيعتك في عليّ عليه‌السلام وقيامك ببغضنا واعتراضك بني هاشم بالعيوب ، فإذا فعلت ذلك فارجع إلى نفسك ثمّ سلها الحقّ عليها ولها ، فإن لم تجدها أكثر عيبا في أصغر عيبك فيك فقد ظلمناك يا معاوية! فلا توترن غير قوسك ، ولا ترمينّ غير غرضك ، ولا ترينا بالعداوة من مكان قريب ، فإنّك والله لقد أطعت فينا رجلا ما قدم إسلامه ولا حدث نفاقه (فنفاقه قديم) ولا نظر لك ، فانظر لنفسك أو دع». قال الراوي صالح بن كيسان التابعي : يعني عمرو بن العاص (٣).

ونقل ابن عبد ربّه الأندلسي : أن سعد بن أبي وقاص كان ما زال حيّا وفي المدينة ومعروفا بكراهته لسبّ علي عليه‌السلام ، وعلم من معاوية أنّه يريد سبّه على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقيل له : إن هاهنا سعد بن أبي وقاص ولا نراه يرضى بهذا ، فابعث إليه وخذ رأيه!

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٨٨ ـ ١٩٠ ، وأشار خليفة إلى خطبته بالمدينة : ١٣١.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٣١.

(٣) الاحتجاج ٢ : ٢٠.

٢٨

فأرسل إليه وذكر له ذلك فقال : إن فعلت لأخرجن من المسجد ثمّ لا أعود أبدا!

فأمسك معاوية عن لعنه ، حتّى مات سعد ، فلمّا مات لعنه على المنبر ، فكتبت أمّ سلمة إليه : إنّكم تلعنون علي بن أبي طالب ومن أحبّه ، وأنا أشهد أن الله أحبّه ورسوله!

فلم يلتفت معاوية إلى كلامها (١) ولذا لم يزرها وإنما زار عائشة.

ثمّ ارتحل فقدم مكة :

لم يتعقّب اليعقوبي والمسعودي أخبار إصرار معاوية على البيعة ليزيد بولاية عهده ، في المدينة ولا مكة ، وذكرها خليفة بن الخيّاط والدينوري واتفقا على سنة ٥١ واختلفا في آخر مرحلة هل كانت بالمدينة كما ذكر الدينوري أو كانت بمكة كما لدى خليفة بن الخيّاط : أشار إلى خطبته بالمدينة ثمّ قال : ثمّ ارتحل فقدم مكة. وكأنّه حمل الممتنعين عن البيعة ، على الحجّ معه.

فروى ابن الخيّاط عن جويريّة بن أسماء عن شيوخ من المدينة قالوا : إنّ معاوية لمّا قرب من مكة وراح من موضع بطن مرّ قال لصاحب حرسه وكان معه ألف رجل! لا تدع أحدا يسير معي إلّا من حملته أنا! فلما كان في أوساط الأراك بعد بطن مرّ لقيه الحسين عليه‌السلام فوقف وقال : مرحبا وأهلا بابن بنت رسول الله وسيد شباب المسلمين! هاتوا لأبي عبد الله بدابة يركبها! فأتي ببرذون فتحوّل من الجمل عليه مع معاوية ثمّ طلع عبد الرحمن بن أبي بكر فقال له : مرحبا وأهلا بشيخ قريش وابن «صدّيق» هذه الأمة! هاتوا بدابة لأبي محمد! فأتي ببرذون فتحوّل من الجمل عليه. ثمّ طلع عليه ابن عمر فقال له : مرحبا وأهلا بصاحب رسول الله

__________________

(١) العقد الفريد ٢ : ١٠٣ وعنه في الغدير ١٠ : ٢٦٠.

٢٩

وابن «الفاروق» ودعا له بدابة فركبها. ثمّ طلع ابن الزبير فقال له : مرحبا وأهلا بابن حواريّ رسول الله وابن عمّة رسول الله وابن الصديق (من أمه أسماء) ثمّ دعا له بدابة فركبها ، فلم يزل يسايرهم حتّى دخل مكة : فقضى طوافه وارتحل إلى منزله بذي طوى فنزله ، حتّى قضى نسكه وترحلت أثقاله وقرب مسيره إلى الكعبة وأنيخت رواحله ، لم يعرض لهم بشيء مما هو فيه من بيعة يزيد. ثمّ خرج آذنه إليهم فأذن لهم فتوافقوا على أن يتكلّم عنهم ابن الزبير ثمّ دخلوا.

فتكلم معاوية فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم : قد علمتم سيرتي فيكم وصلتي لأرحامكم وصفحي عنكم وتحملي لما يكون منكم ، «ويزيد» ابن أمير المؤمنين أخوكم وابن عمّكم! وأحسن الناس فيكم رأيا ، وإنما أردت أن تقدّموه باسم الخلافة وتكونون أنتم الذين تنزعون وتؤمّرون وتجبون وتقسمون! لا يدخل عليكم في شيء من ذلك! ثمّ سكت وسكتوا فقال : أجيبوني! فسكتوا! فقال : ألا تجيبوني؟!

فخيره ابن الزبير أن يختار الأخذ بسيرة أبي بكر أو عمر. فقال : فهل عندك غير هذا؟ قال : لا ، قال : فأنتم؟ قالوا : لا. فقال : أمّا لا ، فإني أحببت أن أتقدّم إليكم أنّه : قد أعذر من أنذر! وإنه قد كان يقوم القائم منكم إليّ فيكذّبني على رؤوس الناس فأحتمل له ذلك وأصفح عنه! وإنّي قائم اليوم بمقالة إن صدقت فلي صدقي وإن كذبت فعليّ كذبي! وإنّي أقسم بالله لئن ردّ أحد منكم عليّ كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمته حتى يسبق إليّ رأسه! فلا يرعينّ رجل إلّا على نفسه!

ثمّ دعا صاحب حرسه فقال له : أقم على رأس كل رجل من هؤلاء من حرسك رجلين ، فإن ذهب رجل يردّ عليّ في مقامي هذا بكلمة بصدق أو كذب فليضرباه بسيفهما (١)!

__________________

(١) تاريخ ابن الخيّاط : ١٣٢ و ١٣٣.

٣٠

ثمّ خرج معاوية وأخرج معه هؤلاء النفر وقد ألبسهم ، فألبس الحسين حلّة صفراء ، وألبس عبد الله بن عباس حلّة خضراء ، وألبس ابن عمر حلّة حمراء! وألبس ابن الزبير حلّة يمانية بيضاء (١).

ثمّ خرج وأخرجوا معه حتى إذا رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم ، لا نستبدّ بأمر دونهم! ولا نقضي أمرا إلّا عن مشورتهم ، وإنهم قد رضوا (٢).

وروى خليفة عن ذكوان مولى عائشة أنه قال : إنا وجدنا أحاديث الناس ذات عوار! زعموا أنّ ابن أبي بكر «الصدّيق» وابن عمر وابن الزبير لم يبايعوا ليزيد ، وقد سمعوا وأطاعوا وبايعوا له. فقال أهل الشام : لا والله لا نرضى حتّى يبايعوا على رؤوس الناس! وإلّا ضربنا أعناقهم! وكأنه كان بإيعاز منه.

فقال لهم : مه! سبحان الله! ما أسرع الناس بالسوء إلى «قريش» لا أسمع هذه المقالة بعد اليوم من أحد (٣) فبايعوا باسم الله! فقام الناس وضربوا على يديه. ثمّ جلس على راحلته وانصرف.

فقال الناس لهؤلاء : زعمتم وزعمتم ، فلما أرضيتم وحبيتم فعلتموها! فيقولون : ما فعلنا! فيقولون لهم : فما منعكم إذ كذب الرجل أن تردّوا عليه (٤)!

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٩٠.

(٢) تاريخ خليفة : ١٣٣.

(٣) تاريخ خليفة : ١٣١ ، ١٣٢.

(٤) تاريخ خليفة : ١٣٣.

٣١

وتداول الناس : بايع ابن أبي بكر وابن عمر وابن الزبير! فيقولون : لا والله ما بايعنا ، فيقول لهم الناس : بلى لقد بايعتم (١) ثمّ بايع الناس من أهل المدينة. ثمّ خرج إلى الشام (٢).

وحيث ذكر الدينوري ذلك بالمدينة قال : ثمّ ارتحل راجعا إلى مكة (كذا) وقد أخرج لكل قبيل أعطياتهم وجوائزهم ما عدا بني هاشم! حتى لحق بمنزل الروحاء ، فلحقه ابن عباس فلم يؤذن له! فجلس ببابه! ومعاوية يقول : من بالباب؟ فيقال : عبد الله بن عباس! فلم يأذن له ونام ثمّ استيقظ وسأل : من بالباب؟ فقيل : عبد الله بن عباس! فقال : أدخلوا لي دابّتي فادخلت إليه بغلته. فركبها وخرج ، فوثب إليه ابن عباس! فأخذ بلجام البغلة وقال : إلى أين تذهب؟ قال : إلى مكة. قال : فأين جوائزنا كما أجزت غيرنا! فقال : والله ما لكم عندي جائزة ولا عطاء حتّى يبايع صاحبكم الحسين عليه‌السلام فقال ابن عباس : فقد أبى عبد الله بن عمر وابن الزبير وأخرجت جوائزهم! فقال معاوية : إنّكم لستم كغيركم فلا والله لا أعطيكم درهما حتّى يبايع صاحبكم! فقال ابن عباس : فلأتركنّهم خوارج عليك! فقال معاوية : بل أعطيكم ، وبعث بها من الروحاء ومضى إلى الشام.

ولم يلبث قليلا حتى توفي عبد الرحمن بن أبي بكر في نومه (٣).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ١٣٢.

(٢) تاريخ خليفة : ١٣٣ والفصل كلّه : ٢٢٧ ـ ٢٥٦.

(٣) الإمامة والسياسة ١ : ١٩٠ ، ١٩١ ، وقال في المعارف : ١٧٤ : مات فجأة سنة ٥٣ قرب مكة فدفن بها وعليه فهذه الأمور كانت قبل ذلك في سنة ٥٢ ، وليس في ٥٩ عمرة معاوية في ٥٦ كما في الطبري.

٣٢

وذكر الخبر الأول الجزري عن خطبته في مكة ثمّ قال : ثمّ ركب رواحله وانصرف إلى المدينة فبايعه أهل المدينة ثمّ انصرف إلى الشام ثمّ نقل خبر ابن عباس معه (١) وهذا أولى وأقرب.

وحاق الشرّ بزياد :

قال اليعقوبي : روي أن زيادا كان قد أحضر قوما بلغه أنّهم من «شيعة علي» ليدعوهم إلى لعنه والبراءة منه أو يضرب أعناقهم ، وهم سبعون رجلا!

فصعد المنبر وجعل يتكلم بالوعيد والتهديد ، فنام أحد هؤلاء فقال له آخر منهم : تنام وقد احضرت لتقتل ، فقال : من عمود إلى عمود فرج! لقد رأيت في نومتي هذه عجبا ، قالوا : وما رأيت؟ قال : رأيت رجلا أسود دخل المسجد فضرب رأسه السقف! فقلت له : من أنت يا هذا؟ قال : أنا النقاد ذو الرقبة ، قلت : وأين تريد؟ قال : أدق رقبة هذا الجبّار الذي يتكلم على هذه الأعواد!

فبينا زياد يتكلم على المنبر إذ قبض على خنصره اليمنى (٢) وصاح : يدي! وسقط عن المنبر مغشيّا عليه! فحمل وادخل قصر دار الإمارة واحضر له الطبيب فقال له : أيها الأمير أخبرني عن الوجع تجده في يدك أو في قلبك؟ قال : والله في قلبي اقطع يدي! فقال الطبيب : بل عش سويا (يعني أنه لا يدوم).

فأملى على كاتبه لمعاوية : إني كتبت إلى أمير المؤمنين : وأنا في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة ، وقد استخلفت على عملي خالد بن عبد الله بن خالد بن اسيد القرشي ، ومات سنة (٥٤).

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ٣ : ٢١٨ ـ ٢٢١ ، والغدير ١٠ : ٢٥٣.

(٢) وفي مروج الذهب ٣ : ٢٦ : ظهرت بثرة في كفه ثمّ اسودّت وصارت آكلة سوداء! لأن الناس دعوا عليه عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثة أيام! وذكر خبر الرؤيا.

٣٣

فلما توفي زياد ووضع نعشه ليصلّى عليه تقدّم ابنه عبيد الله ليصلّي عليه فنحّاه خالد وتقدّم فصلّى عليه. فلمّا فرغوا من دفنه (بثويّة الكوفة) خرج عبيد الله من ساعته إلى معاوية ، فقال له معاوية : يا بنيّ! ما منع أباك أن يستخلفك؟ أما لو فعل لفعلت! فقال عبيد الله : أنشدك الله أن يقولها لي أحد بعدك : ما منع أباه وعمّه أن يستعملاه! فولّاه خراسان حتّى ثغر الهند! فصار عبيد الله إلى خراسان فقاتل خاتون ملكة بخارى حتّى فتحها سنة (٥٥) ، ثمّ كان أول عربي قطع نهر بلخ وحارب أهل بلخ حتّى فتحها سنة (٥٦) فولّاه معاوية البصرة وولّى على خراسان أخاه عبد الله فاستضعفه وعزله ، وولّى أخاه عبد الرحمن فلم يحمده فعزله (١).

وكان زياد ولي العراق اثنتي عشرة سنة (من ٤٢ إلى ٥٤) وكانت له رجلة وصولة ودهاء! وكان يقول : ينبغي أن يكون كتّاب الخراج من رؤساء الأعاجم العالمين بأمور الخراج ، فأفرد كتّاب الرسائل والدواوين من الموالي المتفصّحين بالعربية ومعهم من العرب ، وهو أول من وضع النسخ للكتب ودوّن الدواوين في العراقين. وكان أول من بسط أرزاق عمّاله ألف درهم ألف درهم وقرّر لنفسه خمسة وعشرين ألف درهم (٢)! وكان موت زياد في شهر رمضان (٣) في الرابع منه (٤).

وكان قد استقرّ خراج العراق وما يضاف إليه مما كان في مملكة الفرس في أيام (زياد) على ستمئة ألف ألف وخمسة وخمسين ألف ألف (٦٥٥ مليون)

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٣٥ ـ ٢٣٧.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٣٤.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٢٨٨ وحسب موته بالطاعون بدعاء ابن عمر!

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ٢٩٧.

٣٤

درهما. وكان خراج السواد ألف ألف وعشرين ألف ألف (١٢٠ مليون) درهما. وكان خراج كور دجلة ، عشرة آلاف ألف (١٠ ملايين) درهما ، وخراج حلوان : عشرين ألف ألف (٢٠ مليون) درهما ، وخراج نهاوند والدينور وهمدان وما يضاف إلى ذلك من أرض الجبل : أربعين ألف ألف (٤٠ مليون) درهما. وخراج الريّ وما يضاف إليها : ثلاثين ألف ألف (٣٠ مليون) درهما ، وخراج الأهواز وما يضاف إليها أربعين ألف ألف (٤٠ مليون) درهما ، وخراج فارس : سبعين ألف ألف (٧٠ مليون) درهما ، وخراج آذربايجان ثلاثين ألف ألف (٣٠ مليون) درهما ، وخراج الموصل وما يضاف إليها ويتّصل بها : خمسة وأربعين ألف ألف (٤٥ مليون) درهما ، وخراج اليمامة والبحرين : خمسة عشر ألف ألف (١٥ مليون) درهما وكان صاحب العراق يحمل إلى معاوية من صوافيه في هذه النواحي مئة ألف ألف (١٠٠ مليون) درهما ، فمنها كانت صلاته وجوائزه (١).

سعيد بن عثمان ومعاوية :

لم يكن سعيد بن عثمان بن عفّان من أتراب أبناء الأصحاب الكبار الممتنعين عن بيعة يزيد ، إلّا أنّه كان من أبناء الخلفاء المترشحين للخلافة ، وكان من أهل المدينة من يفضّله على يزيد ، فكان قد بلغ معاوية أنّهم يرتجزون :

والله لا ينالها يزيد

حتّى يعضّ هامه الحديد

 إنّ الأمير بعده سعيد

ودخل على معاوية فقال له : يابن أخي ما شيء يقولونه أهل المدينة وحكى له الرجز ، فقال له : وما تنكر من ذلك يا معاوية؟! والله إن أبي لخير من

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٣٣ والأرقام هذه من ميّزات هذا الكتاب وترتيبها منّا.

٣٥

أبي يزيد ، ولأمّي خير من أمّه ، ولأنا خير منه ، ولقد استعملناك فما عزلناك بعد ، ووصلناك فما قطعناك ثمّ صار في يديك ما ترى فحلأتنا عنه أجمع (١)!

فضحك معاوية وقال له : يابن أخي أمّا قولك : إنّ أباك خير من أبيه ، فيوم من عثمان خير من معاوية وأما قولك : إنّ أمّك خير من أمّه ، ففضل «قرشيّة» على كلبيّة فضل بيّن! وأما أن أكون نلت ما أنا فيه بأبيك فإنّما هو الملك يؤتيه الله من يشاء! قتل أبوك فتواكلته بنو العاص وقامت فيه بنو حرب! فنحن أعظم بذلك منّة عليك ، وأمّا أن تكون خيرا من يزيد ، فو الله ما أحبّ أن داري مملوءة رجالا مثلك بيزيد ، ولكن دعني من هذا القول وسلني أعطك!

فقال سعيد بن عثمان : يا أمير المؤمنين ، لا يعدم يزيد مزكّيا ما دمت له. وما كنت لأرضى ببعض حقّي دون بعض ، فإذا أبيت فأعطني مما أعطاك الله.

فقال معاوية : لك خراسان! فقال : وما خراسان؟ قال : إنّها طعمة لك وصلة رحم (٢).

وروى الطبري ، عن النميري البصري ، عن المدائني البصري : أن سعيدا هو الذي طلب من معاوية تولية خراسان فقال له : إن بها عبيد الله بن زياد ، وذلك في سنة (٥٦ ه‍) ، فلمّا عتب عليه سعيد وردّه معاوية شفع له يزيد فقال : يا أمير المؤمنين ، ابن عمّك وأنت أحقّ من نظر في أمره ، وقد عتب عليك فأرضه. فولّاه خراسان حربها وخراجها (٣) بعد عبد الرحمن بن زياد فقطع النهر وصار إلى بخارى وقد تمرّدت خاتون ملكة بخارى فطلبت الصلح ثمّ حاربت فحاربها سعيد في مقتلة عظيمة حتّى ظفر بهم ، ثمّ سار إلى سمرقند فحاصرها ، وكان معه

__________________

(١) تاريخ دمشق لابن عساكر ٦ : ١٥٥ ، وعنه في الغدير ١٠ : ١٣٥.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ١٩١.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٣٠٥.

٣٦

قثم بن العباس فمات بها ثمّ دخل المدينة ثمّ ولّى معاوية مكانه أسلم بن زرعة ، فعاد سعيد إلى معاوية ثمّ إلى المدينة ومعه أسراء من أولاد ملوك السغد فوثبوا عليه وقتلوه ثمّ قتل بعضهم بعضا حتّى لم يبق منهم أحد (١).

خوارج بالكوفة والبصرة :

مرّ الخبر سابقا عن خروج المستورد بن علّفة مع بقايا خوارج النهروان على المغيرة الثقفي ، وظفر المغيرة بنحو مئة منهم فسجنهم ، فلما مات وقبل أن يستولي زياد خرجوا من سجن الكوفة سنة (٥٣).

وفي سنة (٥٨) بعد أن توالى على الكوفة بعد المغيرة زياد إلى (٥٣) وخليفته عبد الله بن خالد بن أسيد إلى (٥٦) والضحّاك بن قيس الفهري إلى (٥٨) ثمّ عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي ابن أمّ الحكم أخت معاوية ، وبعد سنة من حكمه في الأول من ربيع الثاني تجمّعوا إلى حيّان بن ظبيان السلمي وبايعوه للخروج عليه فخرجوا إلى بانقيا ، فبعث إليهم جيشا فقتلوا جميعا. ثمّ طغى ابن أم الحكم فأساء السيرة فطرده أهل الكوفة فلحق بخاله معاوية فبعثه إلى مصر فردّه عنها معاوية بن حديج الكندي (٢).

وفي سنة (٥٦) حيث ولّى معاوية سعيد بن عثمان بن عفّان خراسان ، أعاد عبيد الله بن زياد إلى حكم أبيه على البصرة ، فاشتدّ بها على خوارجها منهم مرداس بن أديّة سجنه ، فاعترض أخوه عروة بن أدية على ابن زياد قال له : خمس كنّ في الأمم قبلنا صرن فينا ثلاثة منها في قوله سبحانه : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٣٧. كلّ كذلك سنة (٥٧) وفي (٥٨) مات عبيد الله بن العباس بمكة ـ تاريخ خليفة : ١٣٩.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣٠٩ ـ ٣١٢.

٣٧

آيَةً تَعْبَثُونَ* وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ* وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ)(١) وذكر خصلتين أخريين ، فتركه ابن زياد ثمّ طلبه فهرب إلى الكوفة فأخذ ابنه فقطع يديه ورجليه وقتل ابنته! وعزم على قتل سائر الخوارج ومنهم أخو هذا مرداس ، فأحضره فشفع فيه سجّانه فأطلقه ، فخرج في أربعين منهم إلى قرية آسك من الأهواز ، فبعث إليهم ابن زياد جيشا فقتل الخوارج جمعا منهم وهزموهم (٢).

مولد الباقر عليه‌السلام :

تولّى الحسين بعد أخيه الحسن عليهما‌السلام رعاية صغاره ، ومنهم ابنته أم عبد الله من أم ولد له (٣) ، فزوّجها لابنه علي السجاد عليه‌السلام فولدت له ابنا ، يبدو أن جدّه الحسين عليه‌السلام سمّاه باسم جدّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ممتثلا نهيه عن الجمع بين اسمه وكنيته : أبي القاسم ، فكنّاه بأبي جعفر (٤) سنة ثمان وخمسين (٥) في أول يوم من شهر رجب الحرام (٦).

خطبة الحسين عليه‌السلام بمنى :

لم يحفل المؤرّخون بأمراء مكة وإنما حفلوا وذكروا امراء موسمها والمدينة ،

__________________

(١) الشعراء : ١٢٨ ـ ١٣٠.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٣١٢ ـ ٣١٤.

(٣) الإرشاد ٢ : ٢٠.

(٤) الإرشاد ٢ : ١٥٥.

(٥) تاريخ أهل البيت عليهم‌السلام : ٨٠.

(٦) مسارّ الشيعة الكرام : ٥٦ وفي المجموعة النفيسة : ٦٩ عن جابر الجعفي فلعلّه عنه عليه‌السلام.

٣٨

وغالبا كانا متّحدين أي كان أميرها هو أمير الموسم إلّا نادرا. وعزل معاوية سعيد بن العاص وأمّر مروان سنتين ، ثمّ عزله وأمّر الوليد بن عتبة بن أبي سفيان من سنة (٥٧) حتّى مات معاوية سنة (٦٠). وعرف مروان بمرارة أمره مع بني هاشم على عكس الوليد.

ولعلّ خروج أولئك الخوارج بالكوفة والبصرة أوحى أنّ أمر معاوية قد أوهى شيئا ما.

فروى سليم بن قيس الهلالي : أنّ الحسين عليه‌السلام حجّ قبل موت معاوية بسنة أو سنتين (٥٨ ه‍) ، ومعه ابنا عمّيه عبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر ، فلما كانوا بمنى جمع إليه من حجّ من بني هاشم رجالهم ونساءهم ومواليهم و «شيعتهم» ومن يعرف من أهل بيته والأنصار. وأرسل رسلا وقال لهم : لا تدعوا أحدا ممّن حجّ العام من أصحاب رسول الله المعروفين بالصلاح والنسك إلّا أن تجمعوهم لي : فاجتمع إليه في سرادقه نحو من مئتي رجل من أصحاب النبي ، وأكثر من سبعمئة رجل من التابعين وغيرهم. ثمّ قام فيهم الحسين عليه‌السلام خطيبا :

فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما بعد ، فإن هذا الطاغية (معاوية) قد فعل بنا و «شيعتنا» ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم! وإني أريد أن أسألكم عن شيء فإن صدقت فصدّقوني وإن كذبت فكذّبوني! أسألكم بحقّ الله عليكم وحقّ رسول الله وحقّ قرابتي من نبيّكم! لما سبرتم مقامي هذا ووصفتم مقالتي ، ودعوتم من أنصاركم في قبائلكم من أمنتم من الناس ووثقتم به ، فأدعوهم إلى ما تعلمون من حقّنا ، فإنّي أتخوّف أن يدرس هذا الأمر ويذهب الحق ويغلب! (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(١) ثمّ قال :

__________________

(١) الصف : ٨.

٣٩

أتعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فضّل (عليا) على جعفر وحمزة (١) حين قال لفاطمة : «زوّجتك خير أهل بيتي : أقدمهم سلما ، وأعظمهم حلما وأكثرهم علما» قالوا : اللهم نعم.

قال : أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «أنا سيّد ولد آدم ، وأخي سيد العرب ، وفاطمة سيدة نساء أهل الجنّة ، وابناي الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة» قالوا : اللهم نعم!

قال : أتعلمون أنه كانت له من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كل يوم خلوة وفي كل ليلة دخلة ، إذا سأله أجابه وإذا سكت ابتدأه؟ قالوا : اللهم نعم!

قال : أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قضى بينه وبين زيد وجعفر فقال له : «يا عليّ ، أنت منّي وأنا منك ، وأنت وليّ كل مؤمن ومؤمنة بعدي»؟ قالوا : اللهم نعم.

قال : أتعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم تنزل به شدّة قط إلّا قدّمه لها ثقة به ، وأنه لم يدعه باسمه قط إلّا أن يقول : يا أخي أو ادعوا لي أخي؟ قالوا : اللهم نعم!

قال : أنشدكم الله ، أتعلمون أنه دفع إليه اللواء «يوم خيبر» وقال : «لأدفعه إلى رجل يحبّه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله ، كرّار غير فرّار ، يفتحها الله على يديه»؟ قالوا : اللهم نعم!

قال : أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اشترى موضع مسجده ومنازله فابتناه ، ثمّ ابتنى فيه عشرة منازل (تدريجا) تسعة له ، وجعل أوسطها لأبي ، ثمّ خطب صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «إن الله أمر موسى أن يبني مسجدا طاهرا لا يسكنه غيره وغير هارون وابنيه ؛ وإن الله أمرني أن ابني مسجدا طاهرا لا يسكنه غيري

__________________

(١) هذا وعبد الله بن جعفر حاضر يسمعه ، ويومئذ كان جعفر في هجرة الحبشة ، وراعينا في المناشدات تواريخ وقوع حوادثها.

٤٠