الشيخ محمّد جواد آل الفقيه
الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٤٠
فلم يظهر محمد وإبراهيم ، فسأل أباهما عبد الله عنهما ، فقال : لا علم لي بهما ، فتغالظا ، فأمصّه ـ شتمه ـ أبو جعفر المنصور حتى قال له : أمصص كذا كذا من أمك ! فقال : يا أبا جعفر ؟ بأي أمهاتي تمصني ؟ أبفاطمة بنت رسول الله ( ص ) أم بفاطمة بنت الحسين بن علي ؟ أم بأم إسحاق بنت طلحة ؟ أم بخديجة بنت خويلد ؟ قال : لا بواحدة منهن ، ولكن بالحرباء بنت قسامة بن زهير ! وهي إمرأة من طيء . فقال المسيب بن زهير : يا أمير المؤمنين ، دعني أضرب عنق ابن الفاعلة ! فقام زياد بن عبيد الله ، فألقى عليه رداءه ، وقال : هبه لي يا أمير المؤمنين ، فأستخرج لك ابنيه . فخلصه منه ( الكامل ٥ / ١٨٥ ) وكان عبد الله هذا قد مات في محبسه في الهاشمية أيام المنصور .
وأراد أبو جعفر أن يزيد في المسجد الحرام ـ بعد أن شكا الناس ضيقه ـ فكتب إلى زياد بن عبيد الله الحارثي أن يشتري المنازل التي تلي المسجد حتى يزيد فيه ضعفه ، فامتنع الناس من البيع ، فذكر ذلك لجعفر بن محمد الصادق ( ع ) ، فقال : سلهم ! أهم نزلوا على البيت ؟ أم البيت نزل عليهم ؟ فكتب بذلك إلى زياد ، فقال لهم زياد بن عبيد الله ذلك ، فقالوا : نزلنا على البيت . فقال جعفر بن محمد : فإن للبيت فناءه . فكتب أبو جعفر إلى زياد بهدم المنازل التي تليه . فهدمت المنازل وأدخلت عامة دار الندوة حتى زاد فيه ضعفه . راجع اليعقوبي ٢ / ٣٦٩ .
ويقال ، أن زياداً هذا ، كان فيه بخلٌ وجفاء .
ومن طريف ما يروى في ذلك : أن بعض كتابه أهدى له سلالاً فيها طعام ، وكانت مغطاة ، فوافقته وقد تغدى ، فغضب وقال : يبعث أحدهم الشيء في غير وقته ، ثم قال لصاحب شرطته ـ خيثم بن مالك ـ أدع لي أهل الصُفّة ـ أضياف مسجد الرسول من المساكين ـ يأكلون هذا .
فقال الرسول الذي جاء بالسلال : أصلح الله الأمير ، لو أمرت بهذه السلال تفتح ، وينظر ما فيها ؟
قال : إكشفوها ، فكشفوها وإذا طعام حسن من دجاج ، وجداء ، وسمك ، وأخبصة ـ تمر وسمن ـ وحلواء .
فقال : ارفعوا هذه السلال .
وجاء أهل الصُّفة ، فأخبر بهم ، فأمر باحضارهم وقال : يا خيثم بن مالك ، إضربهم عشرة أسواط ، فإنه بلغني أنهم يجتمعون في المسجد فيفسون فيه ، ويؤذون الناس . وإلتفت إليهم وقال : لا أعلم أنه اجتمع فيه منكم اثنان ، بعد اليوم . قصص العرب ٤ / ٤٤٩ والعقد الفريد ٦ / ١٨٠ بتصرف .
ياسر في مكة
كان لياسر أخٍ ترك بلاد اليمن إلى مكة ، إما لأداء المناسك ، وأما طلباً للُقمة العيش ـ على الأغلب ـ ليقيم بها أوده ، نظراً للمحنة الإِقتصادية التي لفّت بلاد اليمن آنذاك ، ويبدو أنه لم يوضح لإِخوته سبب رحيله ، فكان بحكم المفقود والضائع ، سيما بعد أن طال غيابه ، وانقطعت أخباره ، فرأى ياسر أن يذهب في طلبه ليرجعه إلى منزله في مضارب قومه بني عنس ، فخرج من اليمن هو وأخوان له ، أحدهما يقال له : الحرث . والثاني : مالك ، قاصدين مكة علّهم يجدونه فيها ويحملونه معهم .
لكن مكة أم الدنيا ، يغمر حنانها كل
قادم إليها ، فيجد نفسه مشدوداً نحوها ، غارقاً في حبها . يفارقها مكرهاً غير مختار إن فارق ، ويقيم بها مفعماً بألوان السعادة ، إن قدر له أن يقيم ، فكان ياسر واحداً ممن استهوتهم تلك البقعة المباركة وتملك حبها في قلبه ، فآثر البقاء فيها على الرجوع إلى اليمن ، وفي هذا الحال كان عليه أن يحكم أمره ليتمكن من العيش فيها بكرامة ، فحالف أحد ساداتها المبرزين ، وهو أبو حذيفة بن المغيرة المخزومي ، وكان هذا شيخاً كبيراً أكسبته الحياة كثيراً من الخبرة والحنكة والمرونة ، فاستطاع أن يتغلب على مرارتها وقسوتها بلين الشيوخ ، وعقلية المجربين ، لذلك كان سمحاً ، سهلاً ، لا يأبه كثيراً بمغريات الحياة وعلائقها
الإِجتماعية ، إذا كان يغلب على تصرفاته طابع اللامبالاة مع إبداء القوة والقدرة حين يستدعي الأمر ذلك . فهو على جانب من السعة في الثراء ، والنفوذ ، فقَبل الحلف مع ياسر ، وأصبح ياسر في غبطةٍ من العيش في ظل هذا الشيخ .
وكان لأبي حذيفة أمَةٌ يقال لها سُميّة ، أدبها الغنى وأذلها الرق ، فكانت على جانب من العقل والوقار ، إلى شيء من الجمال الهادىء الوديع ، وهي لا زالت في مقتبل العمر ، فأحبها ياسر ، وعلق قلبه بها ، ولم يكن ذلك ليخفى على الشيخ ، فقد كان يقرأ في وجه حليفه الرغبة في التزويج منها ، فزوجه إياها .
ظل ياسر مع زوجه سمية يمنحها الحب والحنان ، ويزرع في عينيها أزاهير الرجاء من جديد بعد أن أمحلت الدنيا فيهما ، فهي لم تكن سوى أمةٍ مملوكة تسير في متاهات العبودية ، ترى الحياة أمام عينيها قيوداً وحواجز وسدوداً ، فهي لا تملك حتى أبسط حقوق الإنسان ، بل لا تملك حتى إرادتها في تقرير المصير ، وها هي الآن تشم رائحة الحرية وتتنسم عبيرها مع زوجها ياسر ، وكأنها ترى فيه ملاكاً أرسلته السماء إليها لخلاصها وإنقاذها .
وحملت سمية بعمار ، فأقبلت إلى ياسر تسر إليه بالبشرى ، وكم كان جذلاً فرحاً بذلك إلا أن الحمل ربما كان أنثى !! لم تطل الفرحة ، فالأنثى في منظور الجاهليين عار يضاف إلى تعاسة الفقراء ، وذلٌّ يضاف إلى عز الأغنياء ، رغم أنهم لولاها ما وجدوا ولا كانوا ولا عرفوا طعم الحياة .
وأطرق ياسرٌ إلى الأرض في دوامةٍ من التفكير تركته يتأرجح بين اليأس والرجاء ما لبث بعدها أن رفع رأسه ، والتفت إلى سمية : من يدري ، ربما كان ذكراً . . . سأسميه عمّاراً !
ولا يُسرّ ياسر في نفسه أمله ورغبته في
أن يكون الحمل ذكراً . . . لا يُسّرُّ ذلك طويلاً . فكان كلما حملته قدماه إلى البيت ، بيت الله ، ومقام
إبراهيم ، يطوف حوله ، ثم يتضرع لإِله إبراهيم أن يمنحه القدرة على مواجهة الحياة ، وأن ييسر له موارد العيش ، ولا ينس بالتالي التضرع إليه بأن يرزقه ولداً يعينه على ذلك ، ويرحم به شيخوخته .
ومضت أشهر تسع أعقبها وفود عمار إلى الدنيا ، وكاد ياسر أن يطير فرحاً بالبشرى لولا أن خيوطاً سوداء كانت تحجب أمله الزاهي ، وتكدر عليه فرحه ، فينقلب الحلم الأخضر إلى حقيقةٍ مرة . . الرق . . الرق المشؤوم . . فلقد كانت العادة تقضي بأن ابن الأمة رق مملوك لسيدها الأول ، يضاف إلى قائمة أملاكه حتى ولو كان أبوه حرّاً سيداً .
كان هذا الواقع يحول دون إكتمال الفرحة في نفس ياسر وزوجه سميّة ، فها هي العبودية تنهد بحقدها وقسوتها نحو هذا الطفل لتحرمه وتحرم أبويه أعز شيء في الحياة . . وهل أحلى وأجمل وأعز من الحرية !
ويغرق ياسر في سحابة من التفكير ثم ما يلبث أن ينظر في عيني الطفل البريئتين ، فيعود إليه أمله ، ولكن ضئيلاً هزيلاً سرعان ما ينطفىء . . ثم يتطلع إلى عيني سميّة ، فيقرأ فيهما الحنان المتعب ، والصورة المرهقة لمستقبل هذا الوليد ، فيطرق نحو الأرض تاركاً لعينيه الحرية في صوغ الدمع تعبيراً عن الأسى والحزن .
لكن أبا حذيفة ، ذلك الشيخ الوقور كان ـ كما قدمنا ـ يتمتع بانسانية نبيلة وإحساس مرهف تركاه يتنازل عن حقه الذي تفرضه العادات والتقاليد الجاهلية ، فكان أن وهب لعمار حريته وأرجع لأبويه البسمة والفرح والسعادة . وتحركت شفتا ياسر وزوجه سميّة بالدعاء له والثناء عليه بأحلى آيات الثناء ، وكم تضرعا إلى الآلهة بأن ترحم شيخوخته ، وتوطد له مجده وعزه ! .
نشأته . . وصفاته وصحبته للنبي ( ص )
للحلف أو العهد آثارٌ طيبة ، تعود على المتحالفين بالنفع ، إذ يضيف إلى قوتهم قوة وإلى منعتهم منعة ، كما يحول دون النيل من كرامة أحد الطرفين المتحالفين ، سيما إذا كان ضعيفاً أو لاجئاً اضطرته الظروف إلى حماية نفسه بالحلف ، إلا أن المردود السلبي للتحالف يعود بالضرر على الطرف الضعيف فقط ، لأنه لا يمكنه بحالٍ الإِستقلال عن حليفه القوي في تقرير مصيره ، أو إتخاذ موقف معين تمليه عليه إرادته أزاء قضية ما ، وقد ظهر ذلك جلياً في محنة الضعفاء والمحالفين المسلمين في مكة .
لقد حالف ياسر أبا حذيفة المخزومي ليحمي نفسه في مكة ، وسرى هذا الحلف إلى ولديه عبد الله وعمّار ، أما سمية ، فهي مولاة مملوكة لأبي حذيفة تقضي التقاليد بملكية نسلها له أيضاً لولا أن وهبهم الحرية وأعتقهم ، وبذلك غلب على عمّار لقب « حليف بني مخزوم » تارةً ، ومولى بني مخزوم ، تارةً ثانية .
ومهما يكن ، فقد نشأ عمار وعاش هو
وأبواه وأخوه في ظل حليفهم أبي حذيفة المخزومي ، وبذلك أدرجوا جميعاً في قائمة الضعفاء والدهماء والصعاليك ، الذين لا وزن لهم ولا خطر في نظر المجتمع المكي ، محكومين غير حاكمين ، ومأمورين غير آمرين ، وحياة كهذه تبعث على التمرد في غالب الأحيان لما فيها من السأم والتبرم والشعور بالحيف . سيما إذا كانت
الطبائع حرةً كريمة لا تألف الذل ، ومع هذا فإنه لم يؤثر عن هذه الأسرة ـ أسرة آل ياسر ـ إلا جميل الذكر وطيب الأثر في سيرتهم وسلوكهم مع حلفائهم بل ساداتهم بني مخزوم .
كانت ولادة عمار في عام الفيل ـ على نحو التقريب ـ كما يستفاد ذلك من قوله : « كنت ترباً لرسول الله » ولم يكن أحد أقرب سناً إلى النبي ( ص ) منه (١) .
وكان أسمر اللون كأنما عجنت طينته بمسك ، مديد القامة ، ولد من عائلة الرماح بعيدٌ ما بين منكبيهُ ، صيغ تجسيداً للمهابة ، أشهل ، أصلع ، في مقدم رأسه شعرات ، وفي قفاه شعرات .
طويل الصمت كأنما تحدثه الملائكة ، سديد الرأي ، لا يخدع عن الصواب ، راجح العقل ما خيّر بين أمرين إلا إختار أيسرهما ، زكي النفس ، سخي اليد ، هيّاب للحق ، جريىء به لا يلوى فيه ولا يصرف عنه (٢) .
نهد نحو الرجولة وهو بعد لم يزل في سن الشباب ، فتحلى بأرفع خصالها فكان فيه عقلٌ ونبلٌ ، ومروءة ، وبُعدُ نظر ، إلى جانب القوة والشجاعة .
هذه السجايا الكريمة ساعدته في تخطي ظروفه الإِجتماعية الصعبة ليصادق سيد شباب مكة محمد بن عبد الله قبل نبوته ، صداقةً لا تخرجه عن حدود الأدب بين يديه ، وكأنه أدرك فيه سرَّ النبوة التي غيّرت مسار التأريخ . . . صاحَبَ محمداً رغم الفوارق الإِجتماعية الكبرى بينهما ، فمحمد بن عبد الله جده عبد المطلب سيد البطحاء بلا منازع ، وعمه أبو طالب شيخ الأبطح وزعيمها ، والهاشميون بالتالي هم سادة قريش والعرب لا يختلف في ذلك إثنان .
أما عمّار ، فلاجىء محالف لبني مخزوم ، لا يملك دون رأيهم رأياً ، وليس له أن يفعل دون إرادتهم شيئاً ! الفارق بينهما إذن كبيرٌ جداً ، ومع ذلك
__________________
(١) شرح النهج : ١٠ / ١٠٢ .
(٢) حليف مخزوم / ١٧ .
كان هناك قاسم مشترك جمع بينهما ، عقل عمار ونبله وأمانته ، وسر النبوة الذي كان لا يزال بعد في مطاوي الغيب يشع من عيني محمد أملاً وصفاءً ورجاء يستقر في قلوب الضعفاء والمقهورين ويميط عن أعينهم طيوف اليأس ووحشة الحياة .
إستطاع عمّار أن يصاحب محمداً في شبابه ، وأن يكون أميناً على شؤونه الخاصة ، لا يفش له سراً ، كما لا يألُ جهداً في إرضائه ، فكان يتوخى ما يسره ويؤنسه ، شأن الصديق المخلص لصديقه ، حتى أنه كان الوسيط في زواجه من أم المؤمنين خديجة .
وكانت خديجة من أكثر أهل مكة ثراءً ، وكانت قوافلها تعمل في التجارة بين الشام والحجاز ، وكانت من أهل الشرف والمكانة ، كما كانت على جانبٍ من الجمال ، رغب فيها أشراف مكة وكبراؤها ، فرغبت عنهم وردّتهم ، وألقى الله في قلبها حُبَّ محمدٍ ( ص ) فبادرت إلى عرض نفسها للزواج منه .
حدثنا عمار وهو يسرد كيفية زواج النبي ( ص ) من خديجة ، فقال : كنت صديقاً له ، فإنّا لنمشي يوماً بين الصفا والمروة إذا بخديجة بنت خويلد وأختها هالة ، فلما رأت رسول الله ( ص ) جاءتني هالة أختها فقالت : يا عمار ؛ أما لصاحبك حاجة في خديجة ؟
قلت : والله ما أدري ، فرجعت فذكرت ذلك له ، فقال : إرجع فواضعها (١) وعدها يوماً نأتيها فيه . ففعلت . فلما كان ذلك اليوم أرسلت إلى عمها عمرو بن أسد وسقته ذلك اليوم ، ودهنت لحيته بدهن أصفر ، وطرحت عليه حبراً ، ثم جاء رسول الله ( ص ) في نفرٍ من أعمامه تقدمهم أبو طالب .
فخطب أبو طالب ، فقال الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم ، وذرية إسماعيل ، وجعل لنا بيتاً محجوجاً ، وحرماً آمناً ، وجعلنا الحكام على الناس ، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه . ثم إن ابن أخي محمد بن عبد الله لا يوزن برجل من قريش إلا رجح ، ولا يقاس بأحدٍ إلا عظم عنه ،
__________________
(١) واضعها : فاتحها في الأمر .
وإن كان في المال قل (١) فإن المال رزق حائل ، وظل زائل ، وله في خديجة رغبة ، وصداق ما سألتموه عاجله من مالي ، وله والله خطب عظيم ، ونبأ شائع . فتزوجها وانصرف .
قال عمار : فلما أصبح عمها عمرو بن أسد ، أنكر ما رأى ، فقيل له : هذا ختنك محمد بن عبد الله أهدى لك هذا . قال : ومتى زوجته ؟ قيل له : بالأمس ؛ قال : ما فعلتُ . قيل له : بلى نشهد أنك قد فعلت .
فلما رأى عمرو رسول الله ( ص ) قال : إشهدوا أني إن لم أكن زوجته بالأمس ، فقد زوجته اليوم (٢) .
إلى جانب هذا ، كان عمار في تجواله مع النبي ( ص ) في بطاح مكة وشعابها ، وبين الصفا والمروة ، وحول البيت ، يصغي مسامع قلبه إلى أحاديث النبي وكلماته ، فقد كان محمد قبل البعثة يمثل صحوة العقل الإِنساني ونقاء الضمير فيه ، كثير التأمل في ظواهر الكون والخلق ، شديد التنديد بآلهة قريش وعابديها والمروجين لها ، أولئك الذين استحكم الجهل والعمى في نفوسهم فانحرفوا عن المسار الفطري السليم ، وجنحوا بالإِنسانية النقية الطاهرة إلى مهاوي الغي والضلال ، فابتعدوا عن حنيفية إبراهيم وشرائع الأنبياء ، وباعوا ضمائرهم للشيطان يملي عليهم ما يشاء من نواضح كيده ، وبهارج زينته ، فيتركهم يتخبطون في ظلام الجاهلية ، لا يرون أبعد من آنافهم ، وهل أذلّ وأضعف وأحقر من إنسان يستعين على أموره بحجرٍ زاعماً أنه الآلهة التي تملك كل شيء وتفعل كل شيء ، أو أنها تقربه إلى الله الخالق !؟ جنون يا له من جنون !!
كانت أحاديث النبي وكلماته وتنديداته توقض الجانب الإِيماني في نفس عمار ، كما تلهب فيه الشعور بالتقصير ، تقصير الإِنسان في حق نفسه وربه ،
__________________
(١) أي قليل المال .
(٢) اليعقوبي : ٢ / ٢٠ .
وتلفته في نفس الوقت إلى ضرورة العمل في سبيل إنقاذ ذلك المجتمع الغارق في بحر الظلام .
يصغي عمار إلى كلمات محمد ( ص ) وكأنه يتلقى دورة تدريبيةً تؤهله للقيام بواجباته في المستقبل القريب الذي ينتظره .
بهذا المفتتح الرائع كانت بداية الرسالة الإِسلامية لأهل هذا العالم كافة ، ففي غار حراء كان النبي محمد ( ص ) يخلو بنفسه هناك غارقاً في سبحات التأمل والتفكر ، متخشعاً لربه ، بعيداً عن حماقات الوثنية التي كانت تملأ مكة وتكتنف شبه الجزيرة العربية ، كان ( ص ) هو والحق على موعد ، ففي تلك اللحظات التأريخية فجأه الوحي بأول كلمات الرسالة :
كلمات على إختصارها تشتمل على معانٍ غاية في الدقة ، فيها حثٌّ للإِنسان على فهم العوالم التي حوله ، ومن ثمَّ على فهم ذاته بواسطة العلم الذي هو موهبة من الله سبحانه الذي علم الإِنسان ما لم يعلم .
إن هذا المفتتح الكريم هو أول وثيقةٍ دينية تسجل إنتصار العلم في هذا العالم مما يؤكد أن الإِسلام والعلم يرشحان من منهلٍ واحد ، وكل منهما يدعم صاحبه .
كان ذلك يوم الإِثنين ـ على الأشهر ـ (١) وله ( ص ) من العمر أربعون
__________________
(١) أكثر المفسرين على أن هذه السورة هي أول ما نزل من القرآن ، وأن يوم الإثنين هو أول يوم نزل فيه جبرئيل على رسول الله ( ص ) وهو قائم على حراء ، علمه خمس آيات من هذه السورة . البحار : ١٨ ـ ١٧٤ .
سنة وكان قد ستر أمره ودعوته ثلاث سنين ، ولم يطلع أحداً من الناس على ذلك نعم أسرَّ بدعوته إلى اثنين هما ألصق الناس به ، خديجة أول امرأة تؤمن به وعلي ـ رغم صغر سنه ـ أول ذكرٍ يؤمن به .
أما خديجة ، فتلك المرأة الصالحة التي رغب بالقرب منها أشراف العرب ، فلفظتهم ورغبت عنهم وعن دنياهم واختارت محمداً .
وأما علي ، فذلك الصبي الذي كان لا يكاد يفارق محمداً في حلٍّ ولا ترحال ، حتى قال هو عن نفسه واصفاً علاقته بالنبي : « كنت أتبعه إتباع الفصيل لأمه . . . » .
قال محمد بن إسحاق : لم يسبق علياً إلى الإِيمان بالله ورسوله ورسالة محمد ( ص ) أحد من الناس ، اللهم إلا أن تكون خديجة زوجة الرسول ، وقد كان يخرج ومعه عليٌّ مستخفياً من الناس فيصليان الصلوات في بعض شعاب مكة ، فإذا أمسيا رجعا ، فمكثا بذلك ما شاء الله أن يمكثا ، لا ثالث لهما (١) .
وقد اطلع النبي ( ص ) بعض الخواص من أصحابه الذين يركن لأمانتهم وإخلاصهم فكانوا إذا أرادوا الصلاة خرجوا إلى شعاب مكة خوفاً من قومهم ، وكانت دار الأرقم بمكة ملتقىً لهم حيث اتخذها النبي ( ص ) مقراً له لنشر دعوته بادىء الأمر ، ومنتدىً لمن أحب أن يسمع منه ما جاء به من عند الله تعالى ، ومن الطبيعي أن الأمر كان محاطاً بشيء من السرية والكتمان بالنسبة للراغبين في اعتناق الدين الجديد .
أما عمار بن ياسر ، الصديق الحميم لمحمدٍ ( ص ) فلم تكن لتفوته الفرصة في المبادرة ، فخف إلى دار الأرقم ليرى محمداً ومن معه ، وليسمع منه ، إلا أنه فوجيء على الباب بصهيب بن سنان الرومي ، ويظهر أن كلاً منهما خاف ان يكون الآخر عيناً عليه !
__________________
(١) شرح النهج : ٣ ـ ٣٩ .
يقول عمار : فقلت له : ما تريد ؟ قال لي : ما تريد أنت ؟ فقلت : أردت أن أدخل على محمدٍ فاسمع كلامه . قال : وأنا أريد ذلك ، فدخلنا عليه فعرض علينا الإِسلام ، فأسلمنا . ثم مكثنا يومنا على ذلك حتى أمسينا ، ثم خرجنا ونحن مستخفون (١) .
بعد ذلك أمر الله تعالى نبيه بإظهار الأمر ، وأن يبدأ بالخاصة من أقاربه وعشيرته إذ خاطبه تعالى بقوله : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) * فاستدعى علياً للقيام بمهمة جمع العشيرة ، وكان هذا أول ما استعان به الرسول ( ص ) بابن عمه علي ، فجمع بني هاشم في دار الحارث بن عبد المطلب ، وهم يومئذٍ أربعون رجلاً أو يزيدون ، الرجل منهم يأكل المسنّة ويشرب العس (٢) . فأمر علياً برجل شاة فآدمها ، ثم قال : ادنو باسم الله . فدنا القوم عشرةً عشرة ، فأكلوا حتى صدروا ثم دعا بقعب لبن ، فجرع منه جرعة ، ثم قال : اشربوا باسم الله ، فشربوا حتى رووا . وكانت هذه الحادثة غريبة من نوعها بل معجزة خارقة للقوانين العادية مما حدا بأبي لهب عمّ النبي أن يقول للحاضرين : هذا ما سحركم به الرجل !!
سكت النبي ( ص ) ولم يتكلم ، ثم التفت إليهم وقال : إن الله تعالى أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، وأنتم عشيرتي ورهطي ، وان الله لم يبعث نبياً إلا جعل له من أهله أخاً ووزيراً ووصياً وخليفةً في أهله ، فايكم يقوم فيبايعني على أنه أخي ووارثي ووزيري ووصي ويكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي ؟!
فسكت القوم . فقال النبي ( ص ) : ليقومنَّ قائمكم ، أو ليكوننَّ في غيركم ، ثم لتندمنَّ ؟! ثم أعاد الكلام ثلاث مرات .
__________________
(١) الطبقات الكبرى ـ ٢٤٧ .
(٢) مجمع البيان : ٧ ـ ٢٠٦ ـ ٢٢١ .
والمسنّة من الإبل ما دخلت في السنة الثالثة . والعس : السقاء .
(*) الشعراء : ٢١٤ .
فقام علي ( ع ) ، فبايعه وأجابه ، فقال ( ص ) : ادن مني ، فدنا منه ففتح فاه ومجّ في فيه من ريقه ، وتفل بين كتفيه وثدييه . فقال أبو لهب : فبئس ما حبوت به ابن عمك أن أجابك ، فملأت فاه ووجهه بزاقاً !!
فقال النبي ( ص ) : ملأته حكمةً وعلماً (١) .
ثم يلتفت أبو لهب إلى الحاضرين من بني هاشم ويقول : خذوا على يدي صاحبكم ـ أي إمنعوه ـ قبل أن يأخذ على يده غيركم ، فإن منعتموه قتلتم ، وان تركتموه ذللتم . فقال أبو طالب : يا عورة ، والله لننصرنه ، ثم لنعيننَّه . . ثم التفت إلى النبي وقال : يا بن أخي ، إذا أردت أن تدعو إلى ربك فاعلمنا حتى نخرج معك بالسلاح (٢) ثم نزلت الآية الكريمة ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) * (٣) . فوقف ( ص ) على الصفا ونادى : وا صباحاه . فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا : ما لك ؟ قال : أرأيتم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ، أما كنتم تصدقونني ؟؟ قالوا : بلىٰ . قال : فاني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديد . فقال أبو لهب : تباً لك ! ألهذا دعوتنا وجمعتنا ؟ فأنزل الله عزَّ وجلّ : ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ . . . ) السورة . . .
وأقام رسول الله ( ص ) ذات يوم بالأبطح (٤) فقال : إني رسول الله أدعوكم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر ولا تخلق ولا ترزق ولا تحيي ولا تميت . فاستهزأوا به وآذوه .
وذات يوم قام بسوق عكاظ ، وعليه جبة حمراء ، فقال : يا أيها الناس ، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتنجحوا ! وإذا رجل يتبعه ، له غديرتان
__________________
(١) مجمع البيان : ٧ ـ ٢٠٦ .
(٢) اليعقوبي : ٢ / ٢٨ .
(٣) ـ الطبري : ٢ / ٣٢٥ .
(٤) اليعقوبي : ٢ / ص ٢٤ ـ ٢٦ .
(*) الحجر ـ ٩٤ .
كأن وجهه الذهب وهو يقول : يا أيها الناس ، إن هذا ابن أخي ، وهو كذاب ، فاحذروه . !! وكان ذلك الرجل عمه أبو لهب .
المحنة . . وموقف إبي طالب
وكان أبو طالب ـ عم النبي ـ الداعم الأول لمحمدٍ والمساند له ، والمدافع عنه ، مما حدا برهط من قريش أن يجتمعوا ويتفقوا فيما بينهم على أن يواجهوه في أمر ابن أخيه علّه أن يحد من نشاطه ، ويخفف من عناده في أمر دعوته ، فدخلوا عليه وفيهم أبو جهل فقال : إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ، ويسفه أحلامنا . . يقول . . ويقول . . ويفعل . . ويفعل . . فلو بعثت إليه فنهيته .
فبعث أبو طالب إلى النبي ، فجاء ( ص ) فدخل البيت ـ وكان بين أبي طالب وبين القوم قدر مجلس رجل ـ فخشي أبو جهل إن جلس محمد إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له عليه ، فوثب فجلس في ذلك المجلس ، ولم يجد رسول الله مجلساً قرب عمه ، فجلس عند الباب .
فقال أبو طالب : أي ابن أخي ، ما بال قومك يشكونك ، يزعمون أنك تشتم آلهتهم ، وتقول . . وتقول . . فابق عليّ وعلى نفسك ، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق !؟ فظن رسول الله ( ص ) أنه قد بدا لعمه فيه بداء ، وأنه خاذله ومسلمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه ، فقال ( ص ) : يا عمّاه ، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته . !! ثم استعبر رسول الله فبكىٰ . ثم قام .
فلما ولىّ ، ناداه أبو طالب فقال : أقبل يا بن أخي ، فأقبل عليه ، فقال : إذهب يا بن أخي ، فقل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك لشيءٍ أبداً (١) وفي ذلك يقول أبو طالب :
__________________
(١) الطبري : ٢ / ٣٢٥ ـ ٣٢٦ .
والله لن يصلوا إليك بجمعهم |
|
حتى أوسّد في التراب دفينا |
فانفذْ لأمرك ما عليك مخافة |
|
وابشر وقرَّ بذاك منه عيونا |
وعرضت ديناً قد علمتُ بأنه |
|
من خير أديان البرية دينا |
فعرفت قريش أن أبا طالب أبىٰ خذلان ابن أخيه ، فلجأوا إلى حيلة ثانية ظنوا أنهم يستدرجون بها أبا طالب ، فاختاروا أجمل فتىً في قريش يقال له عمارة على أن يقايضوه بمحمد !! فمشوا إلى أبي طالب وقالوا له : يا أبا طالب ؛ هذا عمارة بن الوليد أنهد فتىً في قريش وأشعره وأجمله ، فخذه ، فلك عقله ونصرته ، واتخذه ولداً ، فهو لك ، وسلم لنا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك ، وفرّق جماعة قومك ، وسفَهَ أحلامهم ، فنقتله ، فإنما رجل كرجل !!
فقال : والله لبئسما تسومونني ، أتعطونني إبنكم أغذوه لكم ! وأعطيكم ابني تقتلونه ؟! هذا والله ما لا يكون أبداً .
فقال المطعم بن عدي بن نوفل : والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك ، وجهدوا على التخلص مما تكرهه ، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً . فقال أبو طالب : والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ، ومظاهرة القوم علي ، فاصنع ما بدا لك !
فحقب الأمر عند ذلك ، وحميت المواجهة بين قريش وأصحاب الرسول ومؤيديه ، وعمدت قريش إلى إستعمال القوة والعنف منزلةً أبشع ألوان التعذيب النفسي والجسدي بأتباع محمد ( ص ) سيما الضعفاء منهم والدهماء الذين لا حول لهم ولا عشيرة .
« فوثبت كل قبيلةٍ على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم ، وكان نصيب عمار وأبويه ياسر وسمية من ذلك التعذيب وتلك الفتنة ما يفوق حد الوصف ، ومنع الله رسوله منهم بعمه أبي طالب .
حين رأى أبو طالب قريشاً وهي تصنع ما
تصنع ببني هاشم وبني
المطلب ، جمعهم ودعاهم إلى تأييد موقفه في الدفاع عن رسول الله ( ص ) ومنع قريش عنه ، فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوا إلى ما دعاهم ، ما عدا أبو لهب الذي أصرّ على عدائه لمحمد . فكان أبو طالب بعد هذا يمدح قومه على موقفهم ومساندتهم للرسول ، ويذكر فضله ( ص ) فيهم ، ومكانه منهم وفي ذلك يقول :
يقولون لو أنا قتلنا محمداً |
|
أقرت نواصي هاشمٍ بالتذللِ |
كذبتم ورب البيت تدمىٰ نحوره |
|
بمكة والبيت العتيقِ المقبلِ |
تنالونه أو تصطلوا دون نيله |
|
صوارمَ تفري كل عضوٍ ومفصل |
فهلّا ولما تنتج الحرب بكرها |
|
بخيل ثمام أو بآخر معجل |
وتلقوا ربيع الأبطحين محمداً |
|
على ربوةٍ في رأس عنقاء عيطلِ |
وتأوي إليه هاشم إن هاشماً |
|
عرانينُ كعب آخرِ بعد أولِ |
فإن كنتم ترجون قتل محمدٍ |
|
فروموا بما أجمعتم نَقْل يذبلِ |
فإنا سنحميه بكل طِمرةٍ |
|
وذي ميعةٍ نهد المراكل عسكل |
وكل رديني ظماءِ كعوبه |
|
وعضبٍ كإيماضِ الغمامة معصل |
وقوله :
وأبيض يُستسقىٰ الغمام بكفه |
|
ثمالُ اليتامى عِصمة للآرامل |
يُطيفُ به الُهلّاك من آل هاشم |
|
فهم عنده في نعمةٍ وفواضلِ |
ونحن نقرأ أبا طالب في شعره ناصراً للنبي ( ص ) ، ومؤيداً له في دعوته ، فهو يدلي برأيه جهاراً أمام الناس أن ما جاء به محمد ( ص ) هو دين منزل من السماء ، على نبي إختارته السماء ، فها هو ذلك يقول :
أمينٌ حبيبٌ في العباد مسوّمٌ |
|
بخاتم رب قاهر في الخواتمِ |
يرى الناس برهاناً عليه وهيبةً |
|
وما جاهلٌ في قومه مثل عالمِ |
نبيٌّ أتاه الوحيُ من عند ربه |
|
ومن قال : لا ، يَقرعْ بها سنَّ نادمِ |
ويقول أيضاً حين عذبت قريش عثمان بن مضعون :
ألا ترون أذلّ الله جمعكم |
|
أنا غضبنا لعثمان بن مضعونِ |
ونمنع الضيم من يبغي مضيمنا |
|
بكل مطّردٍ في الكف مسنون |
ومرهفاتٍ كأن الملح خالطها |
|
يشفي بها الداء من هام المجانين |
حتى تقرَّ رجالٌ لا حلوم لها |
|
بعد الصعوبة بالإِسماح واللين |
أو تؤمنوا بكتابٍ منزل عجبِ |
|
على نبي كموسى أو كذي النون |
وأكثر ما نسب من الشعر لأبي طالب يمكن إعتباره من وحي المناسبة ، وتخال وأنت تقرأ ما ورد من الشعر المنسوب إليه أنه كان يصب في مصبٍّ واحد ، وهو الدفاع عن محمد وعن دعوته ورسالته ، والتشهير بمناوئيه وتحديهم وتوعدهم ، سيما حين يرى استفزاز قريش لمحمد واستهزائهم به ، فمن ذلك قوله مشيراً إلى إصرار الهاشميين على افتدائه ببذل النفس والنفيس :
يرجون أن نسخى بقتل محمدَ |
|
ولم تختضب سمر العوالي من الدم |
كذبتم وبيت الله حتى تفلقوا |
|
جماجم تلقى بالحطيم وزمزم |
وتقطع أرحام وتنسى حليلةٌ |
|
حليلاً ويغشى محرمٌ بعد محرم |
على ما مضىٰ من مقتكم وعقوقكم |
|
وغشيانكم في أمركم كل مأثَم |
وظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى |
|
وأمرٌ أتىٰ من عند ذي العرش قيّم |
ومن مواقف أبي طالب التي تنم عن مدى شجاعته وهيبته وسطوته ، ومدى حبه واخلاصه لمحمد ، ما حدث له مع طواغيت مكة ، وهم : العاص بن وائل ، والحارث بن قيس ، والأسود بن المطلب ، والوليد بن المغيرة ، والأسود بن عبد يغوث الزهري (١) وكان هؤلاء من أشد الناس على
__________________
(١) في مجمع البيان : م ٢ ص ٣٤٦ في تفسير قوله تعالى : ( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) قال : وأتى جبرائيل النبي والمستهزؤن يطوفون بالبيت ، فقام جبرئيل ورسول الله إلى جنبه ، فمر به الوليد بن المغيرة ، فأومىٰ بيده إلى ساقه ، فمر الوليد على قين ـ حدّاد ـ لخزاعة وهو يجر ثيابه . فتعلقت بثوبه شوكة فمنعه الكبر أن يخفظ رأسه فينزعها وجعلت تضرب ساقه فخدشته فلم يزل مريضاً حتى مات .
ومر به العاص بن وائل السهمي فأشار جبرئيل إلى رجله فوطىء العاص على شوكة فدخلت في أخمص رجله ، فقال لدغتُ فلم يزل يحكها حتى مات .
=
محمدٍ ، وأكثرهم سخريةً واستهزاءً به ، وكانوا يوكلون به صبيانهم وعبيدهم فيلقونه بما لا يحب .
ففي ذات يوم نحروا جزوراً بالحزورة (١) ورسول الله ( ص ) قائم يصلي ، فأمروا غلاماً لهم فحمل السلى والفرث حتى وضعه بين كتفيه وهو ساجد !
فانصرف ( ص ) وأتى عمه أبا طالب ، فقال : كيف موضعي فيكم ؟ قال : وما ذاك يا بن أخي ؟ فأخبره ما صُنع به .
فأقبل أبو طالب آنذاك مشتملاً على السيف ، يتبعه غلام له ، فاخترط سيفه وقال مخاطباً إياهم : والله لا تكلم رجل منكم إلا ضربته ، ثم أمر غلامه ، فأمرَّ ذلك السلى والفرث على وجوههم واحداً واحداً . . فقالوا : حسبك هذا فينا يا بن أخينا . . ؟!
وفي الليلة التي أسري به ( ص ) إلى السماء ، افتقده أبو طالب ، فخاف أن تكون قريش قد إغتالته أو قتلته ، فجمع سبعين رجلاً من بني عبد المطلب معهم الشفار ، وأمرهم أن يجلس كل منهم إلى جانب رجل من قريش ، وقال لهم : إن رأيتموني ومحمداً معي فأمسكوا حتى آتيكم . وإلا فليقتل كل رجلٍ منكم جليسه ولا تنتظروني ، ثم مضى ، فما لبث أن وجدوه واقفاً على باب أم هانىء ، فأتى به بين يديه حتى وقف على قريش فعرفهم ما كان منه ، فأعظموا ذلك ، وجلَّ في صدورهم ، وعاهدوه وعاقدوه أن لا
__________________
= ومر به الأسود بن المطلب فأشار إلى عينه فعمي . وقيل رماه بورقة خضراء فعمي وجعل يضرب رأسه على الجدار حتى هلك ومرّ به الأسود بن عبد يغوث ، فأشار إلى بطنه فاستسقى فمات . وقيل أصابه السموم فصار أسود فلم يعرفوه فمات وهو يقول ! قتلني رب محمد .
ومرّ به الحارث بن الطلاطلة فأومأ إلى رأسه فامتخط قيحاً فمات . وقيل : أن الحرث بن قيس أكل حوتاً ( سمكاً ) مالحاً فأصابه العطش فما زال يشرب حتى أنقد بطنه فمات » وذلك بدعوة نبينا محمد ( ص ) عليهم لشدة ما كانوا يؤذونه به .
(١) الحزورة : مكان .