عمّار بن ياسر

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه

عمّار بن ياسر

المؤلف:

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه


الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٤٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

فلما راوه قد أقبل ، تقدموا إليه يزحفون بجموعهم (١) .

جيش معاوية

أما معاوية فرفع قبةً عظيمة ، وألقى عليها الكرابيس وجلس تحتها ، واجتمع إليه أهل الشام ، فعبأ خيله ، وعقد ألويته وأمر الأمراء وكتّب الكتائب ، وأحاط به أهل حمص في راياتهم وعليهم أبو الأعور السلمي ، وأهل الأردن في راياتهم ، وعليهم عمرو بن العاص ، وأهل قنسرين ، وعليهم زفر بن الحارث الكلابي ، وأهل دمشق ـ وهم القلب ـ وعليهم الضحاك بن قيس الفهري ، فأطافوا كلهم بمعاوية .

« المبارزة للقتال »

كان يوم السابع من شهر صفر يوماً عظيماً في صفين لما لقي فيه الطرفان من أهوال شديدة .

وأول فارسين التقيا في ذلك اليوم هما حُجْر بن عدي الكندي ، الملقّبُ بحُجر الخير صاحب أمير المؤمنين ( ع ) ، وحجر الملقب بحجر الشر ، وهو ابن عمه ، وكلاهما من كندة وكان من أصحاب معاوية ، فاطّعَنا برمحيْهما . وخرج رجل من بني أسد يقال له خزيمة ، من عسكر معاوية ، فضرب حجر بن عدي برمحه ، فحمل أصحاب علي ( ع ) فقتلوا خزيمة الأسدي ، ونجا حجر الشر هارباً فالتحق بصف معاوية .

ثم برز حجر الشر ثانيةً ، فبرز إليه الحكم بن أزهر ـ من أهل العراق ـ فقتله حجر الشر فخرج إليه رفاعة بن ظاهر الحميري من صف العراق فقتله ، وعاد إلى أصحابه يقول : الحمد لله الذي قتل حجر الشر بالحكم بن أزهر .

علي ( ع ) يدعو إلى كتاب الله ، ومعاوية يرفض

ثم أن علياً ( ع ) دعا أصحابه إلى أن يذهب واحد منهم بمصحف كان

__________________

(١) نفس المصدر . وفي صفين / ٢٣٢ وما بعدها .

٢٠١
 &

في يده إلى أهل الشام ، فقال : من يذهب إليهم فيدعوهم إلى ما في هذا المصحف ؟ فسكت الناس ، وأقبل فتىً إسمه سعيد فقال : أنا صاحبه : فأعاد عليّ القول ثانيةً فسكت الناس ؛ وتقدم الفتى فقال : أنا صاحبه . فسلّمه إليه فقبضه بيده ، ثم أتاهم فناشدهم الله ودعاهم إلى ما فيه ، فقتلوه !

الإِمام علي يأمر أصحابه بالهجوم

فقال علي ( ع ) لعبد الله بن بديل : إحمل عليهم الآن ؟ فحمل عليهم بمن معه من أهل الميمنة وعليه يومئذٍ سيفان ودرعان ، فجعل يضرب بسيفه قدماً ويقول :

لم يبق غيرُ الصبرِ والتوكلْ

والترسِ والرمحِ وسيفٍ مصْقَلْ

ثم التمشي في الرعيل الأولْ

مشي الجمال في حياض المَنهلْ

فلم يزل يحمل حتى انتهى إلى معاوية ومن معه ممن بايعه على الموت ، فأمرهم أن يصمدوا لعبد الله بن بديل ، وبعث إلى حبيب بن سلمة الفهري وهو في الميسرة أن يحمل عليه بجميع من معه ، واختلط الناس ، واصطدم الفيلقان ، ميمنةُ العراق وميسرةُ أهل الشام ، وأقبل عبد الله يضرب الناس بسيفه قِدْماً حتى أزال معاوية عن موقفه جعل ينادي : يا لثارات عثمان ـ وهو يعني أخاً له قد قُتِل ـ وظن معاوية وأصحابه أنه يعني عثمان بن عفان ، وتراجع معاوية عن مكانه القهقري ، وأشفق على نفسه ، وأرسل إلى حبيب بن مسلمة مرة ثانية وثالثة يستنجده ويستصرخه ، ويحمل حبيب حملةً شديدة بميسرة معاوية على ميمنة العراق فيكشفها حتى لم يبق مع ابن بُدَيل إلا نحو مائة إنسان من القُرّاء ، فاستند بعضهم إلى بعض يحمون أنفسهم ، ولجَجَ ابن بُدَيل في الناس وصمم على قتل معاوية ، وجعل يطلب موقفه ويصمد نحوه حتى انتهى اليه ومع معاوية عبد الله بن عامر واقف ، فنادى معاوية في الناس : ويلكم ، الصخر والحجارة إذا عجزتم عن السلاح ! فرضخه الناس بالصخر والحجارة حتى أثخنوه ، فسقط فأقبلوا عليه بسيوفهم فقلتوه .

٢٠٢
 &

وجاء معاوية وعبد الله بن عامر حتى وقفا عليه ، فأما عبد الله بن عامر فألقى عمامَتهُ على وجهه وترحّمَ عليه وكان له أخاً صديقاً من قبل . فقال معاوية : إكشف عن وجهه ؟ فقال : لا والله لا يُمَثّلُ فيه وفيَّ رُوح . فقال معاوية : إكشف عن وجهه فإنا لا نُمثّل فيه ، قد وهبناه لك . فكشف ابن عامر عن وجهه ، فقال معاوية : هذا كبشُ القوم وربّ الكعبة . اللهم أظفرني بالأشتر النُخَعي والأشعث الكندي ، والله ما مَثلُ هذا إلا كما قال الشاعر :

أخو الحرب إن عضّتْ به الحربُ عضّها

وإن شمّرَتْ عن ساقِها الحرب شمّرا

ويحمي إذا ما الموت كان لقاؤه

قِدى الشِبر يحمي الأنف إن يتأخرا

كليث هزبر كان يحمي ذماره

رمته المنايا قصدَها فتفطّرا (١)

الإمام علي ( ع ) يردّ الكتائب

بعد مقتل ابن بديل ، إستعلى أهل الشام على أهل العراق يومئذٍ ، وانكشف من قِبلَ الميمنة وأجفلوا إجفالاً شديداً ، فأمر علي ( ع ) سهل بن حُنَيْف ، فاستقدم من كان معه ليرْفِدَ الميمنة ويَعْضدَها ، فاستقبلتهم جموع أهل الشام في خيلٍ عظيمة ، فحملت عليهم ، فألحقتهم بالميمنة ، وكانت ميمنة أهل العراق متصلةً بموقف علي ( ع ) في القلب في أهل اليمن ، فلما انكشفوا انتهت الهزيمة إلى علي ( ع ) ، فانصرف يمشي نحو الميسرة ، فانكشفت مضر عن الميسرة أيضاً ، فلم يبق مع علي من أهل العراق إلا ربيعة وحدها في الميسرة .

قال زيد بن وهب : لقد مرّ علي ( ع ) يومئذٍ ومعه بنوه نحو الميسرة ومعه ربيعة وحدها ، وإني لأرى النبل يمر بين عاتقه ومنكبيه ، وما من بَنِيهِ إلا من يقيه بنفسه ، فيكره علي ( ع ) ذلك ، فيتقدم عليه ويحول بينه وبين أهل الشام ، ويأخذه بيده إذا فعل ذلك ، فيلقيه من ورائه ! ويُبْصرُ به أحمر مولى بني أمية ، وكان شجاعاً ، فقال عليٌّ ( ع ) : ورب الكعبة قتلني الله إن لم

__________________

(١) شرح النهج ٥ / ١٩٥ وما يليها .

٢٠٣
 &

أقتلك ! فأقبل نحوه ، فخرج إليه كيسان مولى علي ( ع ) ، فاختلفا ضربتين ، فقتله أحمر ، وخالط علياً ليضربه بالسيف ، وينتهزه علي فتقع يده في جيب درعه ، فجذبه عن فرسه فحمله على عاتقه ، فوالله لكأني أنظر إلى رجلي أحمر تختلفان على عنق علي ، ثم ضرب به الأرض فكسر منكبيه وعضديه ، وشد إبنا علي محمدٌ وحسينٌ فضرباه بأسيافهما حتى برد فكأني أنظر إلى علي قائماً وشبلاه يضربان الرجل حتى إذا أتيا عليه ، أقبلا إلى أبيهما والحسن قائم معه ، فقال له علي : يا بني ، ما منعك أن تفعل كما فعل أخواك ؟ فقال كفياني يا أمير المؤمنين .

قال : ثم أن أهل الشام دنوا منه يريدونه ! والله ما يزيدهم قربهم منه ودنوهم إليه سرعةً في مشيته ، فقال له الحسن ( ع ) : ما ضرّك لو أسرعت حتى تنتهي إلى الذين صبروا لعدوك من أصحابك ؟ فقال علي ( ع ) : يا بُنَيّ ، إن لأبيك يوماً لن يعدوه ولا يبطىء به عن السعي ، ولا يقربه إليه الوقوف ، إن أباك لا يبالي إن وقع على الموت أو وقع الموت عليه .

لا هروب من القدر !!

قال أبو إسحاق : وخرج علي ( ع ) يوماً من أيام صفين وفي يده رُمحٌ صغير ، فمرَّ على سعيد بن قيس الهمداني ، فقال له سعيد : أما تخشى يا أمير المؤمنين أن يغتالك أحد وأنت قرب عدوك ؟! فقال علي ( ع ) إنه ليس من أحد إلا وعليه من الله حَفَظَةٌ يحفوظونه من أن يتردّىٰ في قَلِيب (١) ، أو يخِرّ عليه حائط ، أو تصيبه آفةٌ ، فإذا جاء القدر ، خلّوا بينَه وبينَه .

شجاعة الأشتر وتحريضه

وكان بيد الأشتر يومئذٍ صفيحةٌ يمانيةٌ ، إذا طأطأها خِلْتَ فيها ماءً ينصَبّ ، وإذا رفعها يكاد يغشي البصر شعاعُها ، ومرّ يضرب الناس بها قِدماً ويقول :

__________________

(١) القليب : البئر .

٢٠٤
 &

الغمراتُ ، ثم ينجلينا

فبصُرَ به الحارث بن جمهان الجعفي والأشتر مقنعٌ في الحديد ، فلم يعرفه ، فدنا منه وقال له : جزاك الله منذ اليوم عن أمير المؤمنين وعن جماعة المسلمين خيراً ، فعرفه الأشتر ، فقال : يا بن جمهان ، أمثلك يتخلّفُ عن مثل موطني هذا ؟ فتأمله ابن جمهان فعرفه ـ وكان الأشتر أعظم الرجال وأطولهم إلا أن في لحمه خفة قليلة ـ فقال له : جُعِلتُ فداك والله ما علمت مكانك حتى الساعة ، ولا والله لا أفارقك حتى أموت .

وخطب الأشتر محرضاً أصحابه فقال : عَضّوا على النواجذِ من الأضراس ، واستقبلوا القوم بهَامِكُمْ ، فإن الفِرارَ من الزحف فيه ذَهابُ العز والغلبة على الفيء وذلّ الحياة والممات ، وعار الدنيا والآخرة . ثم حمل على صفوف أهل الشام حتى كشفهم فألحقهم بمضارب معاوية ، وذلك بين العصر والمغرب .

قتال بجيلة

وكانت راية بجيلة في صفين مع أهل العراق ، كانت في « أحمس » (١) ، مع أبي شداد قيس بن المكشوح الأنماري ، قالت له بجيلة : خذ رايتنا ، فقال : غيري خير لكم مني ! قالوا : لا نريد غيرك ، قال : فوالله لئن أعطيتمونيها لا أنتهي بكم دون صاحب الترس المذهب ـ وهو عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ـ وكان على رأس معاوية في خيل عظيمة من أصحاب معاوية . فقالوا : إصنع ما شئت . فأخذها ثم زحف بها وهم حوله يضربون الناس حتى انتهى إلى صاحب الترس ، فاقتتل الناس هناك قتالاً شديداً ، وشد أبو شداد بسيفه نحو صاحب الترس ، فتعرض له رومي من دونه لمعاوية فضرب قدَمَ أبي شداد فقطعها وضرب أبو شداد ذلك الرومي فقتله ، وأسرعت إليه الأسِنّة ، فقُتل . فأخذ الراية بعده عبد الله بن قلع الأحمسي وارتجز وقال :

__________________

(١) اسم القبيلة .

٢٠٥
 &

لا يُبعدُ الله أبا شداد

حيث أجابَ دعوة المنادي

وشدّ بالسيف على الأعادي

نِعْمَ الفتى كان لدىٰ الطِرادِ

وفي طِعَانِ الخيل والجلاد

ثم قاتل حتى قُتل : فأخذها بعده أخوه عبد الرحمن بن قلع ، فقاتل حتى قُتل ، ثم أخذها عفيف بن إياس ، فلم تزل بيده حتى تحاجز الناس .

وخرج رجل من عسكر الشام من أزد شنوءة ، يسأل المبارزة ، فخرج إليه الأشتر فما ألبثه أن قتله ، فقال قائل : كان هذا ريحاً فصار إعصاراً .

وقال رجل من أصحاب علي ( ع ) ، أما والله لأحملن على معاوية حتى أقتله ، فركب فرساً ثم ضربه حتى قام على سَنَابِكه ، ثم دفعه فلم ينهْنِههُ شيء عن الوقوف على رأس معاوية ، فيهرب معاوية ، ودخل خباءه ، فنزل الرجل عن فرسه ودخل عليه ، فخرج معاوية من جانب الخباء الآخر ، فخرج الرجل في أثره ، فاستصرخ معاوية بالناس ، فأحاطوا به وحالوا بينهما . فقال معاوية : ويحكم ، أن السيوف لم يؤذن لها في هذا ، ولولا ذلك لم يصل إليكم ، فعليكم بالحجارة ، فرضخوه بالحجارة حتى همد . فعاد معاوية إلى محله .

« ضربة ما مثلها ضربة »

وحمل رجل من أصحاب علي ( ع ) يُدعىٰ أبو أيوب على صف أهل الشام ، ثم رجع فوافق رجلاً من أهل الشام صادراً قد حمل على صف أهل العراق ، ثم رجع فاختلفا ضربتين ، فنفحه أبو أيوب بالسيف فأبان عنقه ، فثبت رأسه على جسده كما هو ، وكذب الناس أن يكون هو ضربه ، فأراهم ذلك حتى إذا أدخلته فرسه في صفّ أهل الشام ندر رأسه ووقع ميتاً فقال علي ( ع ) : والله لأنا من ثبات رأس الرجل أشدُّ تَعَجّباً من الضربة ، وإن كان إليها ينتهي وصف الواصفين .

٢٠٦
 &

وجاء أبو أيوب فوقف بين يدي علي ( ع ) ، فقال له : أنت والله كما قال :

وعَلّمنَا الضربَ آباؤُنا

ونحن نعلّم أيضاً بنينا

« قتل حريث مولى معاوية »

وكان فارس معاوية الذي يُعدّهُ لكل مبارز ولكل عظيم ، وهو حُرَيثٌ مولاه ، وكان يلبس سلاح معاوية متشبهاً به ، فإذا قاتل قال الناس : ذاك معاوية . وإن معاوية دعاه ، فقال له : يا حريث اتق علياً ، وضع رمحك حيث شئت ، فأتاه عمرو بن العاص فقال : يا حريث ، إنك والله لو كنت قرشياً لأحب لك معاوية أن تقتل علياً ، ولكن كره أن يكون لك حظها ، فإن رأيت فرصةً فاقتحم .

وخرج علي ( ع ) في هذا اليوم أمام الخيل ، فحمل عليه حُرَيّث ، وكان حريث شديداً ، أيّداً ، ذا بأس لا يرام ، فصاح : يا علي ، هل لك في المبارزة ؟ فأقدم أبا حسن إن شئت !!

فأقبل علي ( ع ) وهو يقول :

أنا علي وابن عبد المطلب

نحن لعمر والله أولى بالكُتُب

منا النبي المصطفى غير كذب

أهل اللواء والمقام والحُجُبْ

نحن نصرناه على كل العرب

ثم خالطه فما أمهله أن ضربه ضربةً واحدة ، فقطعه نصفين .

فجزع معاوية على حريث جزعاً شديداً ، وعاتب عمراً في إغرائه بعلي ( ع ) ، وقال في ذلك شعراً :

حريث ألم تعلم وجَهْلُكَ ضائرٌ

بأن علياً للفوارس قاهرُ

وأن علياً لم يبارزه فارسٌ

من الناس إلا أقصدته الأظافرُ

أمرتك أمراً حازماً فعصيتني

فجدك إذا لم تقبل النصح عاثر

ودلّاك عمرو والحوادث جمة

غروراً وما جرت عليك المقادر

٢٠٧
 &

وظن حُرَيْث أن عمراً نصيحه

وقد يُهْلكُ الإنسان من لا يحاذر

قال نصر بن مزاحم : فلما قتل حريث ، برز عمرو بن الحصين السكسكي ، فنادى : يا أبا الحسن هلم الى المبارزة ، فأومأ ( ع ) إلى سعيد بن قيس الهمداني ، فبارزه فضربه بالسيف فقتله .

وكان لهمدان بلاء عظيم في نصرة علي ( ع ) في صفين ، ومن الشعر الذي لا يُشَكُّ أن قائله علي ( ع ) لكثرة الرواة له :

دعوتُ فلباني من القوم عصبةٌ

فوارسُ من همدان غير لئامِ

فوارس من همدان ليسوا بعزّلٍ

غداة الوغىٰ من شاكرٍ وشبام

بكل رديني وعضبٍ تخاله

إذا اختلف الأقوام سعدَ جذام

لهمدان أخلاق كرامٌ تزينهم

وبأسٌ إذا لاقوا وحدّ خصام

وجدٌّ وصدق في الحروب ونجدة

وقول إذا لاقوا بغير أثام

متى تأتهم في دارهم تستضيفهم

تَبتْ ناعماً في خدمة وطعام

جزى الله همدان الجنانَ فإنها

سهام العدى في كل يوم زُحام

ولو كنت بواباً على باب جنةٍ

لقلت لهمدان ادخلوا بسلام

علي يطلب معاوية للمبارزة

ثم قام علي ( ع ) بصفين ونادى : يا معاوية ! يكررها . فقال معاوية : سلوه ما شأنه ؟ قال : أحب أن يظهر لي فأكلمه كلمة واحدة ، فبرز معاوية وعمرو بن العاص فلما قارباه ، لم يلتفت إلى عمرو ، وقال لمعاوية : ويحك ؛ علام يقتتل الناس بيني وبينك ؟ ويضرب بعضهم بعضاً ؟؟ أبرز إلي ، فأينا قتل صاحبه فالأمر له !

فالتفت معاوية إلى عمرو فقال : ما ترى يا أبا عبد الله ؟ قال : قد أنصفك الرجل ، واعلم أنك إن نكلت عنه لم يزل سبَّةً عليك وعلى عقبك ما بقي على ظهر الأرض عربي .

فقال معاوية : يا بن العاص ، ليس مثلي يُخْدَعُ عن نفسه . والله ما بارز

٢٠٨
 &

ابنَ أبي طالب شجاعٌ إلا وسقى الأرض بدمه ! ثم انصرف معاوية راجعاً حتى انتهى إلى آخر الصفوف وعمرو معه ، فلما رأى علي ( ع ) ذلك ضحك وعاد إلى موقفه .

وفي حديث الجرجاني : إن معاوية قال لعمرو ، ويحك ما أحمقك ، تدعوني إلى مبارزته ودوني عكٌّ وجذام ، والأشعريون ؟؟

قال نصر : وحقدها معاوية على عمرو باطناً ، وقال له ظاهراً ما أظنك قلت ما قلته يا أبا عبد الله إلا مازحاً . فلما جلس معاوية مجلسه ، وأقبل عمرو يمشي حتى جلس إلى جانبه ، فقال معاوية :

يا عمرو إنك قد قشرتَ لي العصا

برضاكَ لي وسْطَ العجاج بِرازي

يا عمرو إنك قد أشرت بظنةٍ

حسبُ المبارزِ خطفةٌ من بازي

ولقد ظننتك قلت مزحة مازحٍ

والمزح يحمله مقال الهازي

فإذا الذي منّتْكَ نفسك حاكباً

قتلي زاك بما نَويْتَ الجازي

ولقد كشفت قناعها مذمومةً

ولقد لبست بها ثياب الخازي

فقال عمرو : أيها الرجل ، أتجيفُ عن خصمك ، وتتهم نصيحك ، ثم قال مجيباً له :

معاوي إن نكلْتَ عن البِراز

وخِفْتَ فإنها أمّ المخازي

معاوي ما اجترمتُ إليك ذنباً

ولا أنا في الذي حدثتُ خازي

وما ذنبي بأن نادى عليٌّ

وكبشُ القوم يُدعى للبراز ـ

ولو بارزته بارزتَ ليثاً ـ

حديدَ النابِ يخطف كلَّ باز

وتزعم أنني أضمرت غِشاً

جزاني بالذي أضمرتُ جازي

قبّح اللهُ اللجاج

قال أبو الأعز التميمي : بينا أنا واقف بصفين ، مرَّ بي العباس ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب مكفراً بالسلاح وعيناه تبصّان من تحت المِغْفر كأنهما عينا أرقم ، وبيده صفيحة يمانية يقلبها وهو على فرس له صعب ، فبينا

٢٠٩
 &

هو يمغثه (١) ويلين من عريكته ، هتف به هاتف من أهل الشام يعرف بعرار بن أدهم : يا عباس ، هلم إلى البراز . قال العباس : فالنزول إذن ، فإنه أيأس من القفول ، فنزل الشامي وهو يقول :

إن تركبوا فركوبُ الخيل عادتنا

أو تنزلون فإنّا معشرٌ نُزُل

وثنى العباس رجله وهو يقول :

ويصدّ عنك مخيلة الرجل

العرَّيض موضحة عن العظمِ

بحسام سيفك أو لسانك

والكل الأصيل كأرغب الكلم

ثم عصب فضلات درعه في حجزته (٢) ، ودفع فرسه إلى غلام له أسود يقال له أسلم ، كأني والله أنظر إلى فلافل شعره ، ثم دلف كل واحد منهما إلى صاحبه ، فذكرت قول أبي ذؤيب :

فتنازلا وتواقفَتْ خيلاهما

وكلاهما بطل اللقاء مخدّع

وكفّت الناس أعنة خيولهم ينظرون ما يكون من الرجلين ، فتكافحا ، بسيفيهما مليّاً من نهارهما لا يصل واحد منهما إلى صاحبه لكمال لأمته إلى أن لحظ العباس وهناً في درع الشامي فأهوى إليه بيده فهتكه إلى ثندوته ، ثم عاد لمجاولته وقد أصحر له ففتق الدرع ، فضربه العباس ضربةَ انتظم بها جوانح صدره ، فخرَّ الشامي لوجهه وكبّر الناس تكبيرةً ارتجت لها الأرض من تحتهم ، وسما العباس في الناس ، فإذا قائل يقول من ورائي : ( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ . . ) الآية . فالتفت فإذا أمير المؤمنين ( ع ) فقال لي : يا أبا الأعز ؛ من المنازل لعدونا ؟ قلت : هذا ابن أخيكم ، هذا العباس بن ربيعة . فقال ، وإنه لهو . يا عباس ، ألم أنهك وابن عباس أن تخلا بمراكز كما وأن تباشرا حرباً ؟! قال : إن ذلك كان . قال : فما عدا مما بدا ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، أفأدعى إلى البراز فلا أجيب ؟ قال : نعم ، طاعة امامك أولى من إجابة عدوك ، ثم تغيظ واستطار حتى قلت الساعة

__________________

(١) المغث : الضرب المخيف .

(٢) الحجزة : معقد الإزار .

٢١٠
 &

الساعة !! ثم سكن وتطامن ورفع يديه مبتهلاً فقال : اللهم اشكر للعباس مقامه واغفر ذنبه ، إني قد غفرت له فاغفر له .

قال : ولهف معاوية على عرارٍ وقال ، متى ينتطح فحل لمثله ، أيطل دمه ؟ لا ها الله إذن ، ألا رجل يشري نفسه لله يطلب بدم عرار ؟ فانتدب له رجلان من لخم ، فقال لهما اذهبا ، فأيكما قتل العباس برازاً فله كذا . فأتياه فدعواه للبراز ، فقال : إن لي سيداً أريد أن أؤامره ، فأتى علياً ( ع ) فأخبره الخبر ، فقال علي ( ع ) : والله لود معاوية أنه ما بقي من بنى هاشم نافخُ ضُرمة إلا طعن في بطنه إطفاءً لنور الله ( وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) أما والله ليملكنهم منا رجال ورجال يسومونهم الخسف حتى يحتفروا الآبار ويتكففوا الناس ، ويتوكلوا على المساحي !!

ثم قال : يا عباس ، ناقلني سلاحك بسلاحي ، فناقله ووثب على فرس العباس ، وقصد اللخميين ، فما شكَّا أنه هو . قالا : أذِنَ لك صاحبك ؟ فحرج أن يقول نعم . فقال : أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير . فبرز إليه أحدهما فكأنما اختطفه ، ثم برز له الآخر فألحقه بالأول ، ثم أقبل وهو يقول : « الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ » ثم قال : يا عباس ، خذ سلاحك وهات سلاحي ، فإن عاد لك أحد فعد إليّ .

فنُمي الخبر إلى معاوية ، فقال : قبّح الله اللجاج إنه لقعود ما ركبته قط إلا خُذلت فقال عمرو بن العاص : المخذول والله اللخميان لا أنت . فقال : أسكت أيها الرجل وليست هذه من ساعاتك ، قال : وإن لم يكن ، فرحم الله اللخميين وما أراه يفعل ، قال : فإن ذلك والله أخسر لصفقتك وأضيق لحجزتك ، قال : لقد علمت ذلك ، ولولا مصر لركبت المنجاة منها . قال : هي أعمتك ولولاها ألفيتُ بصيرا (١) .

__________________

(١) شرح النهج ٥ / ٢١٩ ـ ٢٢١ .

٢١١
 &

أحتدام الحرب

قال نصر : ثم التقى الناس فاقتتلوا قتالاً شديداً ، وحاربت طيء مع أمير المؤمنين ( ع ) حرباً عظيماً وتداعت وارتجزت ، فقتل منها أبطال كثيرون ، واشتد القتال بين ربيعة وحمير وعبيد الله بن عمر حتى كثرت القتلى ، وجعل عبيد الله بن عمر يحمل ويقول : أنا الطيب ابن الطيب : فتقول له ربيعة بل أنت الخبيث بن الطيب .

ثم خرج نحو خمسمائة فارس أو أكثر من أصحاب علي ( ع ) على رؤوسهم البيض ، وهم غائصون في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق ، وخرج إليهم من أهل الشام نحوهم في العدّة فاقتتلوا بين الصفين والناس وقوف تحت راياتهم ، فلم يرجع من هؤلاء ولا من هؤلاء مخبر : لا عراقي ولا شامي ، قتلوا جميعاً بين الصفين .

قال نصر : وكان بصفين تلٌّ تلقى عليه جماجم الرجال ، فكان يدعى « تل الجماجم » فقال عقبة بن مسلم الرقاشي من أهل الشام :

ولم أر فرساناً أشد حفيظةً

وأمنع منا يوم تل الجماجم ـ

غداة غدا أهل العراق كأنهم

نعام تلاقى في فجاج المخارم

إذا قلت قد ولوا تثوب كتيبة

ململةً في البيض شمط المقادم

وقالوا لنا هذا علي فبايعوا

فقلنا صهٍ بل بالسيوف الصوارم

وقال شبث بن ربعي التميمي :

وقفنا لديهم يوم صفين بالثنا

لدن غدوةٍ حتى هوت لغروب

وولى ابن حرب والرماح تنوشه

وقد أرضت الأسياف كل غضوب

نجالدهم طوراً وطوراً نشلهم

على كل محبوك السراة شبوب

فلم أر فرساناً أشد حفيظة

إذا غشي الآفاق رهج جنوب

مقتل عبيد الله بن عمر

وحمل عبيد الله في قراء أهل الشام ومعه ذو الكلاع في حمير ، حملوا

٢١٢
 &

على ربيعة وهي في ميسرة علي ( ع ) ، فقاتلوا قتالاً شديداً ، فأتى زياد بن خصفة إلى عبد القيس فقال لهم : لا بكر بن وائل بعد اليوم ! إن ذا الكلاع وعبيد الله أبادا ربيعة ، فانهضوا لهم وإلا هلكوا .

فركبت عبد القيس وجاءت كأنها غمامة سوداء ، فشدت أزر الميسرة ، فعظم القتال فقتل ذو الكلاع الحميري ، قتله رجل من بكر بن وائل اسمه خندف ، وتضعضعت أركان حِمْيَر وثبتت بعد قتل ذي الكلاع تحارب مع عبيد الله بن عمر ، وأرسل عبيد الله إلى الحسن بن علي إن لي إليك حاجةً ، فالقني ، فلقيه الحسن ( ع ) ، فقال له عبيد الله : إن أباك قد وتر قريشاً أولاً وآخراً ، وقد شنئه الناس ، فهل لك في خلعه وأن تتولى أنت هذا الأمر ؟! فقال الحسن : كلا والله لا يكون ذلك . ثم قال : يا بن الخطاب ، والله لكأني أنظر إليك مقتولاً في يومك أو غدك . أما إن الشيطان قد زيّن لك وخدعك حتى أخرجك مخلّقاً بالخلوق ترى نساء أهل الشام موقفك ، وسيصرعك الله ويبطحك لوجهك قتيلاً .

قال نصر : فوالله ، ما كان إلا بياض ذلك اليوم حتى قتل عبيد الله وهو في كتيبةٍ رقطاء ـ وكانت تدعى الخضرية ـ كانوا أربعة آلاف عليهم ثياب خضر . فمر الحسن ( ع ) فإذا رجل متوسد برجل قتيل قد ركز رمحه في عينه ، وربط فرسه برجله . فقال الحسن ( ع ) لمن معه : انظروا من هذا ؟ فإذا رجل من همدان ، وإذا القتيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب .

عمّار يحرض على الجهاد

وقام عمّار يوم صفين فقال : انهضوا معي عباد الله إلى قوم يزعمون أنهم يطلبون بدم ظالم إنما قتله الصالحون المنكرون للعدوان ، الآمرون بالإحسان ، فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت دنياهم ولو درس هذا الدين لم قتلتموه ؟ فقلنا : لإحداثه . فقالوا : أنه لم يحدث شيئاً ! وذلك لأنه مكنهم من الدنيا ، فهم يأكلونها ويرعونها . ولا يبالون لو انهدمت الجبال . والله ما أظنهم يطلبون بدم ، ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحلوها واستمرؤها ، وعلموا

٢١٣
 &

أن صاحب الحق لو وليهم لحال بينهم وبين ما يأكلون ويرعون منها .

إن القوم لم يكن لهم سابقة في الإسلام يستحقون بها الطاعة والولاية ، فخدعوا أتباعهم بأن قالوا : قتل إمامنا مظلوماً ، ليكونوا بذلك جبابرة وملوكاً ، تلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون . ولولاها ما بايعهم من الناس رجل . اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت ، وإن تجعل لهم الأمر ، فادخر لهم بما أحدثوا لعبادك العذاب الأليم .

ثم مضى ، ومضى معه أصحابه ، فدنا من عمرو بن العاص فقال : يا عمرو ، بعت دينك بمصر ، فتباً لك وطالما بغيت للإسلام عوجاً .

ثم حمل عمار وهو يقول :

صدق الله وهو للصدق أهلٌ

وتعالى ربي وكان جليلاً

ربّ عجل شهادةً لي بقتل

في الذي قد أحب قتلاً جميلاً

مقبلاً غير مدبرٍ إن للقتل

على كل ميتةٍ تفضيلاً

أنهم عند ربهم في جنانٍ

يشربون الرحيق والسلسبيلا

من شراب الأبرار خالطه المسـ

ـك وكأساً مزاجها زنجبيلاً (١)

يطلب رضا الله سبحانه

ثم قال : اللهم أنت تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر ، لفعلت ! اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك أن أضع ضبة سيفي في بطني ثم أنحني عليه حتى يخرج من ظهري ، لفعلت ، اللهم إني أعلم مما علمتني إني لا أعمل عملاً صالحاً هذا اليوم هو أرضىٰ من جهاد الفاسقين ، ولو أعلم عملاً هو أرضى لك منه لفعلته .

ونادى عمار بن ياسر عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال له : بعت دينك بالدنيا من عدو الله وعدو الإِسلام معاوية ؟ وطلبت هوى أبيك الفاسق !؟

__________________

(١) صفين ٣٢٠ .

٢١٤
 &

فقال : لا ، ولكن أطلب بدم عثمان الشهيد المظلوم .

قال : كلا ، أشهد على علمي فيك أنك أصبحت لا تطلب بشيء من فعلك وجه الله وأنك إن لم تقتل اليوم فستموت غداً ، فانظر إذا أعطى الله العباد على نياتهم ما نيّتك ؟

دماؤهم أحل من دم عصفور !

قال أسماء بن حكيم الغزاوي : كنا بصفين مع علي تحت راية عمّار بن ياسر ارتفاع الضحى ، وقد استظللنا برداءٍ أحمر . إذ أقبل رجل يستقري الصف حتى انتهى إلينا فقال : أيكم عمار بن ياسر ؟ فقال عمار : أنا عمّار . قال : أبو اليقظان ؟ قال : نعم قال : إن لي إليك حاجة ، أفأنطق بها سرّاً أو علانيةً ؟ قال : إختر لنفسك أيهما شئت ، قال لا ، بل علانيةً ، قال : فانطق . قال :

إني خرجت من أهلي مستبصراً في الحق الذي نحن فيه لا أشك في ضلالة هؤلاء القوم وأنهم على الباطل ، فلم أزل على ذلك مستبصراً حتى ليلتي هذه ، فإني رأيت في منامي منادياً تقدم فأذن وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ونادى بالصلاة ، ونادى مناديهم مثل ذلك ، ثم أقيمت الصلاة فصلينا صلاةً واحدة ، وتلونا كتاباً واحداً ، ودعونا دعوةً واحدة ، فأدركني الشك في ليلتي هذه فبت بليلةٍ لا يعلمها إلا الله تعالى ، حتى أصبحت فأتيت أمير المؤمنين فذكرت ذلك له ، فقال هل لقيت عمار بن ياسر ؟ قلت : لا . قال : فألقه فانظر ماذا يقول لك عمّار فاتبعه ، فجئتك لذلك ، فقال عمار : تعرف صاحب الراية السوداء المقابلة لي ؟ فإنها راية عمرو بن العاص . قاتلتها مع رسول الله ( ص ) ثلاث مرات وهذه الرابعة ، فما هي بخيرهن ولا أبرهن ، بل هي شرهن وأفجرهن !

ثم قال له عمار : أشهدت بدراً وأحداً ويوم حنين ، أو شهدها أبٌ لك فيخبرك عنها ؟ قال : لا ، قال : فإن مراكزنا اليوم على مراكز رايات رسول الله ( ص ) يوم بدرٍ ويوم أحد ويوم حنين ، وأن مراكز رايات هؤلاء على

٢١٥
 &

مراكز رايات المشركين من الأحزاب ، فهل ترى هذا العسكر ومن فيه ؟ والله لوددت أن جميع من فيه ممن أقبل مع معاوية يريد قتالنا ـ مفارقاً للذي نحن عليه كانوا خلقاً واحداً فقطعته وذبحته ! والله لدماؤهم جميعاً أحلُّ من دم عصفور ؛ أفترى دم عصفور حراماً ؟ قال : لا ، بل حلالٌ . قال : فإنهم حلال كذلك ، أتراني بينت لك ؟ قال : قد بيّنت لي ، قال : فاختر أي ذلك أحببت !؟

فانصرف الرجل ، فدعاه عمار ثم قال : أما إنهم سيضربونكم بأسيافهم حتى يرتاب المبطلون منكم فيقولوا ، لو لم يكونوا على حق ما أظهروا علينا ، والله ما هم من الحق على ما يقذي عين ذباب والله لو ضربونا بأسيافهم حتى يبلغونا سعفات هجر (١) ، لعرفتُ أنا على حق وهم على باطل ، وأيم الله لا يكون سلماً سالماً أبداً حتى يبوء أحد الفريقين على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين ، وحتى يشهدوا على الفريق الآخر بأنه على الحق وأن قتلاهم في الجنة وموتاهم ، ولا تنصرم أيام الدنيا حتى يشهدوا بأن موتاهم وقتلاهم في الجنة ، وأن موتى أعدائهم وقتلاهم في النار ، وكان أحياؤهم على الباطل .

بين عمّار وهاشم المرقال

ودفع علي ( ع ) الراية إلى هاشم بن عتبة المعروف بالمرقال ، وقال له رجل من أصحابه من بكر بن وائل ، أقدم هاشم ، يكررها ثلاثاً . ثم قال : ما لك يا هاشم قد انتفخ سحرك ؟! أعوراً وجبناً !! قال : من هذا ؟ قالوا : فلان قال : أهلها وخير منها إذا رأيتني قد صرعت فخذها ، ثم قال لأصحابه : شدوا شسوع نعالكم وشدوا أزركم ، فإذا رأيتموني قد هززت الراية ثلاثاً فاعلموا أن أحداً منكم لا يسبقني إلى الحملة ، ثم نظر إلى معسكر معاوية فرأى جمعاً عظيماً . فقال : من أولئك ؟ قيل : أصحاب ذي الكلاع ؟ ثم نظر فرأى جنداً ، فقال : من أولئك ؟ قيل : قريش وقوم من أهل المدينة ؟ فقال : قَوْمِي لا حاجة لي في قتالهم ، من عند هذه القبة البيضاء ؟ قيل : معاوية وجنده . قال : فإني أرى دونهم أسودة ، قيل ذاك عمرو بن العاص

__________________

(١) هجر ـ نواحي البحرين .

٢١٦
 &

وإبناه ومواليه . فأخذ الراية فهزها ، وجعل عمار بن ياسر يحرضه على الحرب ويقرعه بالرمح ويقول : أقدم يا أعور لا خير في أعور لا يأتي الفزع .

فقال هاشم :

قد أكثرا لومي وما أقلا

أني شريت النفس لن أعتلا

أعور يبغي أهله محلاً

قد عالج الحياة حتى ملّا

لا بد أن يفلَّ أو يُفلّا

أشلهم بذي الكعوب شلا

مع ابن عم أحمد المعلى

أول من صدقه وصلّى

ثم حمل يتقدم ويركز الراية ، فإذا ركزها عاوده عمّار بالقول ، فيتقدم أيضاً ، فقال عمرو بن العاص : إني لأرى لصاحب الراية السوداء عملاً لئن دام على هذا لتفنين العرب اليوم .

فاقتتلوا قتالاً شديداً وعمار ينادي : صبراً ، والله إن الجنة تحت ظلال البيض . وكان بأزاء هاشم وعمّار أبو الأعور السلمي ، ولم يزل عمّار بهاشم ينخسه وهو يزحف بالراية حتى اشتد القتال وعظم والتقى الزحفان ، واقتتلا قتالاً لم يسمع السامعون بمثله وكثرت القتلىٰ في الفريقين جميعاً .

ثم إن أهل العراق كشفوا ميمنة أهل الشام ، فطاروا في سواد الليل ، وكشف أهل الشام ميسرة أهل العراق فاختلطوا في سواد الليل ، وتبدلت الرايات بعضها ببعض ، فلما أصبح الناس وجد أهل الشام لواءهم وليس حوله إلا ألف رجل ، فاقتلعوه وركزوه من وراء موضعه الأول وأحاطوا به ، ووجد أهل العراق لواءهم مركوزاً وليس حوله إلا ربيعة وعلي ( ع ) بينها ، وهم محيطون به وهو لا يعلم من هم ويظنهم غيرهم ، فلما أذن مؤذن علي الفجر ، قال ( ع ) :

يا مرحباً بالقائلين عدلا

وبالصلاة مرحباً وأهلا

ثم وقف وصلى الفجر ، فلما انفتل أبصر وجوهاً ليست بوجوه أصحابه بالأمس وإذا مكانه الذي هو فيه ما بين الميسرة إلى القلب ، فقال : من

٢١٧
 &

القوم ؟ قالوا : ربيعة . وانك يا أمير المؤمنين لعندنا منذ الليلة ، فقال : فخرٌ طويلٌ لك يا ربيعة .

فضيحة عمرو بن العاص (١)

كان الحارث بن النضر الخثعمي من أصحاب علي ( ع ) على قدر كبير من الشجاعة والفروسية وكان بينه وبين عمرو بن العاص عدواة ، وكان علي ( ع ) قد تهيبته فرسان الشام وملأ قلوبهم رعباً بشجاعته ، وكان عمرو قلما يجلس مجلساً إلا ذكر فيه الحارث بن النضر وعابه ، فقال الحارث في ذلك :

ليس عمرو تبارك ذِكرهُ الحارث بالسوء أو يلاقي عليّا

واضع السيف فوق منكبه الأيمن لا يحسب الفوارس شيّا

ليت عمراً يلقاه في حومة النقع وقد أمست السيوف عصيّا

حيث يدعو للحرب حامية القوم إذا كان بالبراز مليّا

فالقه إن أردت مكرمة الدهر أو الموت كل ذاك عليا

فشاعت هذه الأبيات حتى بلغت عمراً ، فأقسم بالله ليلقيّن علياً ولو مات ألف موتةٍ ، فلما اختلطت الصفوف لقيه فحمل عليه برمحه ، فتقدم علي ( ع ) وهو مخترط سيفاً ومعتقل رمحاً ، فلما رهقه همز فرسه ليعلو عليه ، فألقى عمرو نفسه عن فرسه إلى الأرض شاغراً برجليه ، كاشفاً عورته ، فانصرف عنه علي ( ع ) لافتاً وجهه ، مستدبراً له ! فعد الناس ذلك من مكارم أخلاقه وسؤدده وضُرِب المثل به .

وفي ليلةٍ من ليالي صفين اجتمع عند معاوية كل من عمرو بن العاص ، وعتبة بن أبي سفيان والوليد بن عقبة ، ومروان بن الحكم وعبد الله بن عامر ،

__________________

(١) راجع الحاشية المستقلة .

٢١٨
 &

وابن طلحة الطلحات الخزاعي .

فقال عتبة : إن أمرنا وأمر علي بن أبي طالب لعجيب ! ما فينا إلا موتور مجتاح . أما أنا فقد قتل جدي عتبة بن ربيعة وأخي حنظلة ، وشرك في دم عمي شيبة يوم بدر .

وأما أنت يا وليد ، فقتل أباك صبراً . وأما أنت يا بن عامر ، فصرع أباك وسلب عمك . وأما أنت يا بن طلحة ، فقتل أباك يوم الجمل ، وأيتم إخوتك . وأما أنت يا مروان فكما قال الشاعر :

وأفلتهن علباءٌ جريضا

ولو أدركنه صفر الوطاب

فقال معاوية : هذا الاقرار ، فأين الغير ؟ قال مروان : وأي غير تريد ؟ قال : أريد أن تشجروه بالرماح .

قال مروان : والله يا معاوية ما أراك إلا هاذياً أو هازئاً وما أرانا إلا ثقلنا عليك !! فقال ابن عتبة :

يقول لنا معاوية بن حرب

أما فيكم لواترِكم طلوبُ

يشد على أبي حسن عليٍّ

بأسمر لا تهجّنهُ الكعوبُ

فيهتك مجمع اللبّاتِ منه

ونقع الحرب مطرد يؤوبُ

فقلت له أتلعبُ يا بن هندٍ

كأنك بيننا رجل غريبُ

أتغرينا بحيّة بطن وادٍ

أتيح له به أسد مهيبُ

بأضعفَ حيلةً منا إذا ما

لقيناه ولقياه عجيبُ

سوى عمرو وقته خصيتاه

وكان لقلبه منه وجيب

كأن القوم لما عاينوه

خلال النقع ليس لهم قلوبُ

لعمر أبي معاوية بن حرب

وما ظني ستلحقه العيوبُ

لقد ناداه في الهيجا عليٌّ

فاسمعه ولكن لا يجيبُ

فغضب عمرو ، وقال : إن كان الوليد صادقاً فليلق علياً ، أو فليقف حيث يسمع صوته : ثم قال :

٢١٩
 &

يذكرني الوليد دعا عليٍّ

ونطق المرء يملأه الوعيدُ

متى تذكر مشاهده قريش

يطر من خوفه القلب السديدُ

فأما في اللقاء فأين منه

معاوية بن حرب والوليدُ

وعيرني الوليد لقاء ليثٍ

إذا ما شدّ هابته الأسود

لقيت ولستُ أجهله علياً

وقد بلّت من العلق اللبود

فأطعنه ويطعنني خلاساً

وماذا بعد طعنته أريدُ

فرمها منه يا بن أبي مُعَيْط

وأنت الفارس البطل النجيد

وأقسم لو سمعتَ ندا علي

لطار القلب وانتفخ الوريدُ

ولو لاقيته شُقّت جيوبٌ

عليك ولطمت فيك الخدود

« بين عمّار وعمرو بن العاص » (١)

قال نصر بن مزاحم : بينا علي ( ع ) واقفاً بين جماعة من همدان وحمير وغيرهم ، إذ نادى رجل من أهل الشام : من يدل على أبي نوح الحميري ؟ فقيل له : قد وجدته . فماذا تريد . فحسر عن لثامه فإذا هو ذو الكلاع الحميري ومعه جماعة من أهله ورهطه . فقال لأبي نوح : سر معي حتى نخرج من الصف فإن لي إليك حاجة ، فخرج في كتيبة معه .

فقال ذو الكلاع : إنما أريد أن أسألك عن أمرٍ فيكم تمارينا فيه . أحدثك حديثاً حدثناه عمرو بن العاص قديماً في خلافة عمر بن الخطاب ، ثم اذكرنا الآن فيه فأعاده . إنه يزعم أنه سمع رسول الله ( ص ) قال : « يلتقي أهل الشام وأهل العراق ، وفي احدى الكتيبتين الحق وامام الهدى ومعه عمار بن ياسر .

فقال أبو نوح : نعم والله إنه لفينا .

قال : نشدتك الله أجاد هو في قتالنا ؟ قال : نعم ورب الكعبة لهو أشد على قتالكم مني ، ولوددت أنكم خلق واحد فذبحته وبدأت بك قبلهم وأنت ابن عمي .

__________________

(١) شرح النهج ٨ / ١٦ وما بعدها .

٢٢٠