عمّار بن ياسر

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه

عمّار بن ياسر

المؤلف:

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه


الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٤٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &



ترجمة مالك بن نويرة

كان مالك بن نويرة ، رجلاً سرياً نبيلاً ، يردف الملوك ، وهو الذي يضرب به المثل فيقال : فتىً ولا كمالك !

وكان فارساً شاعراً مطاعاً في قومه ، وكان فيه خيلاء وتقدم ، وكان ذا لمّة كبيرة ـ شعر كثيف ـ وكان يقال له الجفول .

قدم على النبي ( ص ) فيمن قدم من العرب ، فأسلم ، فولّاه النبي ( ص ) صدقات قومه .

قال المرزباني : . . فلما بلغته وفاة النبي ( ص ) أمسك الصدقة وفرقها في قومه وقال في ذلك :

فقلت خذوا أموالكم غير خائف

ولا ناظر فيما يجيء من الغد

فإن قام بالدين المخوّف قائم

أطعنا وقلنا الدين دين محمد

وقد ذكر هذه الأبيات السيد المرتضى رحمه الله في كتابه « الشافي » مع أبيات أُخر لمالك استدل بها على أنه حين بلغه وفاة النبي ( ص ) أمسك عن أخذ الصدقة من قومه قائلاً لهم : تربصوا حتى يقوم قائم بعده وننظر ما يكون من أمره .

النص والإجتهاد ١٣١ ـ ١٣٤

٨١
 &

« مقتله »

حين فرغ خالد من « أسد وغطفان » توجه نحو البطاح حيث مالك بن نويرة وقومه هناك فلما عرف الأنصار الذين كانوا مع خالد عزمه على ذلك ، توقفوا عن المسير معه وقالوا : ما هذا بعهد الخليفة إلينا ، إنما عهده إن نحن فرغنا من « البزاخة » واستبرأنا بلاد القوم ، أن نقيم حتى يكتب إلينا .

فأجابهم خالد : إنه ـ أي الخليفة ـ لم يكن عهد إليكم بهذا ، فقد عهد إلي أن أمضي وأنا الأمير ، وإليَّ تنتهي الأخبار ، ولو أنه لم يأتني كتابٌ ولا أمر ثم رأيت فرصةً إن أعلمته بها فاتتني ، لم أعلمه حتى انتهزها ، وكذلك إذا ابتلينا بأمرٍ لم يعهد لنا فيه لم ندع أن نرى أفضل ما يحضرنا ثم نعمل به ، وهذا مالك بن نويرة بحيالنا ، وأنا قاصدٌ له بمن معي .

وكان مالك قد فرق قومه ونهاهم عن الإِجتماع ، وقال : يا بني يربوع ، إنا دعينا إلى هذا الأمر فأبطأنا عنه فلم نفلح ، وقد نظرت فيه فرأيت الأمر يتأتى لهم بغير سياسة ، وإذا الأمر لا يسوسه الناس ، فإياكم ومناوآة قوم صنع لهم ، فتفرقوا وادخلوا في هذا الأمر .

فتفرقوا على ذلك وسار خالد ومن معه قاصدين البطاح ، فلم يجدوا فيها أحداً ، فأرسل خالد سراياه في أثرهم فجائته بمالك بن نويرة في نفرٍ من بني يربوع ، فحبسهم !

وقد روى الطبري بسنده إلى أبي قتادة الأنصاري ـ وكان من رؤساء تلك السرايا ـ قال : إنهم لما غشوا القوم راعوهم تحت الليل ، فأخذ القوم السلاح ! قال أبو قتادة ، فقلنا : إنا المسلمون ؛ فقالوا : ونحن المسلمون ! قلنا ، فما بال السلاح معكم ؟ فقالوا لنا : فما بال السلاح معكم ؟؟ فقلنا : فإن كنتم كما تقولون ، فضعوا السلاح ، فوضعوا السلاح ، ثم صلينا وصلّوا .

قال العقاد : وبعد الصلاة خفوا إلى الإستيلاء على أسلحتهم وشدّ وثاقهم ، وسوقهم أسرى إلى خالد ـ وفيهم زوجة مالك ليلى بنت المنهال أم

٨٢
 &

تميم ـ وكانت من أشهر نساء العرب بالجمال ولا سيما جمال العينين والساقين ـ .

وقد تجادل خالد في الكلام مع مالك ـ وهي إلى جنبه ـ فكان مما قاله خالد : إني قاتلك ! قال له مالك : أو بذلك أمرك صاحبك ؟ ـ يعني أبا بكر ـ قال : والله لأقتلنّك .

وكان عبد الله بن عمر . وأبو قتادة الأنصاري إذ ذاك حاضرين ، فكلّما خالداً في أمره ، فكره كلامهما .

فقال مالك : يا خالد ، ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا ، فقد بعثت إليه غيرنا ممن جرمه أكبر من جرمنا ! وألح عبد الله بن عمر وأبو قتادة على خالد بأن يبعثهم إلى الخليفة ، فأبى عليهما ذلك ! وقال خالد : لا أقالني الله إن لم أقتله ، وتقدم إلى ضرار بن الأزور بضرب عنقه .

فالتفت مالك إلى زوجته وقال لخالد : هذه التي قتلتني .

فقال له خالد : بل الله قتلك برجوعك عن الإِسلام .

فقال له مالك : إني على الإسلام .

فقال خالد : يا ضرار ، اضرب عنقه ، فضرب عنقه ، وجعل رأسه أثفيةً لقدرٍ من القدور المنصوبة .

ثم قبض خالد على زوجته ليلى ، فبنى بها في تلك الليلة ، وفي ذلك يقول أبو زهير السعدي :

ألا قل لحيٍّ أوطئوا بالسنابك

تطاول هذا الليل من بعد مالكِ

قضى خالدٌ بغياً عليه لعرسه

وكان له فيها هوىً قبل ذلك

فأمضى هواه خالدٌ غير عاطفٍ

عنان الهوى عنها ولا متمالك

وأصبح ذا أهلٍ وأصبح مالك

على غير شيءٍ هالكاً في الهوالك

فمن لليتامى والأرامل بعده

ومن للرجال المعدمين الصعالك

أصيبت تميم غثها وسمينها

بفارسها المرجو سحب الحوالك

٨٣
 &

وكان خالد قد أمر بحبس الأسرى من قوم مالك ، فحبسوا والبرد شديد ، فنادى مناديه في ليلةٍ مظلمة : أن أدفئوا أسراكم !! وهي في لغة كنانة كناية عن القتل ! فقتلهم بأجمعهم .

وكان قد عهد إلى الجلادين من جنده أن يقتلوهم عند سماع هذا النداء ، وتلك حيلة منه توصّل بها إلى أن لا يكون مسؤولاً عن هذه الجناية ، لكنها لم تخف على أبي قتادة وأمثاله من أهل البصائر ، وإنما خفيت على رعاع الناس وسوادهم .

والتفت أبو قتادة الأنصاري إلى خالد وقال : هذا عملك ؟!!

فنهره خالد ، فغضب ومضى .

وكان أبو قتادة ممن شهد لمالك بالإِسلام ـ كما قدمنا ـ وقد كان عاهد الله أن لا يشهد مع خالد بن الوليد حرباً بعدها أبداً .

حين وصلت أنباء البطاح ومقتل مالك إلى المدينة ، أثارت موجة سخط في أوساط كبار المسلمين . . . فحين بلغ ذلك عمر بن الخطاب تكلم فيه عند أبي بكر وقال : « عدو الله . عدا على امرىءٍ مسلم فقتله ، ثم نزا على امرأته . . » .

وأقبل خالد بن الوليد قافلاً ، حتى دخل المسجد وعليه قباءٌ له عليه صدأ الحديد ، معتجراً بعمامةٍ له قد غرز فيها أسهماً ، فلما دخل قام إليه عمر ، فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها ـ ثم قال : أرئاءً . قتلت امرىء مسلماً . . الخ . . كما تقدم .

وقد كان بين خالد وبين عبد الرحمان بن عوف كلام في ذلك ، فقال له عبد الرحمن : عملت بأمر الجاهلية في الإسلام ؟ وأنكر عليه عبد الله بن عمر وسالم مولى أبي حذيفة .

وقدم متمم بن نويرة أخو مالك إلى المدينة ينشد أبا بكر دمه ، ويطلب إليه رد السبي ، فكتب إليه برد السبي . وأنشده .

أدعوته بالله ثم غدرته

لو هو دعاك بذمةٍ لم يغدرِ

٨٤
 &

فضائل عمار بن ياسر رضي الله عنه

إن فضائلَ عمّار بن ياسر كثيرةٌ جداً يطول ذكرُها . فمن ذلك : ما وردَ في تحديد هويته الدينية وسابِقتهِ وهجرته ومعاناتِهِ في الله ما ذكره أبو عُمر في الإِستيعاب حيث قال :

« هاجرَ إلى أرض الحبشة ، وصلىٰ إلى القبلتين وهو من المهاجرين الأولين ، ثم شهد بدراً والمشاهدَ كلها ، وأبلىٰ بلاءً حسناً ، ثم شهد اليمَامَة ـ حرب الردّة ـ فأبلىٰ فيها أيضاً يومئذٍ ، وقُطعت أذنُهُ » .

وأمّا ما رُوي عن رسولِ الله ( ص ) في فضله ، فقد بلغَ حدَّ التواتر ، فمن ذلك :

حديثُ خالد بن الوليد أن رسول الله ( ص ) قال : من أبغضَ عماراً أبغضه اللهُ . فما زِلتُ أحبه من يومئذٍ .

وعن ابنِ عباس في تفسير قوله تعالى : ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) إنه عمّارُ بن ياسر ( كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) إنه أبو جهل بن هشام » .

ومن حديث علي بن أبي طالب ( ع ) : إنّ عماراً جاءَ يستأذنُ على

٨٥
 &

رسول الله ( ص ) يوماً ، فعرف صوتُه ، فقال : « مرحباً بالطيّب المطيّب ! إإذنوا له » .

وهو أحدُ الذين تشتاق إليهم الجنةُ كما روي عن النبي ( ص ) في حديث أنَسْ : « إن الجنّة تشتاق إلى أربعةٍ ، عليّ بن أبي طالب ، وعمار بن ياسر ، وسلمانِ الفارسي ، والمقداد » .

وعنه ( ص ) : مُلىءَ عمار إيماناً إلى أخمص قدميه .

وعنه ( ص ) : عليكم بابن سميّة فإنه لن يفارق الحق حتى يموت . وفي حديث آخر : إن عماراً مع الحقِ والحقَ معه ! يدور عمارٌ مع الحق أينما دار ، وقاتلُ عمارٍ في النار .

وعنه ( ص ) : ما لهم ولعمَّار ، يدعوهم إلى الجنةِ ، ويدعونهُ إلى النارِ ! إن عماراً جلدةٌ ما بين عيني وأنفي .

وجاء رجلٌ إلى عبد اللهِ بن مسعود فقال له : « أرأيتَ إذا نزلت فتنةٌ كيف أصنع ؟

قال : عليك بكتاب الله .

قال : أرأيتَ إن جاء قومٌ كلّهم يدعون إلى كتابِ الله ؟

فقال : سمعتُ رسول الله ( ص ) يقول : إذا اختلفَ الناسُ ، كان ابن سمية مع الحق (١) .

وكتب عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة : أما بعد ، فإني بعثت إليكم عماراً أميراً ، وعبدَ الله بن مسعود معلماً ووزيراً ، وهما من النجباء من أصحابِ محمد ، فاسمعوا لهما واقتدوا بهما .

__________________

(١) هذه الأحاديث وردت بألفاظ مختلفة وبطرق وأسانيد عدة . راجع كتاب الغدير ٩ / ٢٧ ـ ٣٠ .

٨٦
 &

بين عمّار وعثمان

جاء في كتاب الأنساب ، ما يلي :

« كان في بيتِ المال بالمدينة سفطٌ فيه حليّ وجوهرٌ ، فأخذ منه عثمان ما حَلّىٰ به بعض أهله ، فأظهرَ الناسُ الطعنَ عليه في ذلك وكلّموه فيه بكلام شديدٍ حتىٰ أغضبوه ، فخطب فقال :

لنأخذنَّ حاجتنا من هذا الفيىء وإن رغِمتْ أنوف أقوام . فقال له علي : إذن تُمنع من ذلكَ ويُحال بينكَ وبينَه .

وقال عمار بن ياسر : أُشهدُ اللهَ أن أنفي أولَ راغمٍ من ذلك .

فقال عثمان : أعَليّ يا بن المتكاءْ (١) تجترئ ؟! خذوه ، فأُخذ ودخل عثمان ودعا به فضربه حتى غُشي عليه ، ثم أُخرج فحُمل حتى أُتي به منزل أم سَلَمة زوج رسول الله ( ص ) فلم يصل الظهر والعصر والمغرب ، فلما أفاق توضأ وصلى وقال : الحمد للهِ ، ليس هذا أولُ يومٍ أُذينا فيه في الله .

وقام هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي ـ وكان عمار حليفاً لبني مخزوم ـ فقال : يا عثمان أما عليٌّ فاتقيته وبني أبيه ، وأما نحنُ فاجترأتَ علينا

__________________

(١) المتكاء : البظراء : أو التي لا تمسك البول .

٨٧
 &

وضربت أخانا حتى أشفيتَ به على التَلف ، أما والله لئن ماتَ لأقتلن به رجلاً من بني أميّة عظيم السرّة .

فقال عثمان : وإنك لههنا يا بن القسريّة ؟ قال : فإنهما قسريتان . وكانت أمّهُ وجدّته قسريّتين من بَجيلة .

فشتمه عثمان وأمرَ به فأُخرج . فأتىٰ أم سلمة فإذا هي قد غضبت لعمّار .

وبلغ عائشةَ ما صُنع بعمّار فغضبت وأخرجت شعراً من شعر رسول الله ( ص ) وثوباً من ثيابه ونعلاً من نعاله ، ثم قالت : ما أسرَعَ ما تركتم سنّة نبيكمْ ، وهذا شعره وثوبه ونعله لم يُبلَ بعد .

فغضب عثمان غضباً شديداً حتى ما درىٰ ما يقول ، فالتجَّ المسجد ، وقال الناس : سبحان الله ، سبحان الله !!

وكان عمرو بن العاص واجداً على عثمان لعزله إياه عن مِصر وتوليته إياها عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، فجعل يكثر التعجب والتسبيح .

وبلغ عثمان مصير هشام بن الوليد ومن مشى معه من بني مخزوم إلى أم سلمة وغضبها لعمار ، فأرسل إليها : ما هذا الجمع ؟ فأرسلتْ إليه : دع ذا عنك يا عثمان ولا تحملِ الناس في أمرك على ما يكرهون . واستقبحَ الناسُ فعله بعمّار ، وشاع فيهم فاشتد إنكارهم له (١) .

وأظن أن هذه الحادثة أنموذج كافٍ في الدلالة على خروج السلطة من إطارها الذي أراده الله سبحانه ، وألِفه المسلمون بعد وفاة الرسول الأعظم ( ص ) إلى إطارٍ آخر ترسمه ثلة من المستفيدين الطامحين للملك ، سيما إذا أخذنا بعين الإِعتبار ما ورد في نصوص المؤرخين : من أن الغالبَ على عثمان آنذاك ، مروانُ بن الحكم وأبو سفيان بن حرب .

__________________

(١) الغدير ٩ / ١٥ وقد ورد هذا الخبر بعدة طرق وبألفاظ ثانية والمضمون واحد .

٨٨
 &

كما أن في هذه الحادثة دليل واضح على مدى البُعد بين عثمان وعمار في التفكير الديني وسياسة الأمور .

وزاد في الهُوّة بين الطرفين تتابعُ الأحداث التي يشبه بعضها بعضاً من حيث المبدأ السلطوي الذي انتهج ازاء كبراء الصحابة وعظمائهم ، أمثال أبي ذر الغفاري وعبد الله بن مسعود ، وملاحقتهم بالنفي تارة ، وبالضرب والإِذلال تارةً أخرى حتى مات الأول منفياً في الربذة ، ومات الثاني مقهوراً بعد أن كُسِر ضلعهُ وحُرم عطاءه . وكان لابن ياسر نصيبٌ من سخط الخليفة وغضبه بسبب هذين الصحابيين الجليلين .

فحين نُفي أبو ذر ، كان عمّار أحدَ المشيعين والمودعين له ، وحين توفي أبدى حزنه وأسفه العميقين عليه أمام عثمان مما زاد في غضبه ، ثم بعد ذلك توفي ابن مسعود فصلى عليه عمار بوصيةٍ منه ، ثم توفي المقداد فصلىٰ عليه عمار أيضاً دون أن يؤذن عثمان بذلك ، فاشتد سخطهُ وغضبهُ عليه .

قال البلاذري : لما بلغ عثمانَ موت أبي ذرٍ بالربذة قال : رحمه الله . فقال عمار بن ياسر : نعم ، فرحمه الله من كل أنفسنا ! فقال عثمان : يا عاض . . أبيه ، أتراني ندمت على تسييره ؟! وأمر به فدُفع في قفاه وقال : إلحقْ بمكانه . فلما تهيأ للخروج جاءت بنو مخزوم إلى عليّ فسألوه أن يكلم عثمان فيه ، فقال له علي : يا عثمان ، إتق الله ! فإنك سيّرت رجلاً صالحاً من المسلمين فهلك في تسييرك ، ثم أنت الآن تريد أن تنفي نظيره !؟ وجرى بينهما كلام حتى قال عثمان ـ مخاطباً علياً ـ : أنت أحق بالنفي منه ! فقال عليٌّ : رُمْ ذلك إن شئت !!

واجتمع المهاجرون فقالوا : إن كنتَ كُلما كلّمكَ رجل سيّرته ونفيته ، فإن هذا شيء لا يسوغ فكَفَّ عن عمار (١) .

وتوفي ابن مسعود وكان قد أوصى عماراً أن لا يصلي عليه عثمان ،

__________________

(١) الغدير ٩ / ١٨ .

٨٩
 &

فقبل وصيته ، وكان عثمان غائباً ، فلما عاد « رأى القبر فقال : قبرُ من هذا ؟ فقيل : قبرُ عبد الله بن مسعود . قال : فكيف دُفن قبل أن أعلم ؟ فقالوا : وَليَ أمرَه عمار بن ياسر . . ولم يلبث إلا يسيراً حتى مات المقداد فصلى عليه عمار ، وكان أوصى إليه ولم يؤذن عثمان به ، فاشتد غضب عثمان على عمار وقال : ويلي على ابن السوداء ، أمَا لقد كنتُ به عليماً » (١) .

ومن هنا يتضح بأن ما حصل بين عثمان وعمار من عداءٍ لم يكن عداءً شخصياً نمىٰ وتطور حتى تحول إلى حرب مواقف ـ إذا صح التعبير ـ بين صحابيين كان بالإِمكان تلافيه ، أو على الأقل السكوتُ عنه حفظاً لمقام الخلافة وهيبتها . بل إن الأمر كان على العكس من ذلك . فالمتتبع للأحداث يلمس بوضوح أن الصراع بينهما كان صراعاً بين مبدئين . مبدأ يعتمدُ اللامحدودية في سلطته والنزوع وراء المُلْك ، ومبدأ يعتمد السنَّةَ النبوية الشريفة وسيرة الخلفاء الراشدين . فعثمانُ لم يكن وحده في آرائه ، وكذلك عمار لم يكن وحده في معارضته .

وعلى هذا يمكن القول أن خلافة عثمان أوجدت الفرصةَ لسيطرةِ الأمويين على مقدرات الأمة وأرزاقها عن طريق نفوذهم لسُدّة الحكم ، ولولا يقظة بعض الصحابة وحذرهم لتم لهم ذلك بشكل سريع ، لكن معارضتهم هي التي كانت تحول دون ذلك .

وقد حدد العقاد في كتابه عثمان ، نظرة عثمان للخلافة بقوله :

« فكانت له نظرةٌ للإِمامة قاربتْ أن تكون نظرةً إلى المُلك ، وكان يقول لابن مسعود كلما ألح عليه في المحاسبة : ما لَكَ ولبيتِ مالِنا ؟! وقال في خطبته الكبرىٰ يرد على من آخذوه بهباته الجزيلة : فضلٌ من مالٍ ، فلم لا أصنعُ في الفضل ما أريد ؟ فلِم كنتُ إماماً !! » (٢) .

وكان جديراً به أن يتقبل نصائح المخلصين من الصحابة ويناقش

__________________

(١) اليعقوبي ٢ / ١٤٧ .

(٢) عثمان : ٢١١ ـ ٢١٢ .

٩٠
 &

ملاحظاتهم وآرائهم بقلبٍ مفتوح كما كان يفعل صاحباه من قبل ، لكي تبقى للخلافة هيبتُها وللمسلمين وحدتهُم ، لكنه تهاون أزاء ذلك فأدى تهاونه إلى ما انتهت إليه الأمور من خسارةٍ وتمزيق .

لقد كان تسامحه مع أهل بيته وأقربائه وحبه لهم وتقريبه إياهم هو السببُ الأول في تحويل مركز الخلافة إلى سلطةٍ زمنية أهملت الكثير من توجيهات القرآن وتعاليم الإِسلام . ويصف المؤرخون عثمان بأنه « كن جواداً وصولاً بالأموال ، وقدم أقاربه وذوي رحمه على سائر الناس ، وسوى بين الناس في الأعطية ، وكان الغالب عليه مروان بن الحكم وأبو سفيان بن حرب (١) .

كما كان إلى جانب ذلك يستخفُّ بصيحات الصحابة من المهاجرين والأنصار ، ويضع من قدرهم ما استطاع ، ويرد على من ينتقدُ وُلاتَهُ وعمّاله من زعماء الأمصار وقادتهم بالتجريح تارةً ، وبالنفي والإِذلال إذا رأى في ذلك رادعاً .

ولنلقي الآن نظرةً سريعةً تجاه سياسة عثمان المالية ، والإِدارية ، والتأديبية .

__________________

(١) اليعقوبي ٢ / ١٧٣ .

٩١
 &

سياسته المالية

ونذكر منها ما يلي على سبيل المثال :

١ ـ افتُتِحت أرمينية في أيامه ، فأخذ الخمسَ كله فوهبه لمروان بن الحكم (١) .

٢ ـ زوّجَ ابنته عائشة من الحرث بن الحكم بن العاص ، « فأعطاه مائَةَ ألف دِرهم » .

٣ ـ زوّجَ ابنته من عبد الله بن خالد بن أُسَيْد وأمر له « بستمائة ألف درهم ، وكتب إلى عبد الله بن عامر أن يدفعها إليه من بيت مال البصرة » .

٤ ـ حمىٰ المراعي حول المدينة كلّها ، من مواشي المسلمين كلّهم ، إلا عن بني أمية .

٥ ـ أقطع مروان بن الحكم فَدَك ، وكانت فاطمة عليها السلام طلبتها بعد وفاة أبيها ( ص ) ، تارةً بالميراث ، وتارة بالنِحْلة ، فدُفِعت عنها .

٦ ـ أعطى عبد الله بن أبي سَرْح جميع ما أفاء اللهُ عليه من فتح إفريقية . . من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين .

__________________

(١) راجع ترجمة مروان بن الحكم .

٩٢
 &

٧ ـ إن رسول الله ( ص ) تصدّق على المسلمين بموضع « سُوق » بالمدينة ، فأقطعه عثمان للحرث بن الحكم أخي مروان ، وهو أغرب ما ذكرنا .

٨ ـ أتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة ، فقسمها كلها في بني أمية (١) .

٩ ـ بُنيان مروان القصور بذي خشب ، وعمارة الأموال بها من الخمس الواجب لله ولرسوله .

١٠ ـ ما كان من إدراره القطائع والأرزاق والأعطيات على أقوام بالمدينة ليست لهم صحبة من النبي ( ص ) ثم لا يغزون ولا يذبّون (٢) .

١١ ـ أعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال ، في اليوم الذي أمر به لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال (٣) .

١٢ ـ قَدِمت إبل الصدقة عليه ، فوهبها للحرث بن الحكم .

إن مقدرات الدولة الإِسلامية وثرواتها ليست حكراً على أحد ، ولا ملكاً لجماعة أو فئةٍ معينةٍ من الناس ، وليس لأحد الحق في أن يتطاول عليها أو يدعيها لقرابته فضلاً عن أن يؤثرهم بها إلا ما يأمر الله سبحانه به مما جاء في الكتاب العزيز والسنّة النبوية الشريفة ، وعلى هذا الأساس بدأت النقمة تتزايد على عثمان من جراء سياسته تلك .

قال اليعقوبي في تأريخه : « ونقم الناس على عثمان بعد ولايته بست سنين ، وتكلم فيه من تكلم ، وقالوا آثر الأقرباء ، وحمى الحمىٰ وبنىٰ الدور واتخذ الضياع والأموال بمال الله والمسلمين . . الخ » (٤) وكان عثمان يقول في

__________________

(١) شرح النهج ١ / ٦٦ ـ ٦٧ .

(٢) الإمامة والسياسة ١ / ٢٩ .

(٣) شرح النهج ١ / ١٩٨ ـ ١٩٩ .

(٤) اليعقوبي ٢ / ١٧٤ .

٩٣
 &

ذلك : « هذا مالُ الله أُعطيه من شئت وأمنعه من شئت ، فأرغَمَ الله أنف من رغِم » (١) .

« سياسته في اختيار الولاة »

وقد اقتصر في سياسته الإِدارية على أقاربه وذوي رحمه مخالفاً بذلك القاعدة المتعارفة لدىٰ المسلمين ولدىٰ من سبقه من الخلفاء في إختيار ذوي السابقة في الدين من كبار الصحابة وعظمائهم . ولو أن في أقاربه من كان له سابقةٌ أو صحبةٌ أو جهادٌ لهان الأمر ، لكنهم كانوا على عكس ذلك متهمين في دينهم ، بل فيهم من أمره بالفسق معروفٌ مشهور .

ومن هؤلاء :

١ ـ عبد الله بن سعدِ بن أبي سرح : ولّاه عثمان على مصر

« وكان عبد الله هذا قد أسلم وكتبَ الوحي لرسول الله ( ص ) فكان إذا أملىٰ عليه : عزيزٌ حكيم يكتب : عليمٌ حكيمٌ ، وأشباه ذلك . ثم إرتدَّ ، وقال لقريشٍ . إني أكتب أحرفَ محمدٍ في قرآنه حيث شئت : ودينكم خير من دينه .

فلما كان يوم الفتح ، فرَّ إلى عثمان بن عفان ـ وكان أخاه من الرضاعة ـ فغيّبهُ عثمان حتى إطمأن الناس ، ثم أحضره إلى رسول الله ( ص ) وطلب له الأمان ، فصمَتَ رسولُ الله ( ص ) طويلاً ، ثم أمّنه ، فأسلم وعاد . فلما انصرف ، قال رسول الله ( ص ) لأصحابه : لقد صمَتُّ ليقتلَهُ أحدكم . . » (٢) .

٢ ـ الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيْط :

ولّاه عثمان الكوفة سنة ٢٥ للهجرة ، والوليدُ هذا هو الذي وصفه القرآن بالفسق ، ففيه نزلت الآية الكريمة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ

__________________

(١) الغدير ٨ / ٢٨١ .

(٢) الكامل / ٢ / ٢٤٩ .

٩٤
 &

فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا . . . ) وكان النبي ( ص ) قد بعثه في صدقات بني المصطلق ، فخرجوا لإِستقباله فظن أنهم أرادوا قتله ، فرجع إلى النبي وأخبره أنهم منعوا صدقاتهم . . » الخ (١) . وقد ولاه عثمان الكوفة بعد عزل سعد بن أبي وقاص ، فالتفت الوليد إلى سعد مسلِّياً إياه قائلاً له : « لا تجزع أبا إسحاق ، كل ذلك لم يكن ، وإنما هو المُلك يتغداه قومٌ ويتعشاه آخرون » . ثم شاع فِسقه وشربه للخمر وأقام عليٌّ ( ع ) عليه الحد ثم عُزل .

٣ ـ معاوية بن أبي سفيان :

وكان عاملاً لعُمَر على دمشق والأردن ، فضمَّ إليه عثمان ولاية حِمص وفلسطين والجزيرة ، وبذلك مدَّ له في أسباب السلطان إلى أبعد مدىً مستطاع (٢) وأمرُ معاوية واضح غير خفي . فهو أحد الطلقاء المستسلمين يوم الفتح .

٤ ـ سعيد بن العاص :

عينه عثمان والياً على الكوفة بعد أن عزَل الوليد عنها . ولم يكن سعيد ليخفي ما في نفسه من الرغبة في التسلط على فيىء المسلمين إن أمكنت الفرصة من ذلك ، بل أكد على ذلك بقوله لبعض جلسائه : « إنما هذا السواد بُستانُ قريش » (٣) .

٥ ـ عبد الله بن عامر بن كريز :

وكان عبد الله هذا من أبرز الدعاة إلى سياسة التضييق والإِفقار والإِشغال ، التضييق على المسلمين الذين نادوا مطالبين بالعدالة ورفع الجور عنهم ، وعزل العمال غير ذوي الكفاءة فقد أشار على عثمان بذلك ، فقال له حين استشاره :

« أرى لك يا أمير المؤمنين أن تشغلهم بالجهاد عنك حتى يذلوا لك ،

__________________

(١) مجمع البيان ٩ / ١٣٢ الحجرات . راجع ترجمة الوليد ص .

(٢) ثورة الحسين / ٤٠ .

(٣) للتفصيل راجع الكامل ٣ / ١٢٩ .

٩٥
 &

ولا يكون هِمّةُ أحدهم إلا في نفسه ، وما هو فيه من دُبُرِ دابته وقُمَّلِ فروته . . » (١) .

« سياسته التأديبية »

كانت في الواقع سياسةً انتقاميةً وليست تأديبيةً ، اعتمدها الخليفة في سيرته مع معارضيه الذين كانوا يرفعون أصواتهم في وجهه أزاء ما يرونه خارجاً عن حدود الشريعة الإِسلامية والسُنَّة النبوية الشريفة ، بل وسيرةِ الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .

وقد مرَّ معنا ما لقيهُ عمار بن ياسر وما عاناه ابن مسعود من كسر ضلعه ومن بعدهما نفي أبي ذر إلى الربذة وموته هناك . ولا ننسى أن هذا النمط من الصحابة يُعدُّ من زعمائهم وعظمائهم الذين يتسنىٰ لهم أن يقولوا ويعترضوا ومع ذلك عُوقبوا بهذه الطريقة الموجعة والمزرية من العقاب .

وتخطىٰ الأمر المدينة ـ دار الخلافة ـ ليشمل الكوفة ، فقد حصلت مشادةٌ كلامية بين سعيد بن العاص والي الكوفة وبين بعض زعمائها كمالك الأشتر وصعصعة بن صوحان ، حين قال سعيد كلمته المعروفة « إنما هذا السواد بستان قريش » . انتهت بتسيير هؤلاء « نفيهم » إلى الشام ، ثم إلى حمص واضطهادهم وترويعهم ، وإليك القصة مفصلةً :

حين ولي سعيد الكوفة استخلص من أهلها قوماً يسمرون عنده ، فقال سعيد يوماً : إن السواد ـ أي الأرض الخضراء بما فيها ـ بستان لقريش وبني أمية .

فقال الأشتر النخعي : وتزعم أن السواد الذي أفاءه الله على المسلمين بأسيافنا بستان لك ولقومك ؟

فقال صاحب شرطته : أترد على الأمير مقالته !؟ واغلظ له : فقال

__________________

(١) ـ المصدر السابق / ١٥٠ .

٩٦
 &

الأشتر لمن حوله من النُخَع وغيرهم من أشراف الكوفة : ألا تسمعون ؟ فوثبوا عليه بحضرة سعيد فوطؤه وطأً عنيفاً وجرّوا برجله .

فغلظ ذلك على سعيد وأبعد سُمّاره فلم يأذن بَعدُ لهم ، فجعلوا يشتمون سعيداً في مجالسهم ثم تعدوا ذلك إلى شتم عثمان .

واجتمع إليهم ناس كثير حتى غلظ أمرهم ، فكتب سعيد إلى عثمان في أمرهم ، فكتب إليه أن يُسيّرهم إلى الشام لئلا يُفسدوا أهل الكوفة ، وكتب إلى معاوية وهو والي الشام :

« إن نفراً من أهل الكوفة قد همّوا بإثارة الفتنة وقد سيرتهم إليك ، فإنهَهُم فإن آنست منهم رشداً فأحسِن إليهم وارددهم إلى بلادهم » (١) .

وحين قدموا الشام دارت محاورات بينهم وبين معاوية وكان لهم معه مجالس ، وقد قال لهم معاوية في جملة ما قال : « إن قريشاً قد عرفت أن أبا سفيان أكرمها وابن أكرمها ، إلا ما جعل الله لنبيه ( ص ) فإنه انتجبه وأكرمه ، ولو أن أبا سفيان ولَدَ الناس كلهم لكانوا حكماء !

فقال له صعصعة بن صوحان : كذِبتْ ، قد ولَدَهُم خيرٌ من أبي سفيان ، من خلقه الله بيده ونفخَ فيه من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا له ، فكان فيهم البَرُّ والفاجر والكيّس والأحمق .

وفي بعض المحاورات قال لهم معاوية : « أيها القوم ، ردوا خيراً واسكنوا وتفكروا وانظروا فيما ينفعكم والمسلمين فاطلبوه وأطيعوني .

فقال له صَعْصَعة : لستَ بأهلِ لذلك ، ولا كرامة لك أن تُطاع في معصية الله .

فقال : إن أول كلام ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله وطاعة رسوله ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا .

__________________

(١) الغدير ٩ / ٣٢ .

٩٧
 &

فقال صعصعة : بل أمرتَ بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي ( ص ) .

فقال : إن كنتُ فعلت فإني الآن أتوبُ وآمركم بتقوى الله وطاعته ولزوم الجماعة وأن توقروا أئمتكم وتطيعوهم .

فقال صعصعة : إذا كنت تبت فإنّا نأمرك أن تعتزل أمرك ، فإن في المسلمين من هو أحق به منك ممن كان أبوه أحسن أثراً في الإِسلام من أبيك ، وهو أحسن قدَماً في الإِسلام منك .

فقال معاوية : إن لي في الإِسلام لقدَماً وإن كان غيري لأحسنُ قدماً مني لكنه ليس في زماني أحدٌ أقوى على ما أنا فيه مني ، ولقد رأى ذلك عمرُ بن الخطاب ، فلو كان غيري أقوى مني لم يكن عند عمر هوادةٌ لي ولغيري ، ولاحدث ما ينبغي له أن اعتزل عملي ، ولو رأىٰ ذلك أمير المؤمنين لكتب إليَّ فاعتزلت عمله ، ولو قضى الله أن يفعل ذلك لرجوت أن لا يعزم له على ذلك إلا وهو خير ، فمهلاً فإن فيّ دون ما أنتم فيه ، ما يأمر في الشيطان وينهى ، ولعمري لو كانت الأمور تُقضى على رأيكم وأهوائكم ما استقامت الأمور لأهل الإِسلام يوماً وليلة ، فعودوا إلى الخير وقولوه .

فقالوا : لست لذلك أهلاً .

فقال : أما والله ، إن للهِ لسطوات ونقمات وإني لخائفٌ عليكم أن تتبايعوا إلى مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمان فيحلّكم ذلك دار الهوان في العاجل والآجل .

فوثبوا عليه فأخذوا برأسه ولحيته ، فقال : مَهْ ، إن هٰذه ليست بأرض الكوفة ، والله لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي وأنا إمامهم ما ملكتُ أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم ، فلعمري إن صنيعكم ليُشبه بعضه بعضاً . ثم قام من عندهم فقال : والله لا أدخل عليكم مدخلاً ما بقيت ، وكتب إلى عثمان :

« أما بعد ، يا أمير المؤمنين فإنك بعثت إلي أقواماً يتكلمون بألسنة الشياطين وما يُملون عليهم ، ويأتون الناس ـ زعموا ـ من قِبل القرآن فيشبّهون

٩٨
 &

على الناس ، وليس كل الناس يعلم ما يريدون وإنما يريدون فرقة ، ويقربون فتنة ، قد أثقلهم الإِسلام وأضجرهم ، وتمكنت رُقىٰ الشيطان من قلوبهم ، فقد أفسدوا كثيراً من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة ، ولستُ آمن إن أقاموا وسط أهل الشام أن يغرّوهم بسحرهم وفجورهم ، فارددهم إلى مصرهم ، فلتكن دارهم في مصرهم الذي نجم فيه نفاقهم . والسلام .

فكتب إليه عثمان يأمره أن يردَّهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة ، فردهم إليه ، فلم يكونوا إلا أطلق ألسنةً منهم حين رجعوا . وكتب سعيد إلى عثمان يضج منهم . فكتب عثمان إلى سعيد أن سيّرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ـ وكان أميراً على حمص .

وهؤلاء النفر هم : مالك الأشتر (١) وثابت بن قيس الهمداني وكميل بن زياد النخعي ، وزيد بن صوحان وأخوه صعصعة ، وجندب بن زهير الغامدي ، وحبيب بن كعب الأزدي ، وعروة بن الجعد ، وعمرو بن الحمق الخزاعي .

وكتب عثمان إلى الأشتر وأصحابه : أما بعد ، فإني قد سيّرتكم إلى حمص ، فإذا أتاكم كتابي هذا فاخرجوا إليها ، فإنكم لستم تألون الإِسلام وأهله شراً . والسلام .

فلما قرأ الأشتر الكتاب قال : اللهم أسوأنا نظراً للرعيّة ، وأعملنا فيهم بالمعصية ، فعجّل له النقمة .

فكتب بذلك سعيد إلى عثمان ، وسار الأشتر وأصحابه إلى حمص فأنزلهم عبد الرحمان بن خالد الساحل وأجرى عليهم رزقاً .

وروى الواقدي : أن عبد الرحمان بن خالد جمعهم بعد أن أنزلهم أياماً وفرض لهم طعاماً ثم قال لهم : يا بني الشيطان ! لا مرحباً بكم ولا أهلاً ، قد

__________________

(١) راجع ترجمته .

٩٩
 &

رجع الشيطان محسوراً وأنتم بعدُ في بساط ضلالكم وغيكم ، جزى الله عبد الرحمان إن لم يؤذكم ، يا معشر من لا أدري أعربٌ هم أم عجم ، أتراكم تقولون لي ما قلتم لمعاوية ؟ أنا ابن خالد بن الوليد ، أنا ابن من عجمته العاجمات أنا ابن فاقىء عين الردة ، والله يا بن صوحان : لأطيّرن بك طيرة بعيدة المهوى إن بلغني أن أحداً ممن معي دق أنفك فاقتنعت رأسك .

قال : فأقاموا عنده شهراً كلما ركب أمشاهم معه ، ويقول لصعصعة : يا بن الخطيّة : إن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر ، مالك لا تقول كما كنت تقول لسعيد ومعاوية ؟ فيقولون : نتوب إلى الله ، أقِلْنا أقالك الله ، فما زال ذاك دأبُهُ ودأبهم حتى قال : تاب الله عليكم . فكتب إلى عثمان يسترضيه عنهم ويسأله فيهم ، فردّهم إلى الكوفة (١) .

هذه صورة مختصرة عن سياسة عثمان التأديبية التي انتهجها أزاء كبار الصحابة وبعض زعماء المسلمين .

__________________

(١) الغدير ٩ / ٣٢ ـ ٣٧ .

١٠٠