عمّار بن ياسر

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه

عمّار بن ياسر

المؤلف:

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه


الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٤٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

فقال الزبير : حملني على ذلك الطلبُ بدم عثمان فقال له علي : أنت وأصحابك قتلتموه ، فيجب عليك أن تُقيدَ من نفسك ! ولكن أنشدك بالله الذي لا إله إلا هو ، أما تذكر يوماً قال لك رسول الله ( ص ) : يا زبير أتحب علياً ! فقلت : يا رسول الله ، وما يمنعني من حبه وهو ابن خالي ؟ فقال لك : أما إنك ستخرج عليه يوماً وأنت ظالم ؟ فقال الزبير : اللهم بلىٰ ، قد كان ذلك .

قال علي : فأنشدك بالله الذي أنزل الفرقان أما تذكر يوماً جاء رسول الله ( ص ) من عند بني عمرو بن عوف وأنت معه وهو آخذٌ بيدك فاستقبلته أنا فسلّم عليَّ وضحكَ في وجهي ، وضحكتُ أنا إليه ، فقلتَ أنتَ : لا يدعُ ابن أبي طالب زهوه أبداً ! فقال لك النبي ( ص ) : مهلاً يا زبير ! فليس به زهوٌ ، ولتخرُجَنَّ عليه يوماً وأنت ظالمٌ له ؟

فقال الزبير : اللهم بلى ! ولكن أُنْسِيت ، فأما إذ ذكّرتني ذلك فوالله لأنصرفن عنك ! ولو ذكرتُ هذا لما خرجتُ عليك .

ثم رجع الزبير إلى عائشة وهي واقفة في هودجها ، فقالت : ما وراءك يا أبا عبد الله ؟ فقال الزبير : ورائي ؛ والله ما وقفتُ موقفاً قط ، ولا شهدت مشهداً من شِركٍ ولا إسلام إلا ولي فيه بصيرة ؛ وإني لعلىٰ شكٍ من أمرك ، وما أكاد أبصر موضع قدمي !

فقالت عائشة : لا والله ! ولكنك خفتَ سيوف أبي طالب ، أما إنها طوال حِداد تحملها سواعد أنجاد ، ولئن خفتها ، لقد خافها الرجال من قبلك !

وأقبل عليه ابنه عبد الله فقال : لا والله ! ولكنك رأيت الموت الأحمر تحت رايات ابن أبي طالب !

فقال له الزبير : والله يا بني إنك لمشؤوم مذ عرفتك .

فقال عبد الله : ما أنا بمشؤوم ، ولكنك فضحتنا في العرب فضيحةً لا

١٤١
 &

تغسل منها رؤوسنا أبداً .

فغضب الزبير من ذلك ، ثم صاح بفرسه ، وحمل على أصحاب علي حملةً منكرة . فقال علي رضي الله عنه : إفرجوا له فإنه محرَّج ، فأوسعوا له حتى شق الصفوف وخرج منها ، ثم رجع فشقها ثانية ولم يطعن أحداً ولم يضرب ، ثم رجع إلى ابنه فقال : يا بني ؛ هذه حملة جبان ؟! فقال له ابنه عبد الله : فلم تنصرف عنا وقد التقتْ حلقتا البطان ؟

فقال الزبير : يا بني أرجع ـ والله ـ لأخبار قد كان النبي ( ص ) عهدها إليّ فنسيتُها حتى أذكرنيها علي بن أبي طالب ، فعرفتها .

ثم خرج الزبير من معسكرهم تائباً مما كان منه وهو يقول ابياتاً مطلعها :

ترك الأمور التي تُخشىٰ عواقُبها

لله أجمل في الدنيا وفي الدين

ثم مضى الزبير وتبعه خمسة فرسان فحمل عليهم وفرّق جمعهم حتى صار إلى وادي السباع فنزل على قوم من بني تميم ، فقام إليه عمرو بن جرموز المجاشعي فقال : أبا عبد الله ، كيف تركت الناس ؟ فقال الزبير : تركتهم قد عزموا على القتال ، ولا شك قد التقوا .

فسكت عنه عمرو بن جرموز ، وأمر له بطعام وشيءٍ من لبن ، فأكل الزبير وشرب ، ثم قام فصلى وأخذ مضجعه ، فلما علم ابن جرموز أن الزبير قد نام وثب إليه وضربه بسيفه ضربةً على أم رأسه فقتله (١) .

« خطبة علي ووصيته لجيشه »

وجعل علي ( ع ) يعبىء أصحابه ويوصيهم وهو يقول : أيها الناس ، غُضّوا أبصاركم ، وأكثروا من ذِكِر ربكم ، وإياكم وكثرة الكلام فإنه فشل .

ونظرت إليه عائشة وهو يجول بين الصفوف فقالت : انظروا إليه كأن فعله فعل رسول الله ( ص ) يوم بدر ، أما واللهِ ما ينتظرُ بكم إلا زوالَ الشمس .

__________________

(١) الفتوح ٢ / ٣١٢ .

١٤٢
 &

فقال علي رضي الله عنه : يا عائشة ! عما قليل ليصبحنَّ نادمين .

وقام عليٌّ رضي الله عنه في الناس خطيباً رافعاً صوته فقال : أيها الناس إذا هزمتموهم فلا تجهزوا على جريح ولا تقتلوا أسيراً ، ولا تتبعوا مولياً ، ولا تطلبوا مدبراً ، ولا تكشفوا عورة ، ولا تمثلوا بقتيل ، ولا تهتكوا ستراً ، ولا تقربوا شيئاً من أموالهم إلا ما تجدونه في عسكرهم من سلاح أو كراع أو عبدٍ أو أمَةٍ ، وما سِوىٰ ذلك فهو ميراثٌ لورثتهم على كتاب الله .

وجعل أهل البصرة يرمون أصحاب عليٍّ بالنبل حتى عقروا منهم جماعة ، فقال الناس : يا أمير المؤمنين ، إنهم قد عقرتنا نبالهم فما انتظارك ؟

فقال علي رضي الله عنه : اللهم إني قد أعذرت وأنذرت فكن لي عليهم من المساعدين .

التحاكم إلى كتاب الله ومقتل حامله

ثم دعا علي ( ع ) بالدرع فأفرغه عليه ، وتقلد بسيفه ، واعتجر بعمامته ، واستوى على بغلة رسول الله ( ص ) ثم دعا بالمصحف الشريف ، فأخذه بيده ثم قال : أيها الناس ، من يأخذ هذا المصحف فيدعوا هؤلاء القوم إلى ما فيه !؟ فوثب غلام من مجاشع يقال له : مسلم ، عليه قباءُ أبيض ، فقال : أنا آخذ يا أمير المؤمنين !

فقال له علي : يا فتى إن يدك اليمنىٰ تُقطع ، فتأخذه باليسرى فتُقطع ، ثم تضرب عليه بالسيف حتى تقتل ؟

فقال الفتى لا صبر لي على ذلك .

ـ فنادى علي ثانيةً والمصحف في يده ، فقام إليه ذلك الفتى وقال : أنا آخذه يا أمير المؤمنين ، فهذا قليل في ذات الله .

ثم أخذ الفتى المصحف وانطلق به إليهم ، فقال : يا هؤلاء ! هذا كتاب الله عزَّ وجلّ بيننا وبينكم .

فضرب رجل من أصحاب الجمل يده اليمنى فقطعها ، فأخذ المصحف

١٤٣
 &

بشماله ، فقطعها ، فاحتضن المصحف بصدره ، فضرب على صدره حتى قُتل . رحمه الله .

فنظرت إليه أمه وقد قتل ، فأنشأت تقول أبياتاً مطلعها .

يا ربِّ إن مسلماً أتاهم

بمحكم التنزيل إذ دعاهمُ

فخضّبوا من دمه لِحاهم

وأمّه واقفة تراهمُ

« إلتحام الجيشين »

عند ذلك رفع علي ( ع ) رايته إلى ابنه محمّد بنِ الحنفية ، وقال تقدم يا بني فتقدم محمدٌّ ، ثم وقف بالراية لا يبرح . فصاح به علي ( ع ) اقتحم ، لا أم لك فحمل محمد الراية فطعن بها في أصحاب الجمل طعناً منكراً وعلي ينظر ، فأعجبه ما رأى من فعاله ، فجعل يقول :

إطعن بها طعنَ أبيك تُحمدِ

لا خير في الحرب إذا لم تُوقَدِ

بالمشرفي والقنا المسدّدِ

فقاتل محمد بن الحنفية ساعة بالراية ثم رجع ، وضرب علي ( ع ) بيده إلى سيفه فاستلّه ، ثم حمل على القوم فضرب فيهم يميناً وشمالاً ، ثم رجع وقد انحنىٰ سيفه ، فجعل يسويه بركبته ، فقال له أصحابه : نحن نكفيك ذلك يا أمير المؤمنين ! فلم يجب أحداً حتى سواه . ثم حمل ثانيةً حتى اختلط بهم ، فجعل يضرب فيهم قِدْماً حتى انحنىٰ سيفه ، ثم رجع إلى أصحابه ووقف يُسوّي السيف بركبته وهو يقول : واللهِ ما أريد بذلك إلا وجه الله والدار الآخرة ، ثم التفت إلى ابنه محمد بن الحنيفة وقال : هكذا إصنع يا بني !

ثم حملت ميمنةُ أهل البصرة على ميسرة أهل الكوفة فكشفوهم إلا قليلاً منهم ، وحملت ميمنة أهل الكوفة على ميسرة أهل البصرة فأزالوهم عن مواقفهم ، وثبت الناس بعضهم لبعض فاقتتلوا ساعةً من النهار وتقدم مخنف الأزدي من أصحاب علي وقاتل حتى جُرح ، وتقدم أخوه الصعب بن سليم

١٤٤
 &

فقاتل حتى قتل رحمه الله ثم خرج أخوه الثالث عبيد الله بن سليم فقُتل ، ثم تقدم زيد بن صوحان العبدي من أصحاب علي فقاتل حتى قُتل فأخذ الراية أخوه صعصعة فقاتل فجُرح ، وأخذها أبو عبيدة العبدي وكان من خيار أصحاب علي فقاتل فقُتل ، فأخذ الراية عبد الله بن الرقية فقتل ، فأخذها رشيد بن سميّ فقتل .

ثم تقدم رجل من أصحاب الجمل يقال له عبد الله بن سرّي ، فجعل يرتجز ويقول :

يا رب إني طالبٌ أبا الحَسنْ

ذاك الذي يُعرف حقّاً بالفِتَنْ

ذاك الذي نطلبه على الإحن

وبغضه شريعةٌ من السنن

فخرج إليه علي رضي الله عنه وهو يرتجز ويقول :

قد كنتَ ترميه بإيثار الفِتَنْ

قِدماً وتطلبه بأوتار الأحن

واليومَ تلقاه ملياً فأعلمن

بالطعنِ والضرب عليها بالسنن

ثم شدّ عليه عليٌّ بالسيف ، فضربه ضربةً هتك بها عاتقه ، فسقط قتيلاً ، فوقف علي رضي الله عنه ـ عليه ـ ثم قال : قد رأيت أبا الحسن ، فكيف وجدتَهُ ؟

ثم تقدمت بنو ضبّة فأحدقوا بالجمل وجعلوا يرتجزون بالأشعار من كل ناحية ورجل منهم قد أخذ بخطام الجمل وفي يده سيف كأنه مخراق ، وهو يرتجز ويقول :

نحن بنو ضبّة أصحابُ الجمل

ننازل الموت إذا الموتُ نزل

ننعى ابن عفان بأطراف الأسل

أضرب بالسيف إذا الرمح فصَلْ

إن علياً يعد منْ خير البدل

فبدر إليه زيد بن لقيط الشيباني من أصحاب عليّ وهو يقول :

يا قائل الزور من أصحاب الجمل

نحن قتلنا نعثلاً فيمن قتل

١٤٥
 &

إلى آخرها . . . ثم حمل عليه الشيباني فقتله ، وتقدم رجل من بني ضُبّة يقال له عاصم بن الدّلف وأخذ بخطام الجمل ، وجعل يرتجز ويقول أبياتاً مطلعها .

نحن بنو ضبّة أعداءُ علي

ذاك الذي يُعرفُ فيكم بالوصي

فخرج إليه المنذر بن حفصة التميمي من أصحاب علي رضي الله عنه وهو يقول :

نحن مطيعون جميعاً لعلي

إذ أنت ساعٍ في الوغى سعي شقي

إن الغويّ تابع أمر الغوي

قد خالقت أمر النبي زوجُ النبي

ثم حمل على الضبي فقتله ، ثم جال في ميدان الحرب وهو يرتجز ويقول أبياتاً مطلعها :

أسامعٌ أنت مطيع أم عصي

وتاركٌ ما أنت فيه أم غوي

فخرج إليه وكيع بن المؤمل الضبي من أصحاب الجمل وهو يقول :

أسامعٌ أنت مطيع لعلي

وتارك في الحق أزواجَ النبي

إني ولما ذقت حد المشرفي

أعرف يوماً ليس فيه بغبي

فحمل عليه صاحب عليٍّ فقتله ، وتقدم على وكيعٍ الأشترُ حتى وقف بين الجمعين وهو يزأر كالأسد عند فريسته ، ويقول هو في ذلك شعراً ، فخرج إليه من أصحاب الجمل رجل يقال له عامر بن شداد الأزدي ، وأجابه على شعره ، فحمل عليه الأشتر فقتله ، ثم نادى فلم يجبه أحد ، فرجع .

محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر

ثم خرج محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر ، حتى وقفا قُدّام الجمل ، وتبعهما الأشتر ووقف معهما ، فقال رجل من أصحاب الجمل : من أنتم أيها الرهط ؟ قال : نحن ممن لا تنكرونه ، وأعلنوا بأسمائهم ، ودعوا إلى البراز ، فخرج عثمان الضبّي وهو ينشد شعراً ، فخرج إليه عمار بن ياسر فأجابه على شعره ، ثم حمل عليه عمار فقتله .

١٤٦
 &

وذهب كعب بن سور الأزدي ليخرج إلى عمار ، فسبقه إلى ذلك غلام من الأزد أمرد ، فخرج وهو يرتجز ويقول شعراً ، فذهب عمار ليبرز إليه ، فسبقه إلى ذلك أبو زينب الأزدي فأجابه إلى شعره ، ثم حمل عليه أبو زينب فقتله ورجع حتى وقف بين يدي علي رضي الله عنه .

وخرج عمرو بن يثربي من أصحاب الجمل حتى وقف بين الصَفَيّن قريباً من الجمل ، ثم دعا إلى البراز وسأل النزال ، فخرج إليه علياء بن الهيثم من أصحاب علي رضي الله عنه فشدّ عليه عمرو فقتله ، ثم طلب المبارزة فلم يخرج إليه أحد ، فجعل يجول في ميدان الحرب وهو يرتجز ويقول شعراً ، ثم جال وطلب البراز فتحاماه الناس واتقوا بأسه ، فبدر إليه عمار بن ياسر وهو يجاوبه على شعره والتقوا بضربتين ، فبدره عمار بضربة فأرداه عن فرسه ، ثم نزل إليه عمار سريعاً فأخذ برجله وجعل يجره حتى ألقاه بين يدي علي رضي الله عنه ، فقال علي : اضرب عنقه ! فقال عمرو : يا أمير المؤمنين أستبقني حتى أقتلَ لك منهم كما قتلتُ منكم ، فقال علي : يا عدو الله ! أبعد ثلاثةٍ من خيار أصحابي أستبقيك ! لا كان ذلك أبداً ! قال : فأدنني حتى أكلمك في أذنك بشيء ، فقال علي : أنت رجل متمرّد ، وقد أخبرني رسول الله ( ص ) بكل متمرّد عليّ : وأنت أحدهم ، فقال عمرو بن يثربي : أما والله لو وصلتُ إليك لقطعتُ أذنك ـ أو قال أنفك . فقدمه عليٌّ فضرب عنقه بيده صبراً .

وخرج أخوه عمير فجعل يرتجز ويقول شعراً ، فخرج علي رضي الله عنه وأجابه إلى شعره ، ثم حمل عليه علي فضربه ضربةً على وجهه فرمىٰ بنصف رأسه .

وانفرق علي يريد أصحابه ، فصاح به صائح من ورائه ، فالتفت وإذا بعبد الله بن خلف الخزاعي ـ وهو صاحب منزل عائشة بالبصرة ـ فلما رآه علي عرفه فناداه : ما تشاء يا بْن خلف ؟ قال : هل لك في المبارزة ؟ قال علي ( ع ) : ما أكره ذلك ولكن ويحك يا ابن خلف ! ما راحتك في القتل ، وقد علمتَ من أنا ؟ فقال عبد الله بن خلف : دعني من مدحك يا ابن أبي

١٤٧
 &

طالب وادن مني لترى أينا يقتل صاحبه ! ثم أنشد شعراً ، فأجابه علي ( ع ) والتقوا للضرب فبادره عبد الله بن خلف بضربة دفعها علي بجحفته ، ثم انحرف عنه علي فضربه ضربةً رمى بيمينه ، ثم ضربه أخرى فأطار قحف رأسه .

ثم رجع علي إلى أصحابه ، وخرج مبارز بن عوف الضبي من أصحاب الجمل وجعل يقول شعراً ، قال : فخرج إليه عبد الله بن نهشل من أصحاب علي مجيباً له على شعره ، ثم حمل على الضبي فقتله ، فخرج من بعد الضبي ابن عمه ثور بن عدي وهو ينشد شعراً فخرج إليه محمد بن أبي بكر مجيباً له وهو يقول شعراً . ثم شد عليه محمد بن أبي بكر فضربه ضربةً رمى بيمينه ، ثم ضربه ثانيةً فقتله .

قال : فغضبت عائشة وقالت : ناولوني كفاً من حصباء ، فناولوها فحصبت بها أصحاب علي وقالت : شاهت الوجوه . فصاح بها رجل من أصحاب علي رضي الله عنه ، وقال : يا عائشة ! وما رميت أذ رميتِ ولكن الشيطان رمى ، ثم جعل يقول شعراً :

قد جئتِ يا عيش لتعلمينا

وتنشر البرد لتهزمينا

وتقذفي الحصباء جهلاً فينا

فعن قليل سوف تعلمينا

« مقتل طلحة بن عبيد الله »

وجعل طلحة ينادي بأعلى صوته : عباد الله الصبر الصبر ! إن بعد الصبر النصر والأجر قال : فنظر إليه مروان بن الحكم فقال لغلام له : ويلك يا غلام ! والله إني لأعلم أنه ما حرّض على قتل عثمان يوم الدار أحد كتحريض طلحة ولا قتله سواه ! ولكن استرني فأنت حر ؛ قال : فستره الغلام ، ورمى مروان بسهم مسموم لطلحة بن عبيد الله فأصابه به ، فسقط طلحة لما به وقد أُغمي عليه ، ثم أفاق فنظر إلى الدم يسيل منه فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، أظن والله أننا عُنينا بهذه الآية ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا

١٤٨
 &

مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ثم أقبل على غلامه وقد بلغ منه الجهد ، قال : ويحك يا غلام ؛ اطلب لي مكاناً أدخله فأكون فيه ، فقال الغلام : لا والله لا أدري أين أنطلق بك ! فقال طلحة يا سبحان الله ! والله ما رأيت كاليوم قط ! دم قرشي أضيع من دمي ، وما أظن هذا السهم إلا سهماً أرسله الله ، وكان أمر الله قدراً مقدوراً ، ولم يزل طلحة يقول ذلك حتى مات ، ودفن ، ثم وضع في مكان يقال له السبخة ، ودخل من ذلك على أهل البصرة غم عظيم ، وكذلك على عائشة لأنه ابن عمها ، وجاء الليل فحجز بين الفريقين .

فلما كان من الغد دنا القوم من بعضهم البعض ، وتقدمت عائشة على جملها عسكر حتى وقفت أمام الناس والناس من ورائها وعن يمينها وشمالها ، قال : وصف علي رضي الله عنه أصحابه وعبأهم كالتعبية الأولى ، وعزم القوم على المناجزة وتقدم كعب بن سور الأزدي حتى أخذ بخطام الجمل وجعل يرتجز ويقول :

يا معشر الناس عليكم أمكم

فإنها صلاتكم وصومكم

والرحمة العظمى التي تعمكم

الخ . . . . . . . . . . . . . . . .

فحمل عليه الأشتر ، فقتله ، وخرج من بعده غلام من الأزد اسمه وائل بن كثير ، فجعل يقول شعراً ، فبرز إليه الأشتر مجيباً له ، ثم حمل عليه الأشتر فقتله ، وخرج من بعده عمرو بن خنفر من أصحاب الجمل وهو يقول شعراً ، ثم حمل عليه الأشتر فقتله وخرج من بعده عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ، فجعل يلعب بسيفه بين يدي عائشة وهو يقول شعراً قال : فبدر إليه الأشتر مجيباً ، ثم حمل عليه فضربه ضربة رمى بيمينه فسقط لما به ، وثناه الأشتر بضربةٍ أخرى فقتله ، ثم جال في ميدان الحرب وهو يقول شعراً ، ثم رجع الأشتر إلى موقفه .

وصاح رجل من أهل الكوفة : يا معشر المؤمنين ! إذا خرج إليكم رجل

١٤٩
 &

من أنصار صاحبة الجمل وقال شيئاً من الشعر فلا تجيبوه بشيء ليستريح إلى إجابتكم له ، ولكن استعملوا فيمن خرج إليكم السيف فإنه أسرع للجواب ، قال : وإذا برجل من أصحاب الجمل يقال له الأسود البختري قد خرج وهو يقول شعراً ، فحمل عليه عمرو بن الحمق الخزاعي فقتله . وخرج من بعده جابر بن مزيد الأزدي ، فحمل عليه محمد بن أبي بكر فقتله ، وخرج من بعده مجاشع بن عمر التميمي وهو يقول شعراً ، فحمل عليه أصحاب علي حملة ، واستأمن إلى علي فكان من خيار أصحابه بعد ذلك . وخرج من بعده بشر بن عمرو الضبي وهو يقول شعراً ، فحمل عليه عمار بن ياسر فقتله ، وخرج من بعده حرسة بن ثعلبة الضبي في يده خطام الجمل وهو يقول شعراً ، ثم حمل فجعل يقاتل حتى قطعت يده على خطام الجمل وقتل ، وهكذا حتى قطع على الخطام يومئذٍ ثماني وتسعون يداً . ونادت عائشة بأعلى صوتها : أيها الناس عليكم بالصبر ، فإنما تصبر الأحرار .

واشتبكت الحرب بين الفريقين ، وصاح الحجاج بن عمرو الأنصاري : يا معاشر الأنصار انه لم ينزل موت قط في جاهلية ولا إسلام إلا مضيتم عليه ، ولست أراكم اليوم كما أريد وأنا أنشدكم بالله أن تحدثوا ما لم يكن ، إن أخوانكم اليوم قد أبلوا وقاتلوا ، وأن الموت قد نزل فصبراً صبراً حتى يفتح الله عزَّ وجل عليكم .

ثم تقدم الحجاج فجعل يضرب بسيفه قدماً ، وتقدم في أثره خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين وهو يقول شعراً . ثم تقدم في أثره شريح بن هاني الحارثي ثم تقدم في إثره هاني بن عروة ، ثم تقدم في أثره زياد بن كعب الهمداني ثم تقدم في أثره مالك بن الحارث الأشتر ، ثم تقدم في أثره عدي بن حاتم الطائي وهو يقول شعراً . ثم تقدم في أثره رفاعة بن شداد البجلي وهو يقول شعرا ثم تقدم في أثره هانىء بن هانىء المذحجي ، ثم تقدم في أثره عمرو بن الحمق الخزاعي وكانوا كلهم ينشدون الشعر حين تقدمهم ، واقتتل القوم قتالاً شديداً لم يسمع بمثله ، وصار الهودج الذي فيه عائشة كأنه

١٥٠
 &

القنفذ مما فيه من النبل والسهام ، قال : وجعلت بنو ضبة يأخذون بعر الجمل فيشمونه ويقول بعضهم لبعض : ألا ترون إلى بعر جمل أمنا كأنه المسك الأذفر .

وجعل الأشتر يجول في ميدان الحرب وينادي بأعلى صوته : يا أنصار الجمل ! من يبارزني منكم ؟ قال : فبرز إليه عبد الله بن الزبير وهو يقول : إلى أين يا عدو الله ؟ فأنا أبارزك ! قال : فحمل عليه الأشتر فطعنه طعنة صرعه عن فرسه ، ثم بادر وقعد على صدره ، فجعل عبد الله بن الزبير ينادي من تحت الأشتر في يومه ذلك : إقتلوني ومالكاً واقتلوا مالكاً معي . وكان الأشتر في يومه صائماً وقد طوى من قبل ذلك بيومين فأدركه الضعف ، فأفلت عبد الله من يده وهو يظن أنه غير ناج منه ، وفي ذلك يقول :

أعائش لولا أنني كنت طاوياً

ثلاثاً لألفيت ابن أختك هالكاً

« عقر الجمل »

قال : واحمرت الأرض بالدماء ، وعُقِر الجمل من ورائه فعج ورغا ، فقال علي ( ع ) : عرقبوه فإنه شيطان . ثم التفت إلى محمد بن أبي بكر رضي الله عنه وقال له : انظر إذا عرقب الجمل فأدرك أختك فوارها ، قال : وبادر عبد الرحمن بن صرد التنوخي إلى سيفه ، فلم يزل يقاتل حتى وصل إلى الجمل فعرقبه من رجليه جميعاً فوقع الجمل لجنبه وضرب بجرانه الأرض ، ورغا رغاءً شديداً ، وبادر عمار بن ياسر فقطع أنساع الهودج بسيفه .

وأقبل علي ( ع ) على بغلة رسول الله ( ص ) فقرع الهودج برمحه ، ثم قال : يا عائشة ! أهكذا أمرك رسول الله ( ص ) أن تفعلي ؟ فقالت عائشة : قد ظفرتَ فأحسن . فقال علي رضي الله عنه لمحمد بن أبي بكر : شأنك بأختك فلا يدنو منها أحد سواك . فأدخل محمد يده إلى عائشة فاحتضنها ثم قال : أصابك شيء ؟ فقالت : لا ، ما أصابني شيء ، ولكن من أنت ويحك ! فقد مسست مني ما لا يحل لك ؟ فقال محمد : اسكتي فأنا أخوك محمد ، فعلتِ

١٥١
 &

بنفسك ما فعلتِ ، وعصيتِ ربك وهتكت سترك وابحت حرمتكِ وتعرضت للقتل .

ثُم احتملها فأدخلها البصرة وأنزلها في دار عبد الله بن خلف الخزاعي ، فقالت عائشة لأخيها : يا أخي ، أنشدك بالله إلا طلبت لي ابن أختك عبد الله بن الزبير ، فقال لها محمد : ولم تسألين عن عبد الله ؟ فوالله ما سامك أحد سواه ! فقالت عائشة : مهلاً يا أخي فإنه ابن أختك ، وقد كان ما ليس إلى رده سبيل ؛ فأقبل محمد إلى موضع المعركة فإذا هو بعبد الله بن الزبير جريحاً لما به ـ فقال له محمد : اجلس يا مشؤوم أهل بيته ، اجلس لا أجلسك الله ! قال : فجلس ابن الزبير وحمله محمد بين يديه وركب من خلفه ، وجعل يمسكه وهو يميل من الجراح التي به حتى أدخله على عائشة ، فلما نظرت إليه على تلك الحالة بكت ثم قالت لأخيها محمد ! يا أخي ! استأمن له علياً وتمم إحسانك ، فقال لها محمد : لا بارك الله لك فيه ! ثم سار إلى علي وسأله ذلك ، فقال علي : قد آمنته وأمنت جميع الناس .

« بين ابن عباس وعائشة »

ودعا علي رضي الله عنه بعبد الله بن عباس فقال له : اذهب إلى عائشة فقل لها أن ترتحل إلى المدينة كما جاءت ولا تقيم بالبصرة ، فأقبل إلى عائشة فاستأذن عليها ، فأبت أن تأذن له ، فدخل عبد الله بغير إذن ، ثم التفت فإذا راحلةٌ عليها وسائد فأخذ منها وسادةً وطرحها ثم جلس عليها ؛ فقالت عائشة ، يا بن عباس أخطأت السنة ، دخلت منزلي بغير إذني ! فقال ابن عباس : لو كنت في منزلك الذي خلفك فيه رسول الله ( ص ) لما دخلت عليك إلا بإذنك ، وذلك المنزل الذي أمرك الله عزَّ وجلّ أن تقري فيه فخرجت منه عاصيةً لله عزَّ وجلّ ولرسوله محمد ( ص ) وبعد ، فهذا أمير المؤمنين يأمرك بالإرتحال إلى المدينة فارتحلي ولا تعصي ، فقالت عائشة : رحم الله أمير المؤمنين ! ذاك عمر بن الخطاب ! فقال ابن عباس : وهذا والله أمير المؤمنين وإن رغمت له الأنوف وأربدت له الوجوه ! فقالت عائشة : أبيت ذلك عليكم يا

١٥٢
 &

ابن عباس ! فقال ابن عباس : لقد كانت أيامك قصيرة المدة ظاهرة الشؤم بيّنة النكد ، وما كنت في أيامك إلا كقدر حلب شاة حتى صرت ما تأخذين وما تعطين ولا تأمرين ولا تنهين ، وما كنت إلا كما قال أخو بني أسد :

ما زال إهداء القصائد بيننا

شتم الصديق وكثرة الألقاب

حتى تركت كأن قولك عندهم

في كل محتفل طنين ذباب

قال : فبكت عائشة بكاءً شديداً ، ثم قالت : نعم والله أرحل عنكم فما خلق الله بلداً هو أبغض إلي من بلد أنتم به يا بني هاشم . فقال ابن عباس : ولمَ ذلك ؟ فوالله ما هذا بلاؤنا عندك يا بنت أبي بكر ! فقالت عائشة : وما بلاؤكم عندي يا بن عباس ؟ فقال : بلاؤنا عندك أننا جعلناك أم المؤمنين وأنت بنت أم رومان ، وجعلنا أباك صديقاً وهو ابن أبي قحافة ، وبنا سميت أم المؤمنين لا بتيم وعدي . فقالت عائشة : يا ابن عباس ! أتمنون علي برسول الله ( ص ) ؟ فقال : ولم لا نمن عليك برسول الله ( ص ) ولو كانت فيك شعرة منه أو ظفر لمننت علينا وعلى جميع العالمين بذلك ! بعد فإنما كنت تسع أحدى حشايا من حشاياه لست بأحسنهن وجهاً ولا بأكرمهن حسباً ، ولا بأرشحهن عرقاً ، وأنت الآن تريدين أن تقولي ولا تُعصين ، وتأمري ولا تخالفين ، ونحن لحم الرسول ( ص ) ودمه وفينا ميراثه وعلمه ، فقالت عائشة : يا ابن عباس ما باذل لك علي بن أبي طالب ؟ فقال ابن عباس : والله أقر له ، وهو أحق به مني وأولى ، لأنه أخوه وابن عمه ، وزوج الطاهرة إبنته وأبو سبطيه ، ومدينة علمه وكشاف الكرب عن وجهه ، وأما أنت ، فلا والله ما شكرت نعماءنا عليك وعلى أبيك من قبلك !

ثم خرج وسار إلى علي فأخبره بما جرى بينه وبينها من الكلام .

« دخول علي ( ع ) على عائشة وما جرى بينهما من الكلام »

فدعا علي ببغلة رسول الله ( ص ) ، فاستوى عليها ، وأقبل إلى منزل عائشة ثم استأذن ودخل ، فإذا عائشة جالسة وحولها نسوة من نساء أهل البصرة

١٥٣
 &

وهي تبكي وهن يبكين معها ، قال : ونظرت صفية بنت الحارث الثقفية زوجة عبد الله بن خلف إلى علي ، فصاحت هي ومن كان معها هناك من النسوة وقلن بأجمعهن : يا قاتل الأحبة ، يا مفرق بين الجميع أيتم الله منك بنيك كما أيتمت ولد عبد الله بن خلف ! فنظر إليها علي فعرفها فقال : أما أني لا ألومك أن تبغضيني وقد قتلت جدك في يوم بدر ، وقتلت عمك يوم أحد ، وقتلت زوجك الآن ! ولو كنت قاتل الأحبة كما تقولين لقتلت من في هذا البيت ومن في هذه الدار ؟ وأقبل علي على عائشة فقال : ألا تنحين كلابك هؤلاء عني ، أما أنني قد هممت أن أفتح باب هذا البيت فأقتل من فيه ، وباب هذا البيت فأقتل من فيه ، ولولا حبي للعافية لأخرجتهم الساعة فضربت أعناقهم صبراً ، قال : فسكتت عائشة وسكتت النسوة فلم تنطق واحدة منهن .

ثم أقبل على عائشة فجعل يوبخها ويقول : أمرك الله أن تقري في بيتك ، وتحتجبي بسترك ولا تبرحي ، فعصيته وخضت الدماء تقاتليني ظالمةً وتحرضين علي الناس ، وبنا شرفك الله وشرف أباءك من قبلك وسماك أم المؤمنين وضرب عليك الحجاب ، قومي الآن فارحلي واختفي في الموضع الذي خلفك فيه رسول الله ( ص ) إلى أن يأتيك فيه أجلك . ثم قام فخرج من عندها .

فلما كان من الغد بعث إليها ابنه الحسن ، فجاء فقال لها : يقول لك أمير المؤمنين ، أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ! لئن لم ترحلي الساعة لأبعثن عليك بما تعلمين ـ وكان عائشة قد ضفرت قرنها الأيمن وهي تريد أن تضفر الأيسر ـ فلما قال لها الحسن ذلك وثبت من ساعتها وقالت : رحلوني ! فقالت لها امرأة من المهالبة : يا أم المؤمنين ! جاءك عبد الله بن عباس فسمعناك وأنت تجاوبيه حتى علا صوتك ثم خرج من عندك وهو مغضب ، ثم جاءك الآن هذا الغلام برسالة أبيه فأقلقك ، وقد كان أبوه جاءك فلم نر منك هذا القلق والجزع !

فقالت عائشة ، إنما أقلقني لأنه ابن بنت رسول الله ( ص ) فمن أحب

١٥٤
 &

أن ينظر إلى رسول الله ( ص ) فلينظر إلى هذا الغلام ، وبعد ، فقد بعث إلي أبوه بما قد علمت ، ولا بد من الرحيل . فقالت لها المرأة : سألتك بالله وبمحمد ( ص ) إلا أخبرتني بماذا بعث إليك علي رضي الله عنه . فقالت عائشة رضي الله عنها : ويحك ! إن رسول الله ( ص ) أصاب من مغازيه نفلاً فجعل يقسم ذلك في أصحابه ، فسألناه أن يعطينا منه شيئاً وألححنا عليه في ذلك ، فلامنا علي رضي الله عنه وقال : حسبكن فقد أضجرتن رسول الله ( ص ) فتجهمناه وأغلظنا له في القول ، فقال : « عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ » فأغلظنا له أيضاً في القول وتجهمناه . فغضب النبي ( ص ) من ذلك وما استقبلنا به علياً ، فأقبل عليه ثم قال :

يا علي إني قد جعلت طلاقهن إليك ، فمن طلقتها منهن فهي بائنة ، ولم يوقت النبي ( ص ) في ذلك وقتاً في حياةٍ ولا موت ! فهي تلك الكلمة ، وأخاف أن أبين من رسول الله ( ص ) .

« إنصراف عائشة إلى المدينة »

ثم دعا علي رضي الله عنه بنسوةٍ من نساء أهل البصرة فأمرهن أن يخرجن مع عائشة إلى المدينة ، فرحلت عائشة من البصرة في تلك النسوة ، وقد كان علي رضي الله عنه أوصاهن وأمرهن أن يتزيين بزي الرجال ، عليهن العمائم ، فجعلت عائشة تقول في طريقها : فعل بي علي وفعل ، ثم وجّه معي رجالاً يردوني إلى المدينة ! قال : فسمعتها امرأة منهن فحركت بعيرها حتى دنت منها ثم قالت : ويحك يا عائشة أما كفاك ما فعلتِ حتى أنك الآن تقولين في أبي الحسن ما تقولين ! ثم تقدمت النسوة وسفرن عن وجوههن ، فاسترجعت عائشة واستغفرت وقالت : هذا ما لقيت من ابن أبي طالب .

ثم دخلت عائشة المدينة وصارت إلى منزلها نادمةً على ما كان منها ، وانصرفت النسوة إلى منازلهن بالبصرة .

وكانت عائشة إذا ذكرت يوم الجمل تبكي لذلك بكاءً شديداً ثم تقول :

١٥٥
 &

يا ليتني لم أشهد ذلك المشهد ! يا ليتني مت قبل هذا بعشرين سنة . ثم قالت عائشة : ولو لم أشهد الجمل لكان أحب إليّ من أن أيكون لي من رسول الله ( ص ) مثل ولد عبد الرحمن بن الحارث ، فإنه كان له عشرة أولاد ذكور كل يركب .

ونظر رجل من بني تميم إلى عبد الرحمن بن صرد التنوخي عاقر الجمل ، فقال له : أنت الذي عرقبت الجمل يوم البصرة ؟ فقال التنوخي : أنا والله ذلك الرجل ! ولو لم أعرقبه لما بقي من أصحاب عائشة ذلك اليوم مخبر ، فإن شئت فاغضب ، وإن شئت فارض ، ثم أنشأ يقول شعراً :

عقرت ولم أعقر بها لهوانها

علي ولكني رأيت المهالكا

وما زالت الحرب العوان يحثها

بنوها بها حتى هوى العود باركا

وأقام علي ( ع ) بالبصرة بعد حرب الجمل أياماً قلائل ، فلما أراد الرحيل عنها نصب في عسكره منبراً ، ثم نادى في الناس فجمعهم ، وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ( ص ) وذكر من أمر القوم ما ذكر .

فوثب إليه المنذر بن الجاورد العبدي ، فسأل عن أمر الفتن وغيرها فأخذ علي في ذلك يخبره من يومه ذلك إلى أن تقوم الساعة ، فذكر الفتن في مدينةٍ مدينة وكيف تخرب ومن يتولى خرابها إلخ . . . ثم قال في آخر كلامه : يا منذر إنه لن تقوم الساعة إلا على أشرار خلق ربك ، وذلك في أول يوم من المحرم يوم الجمعة فافهم عني يا منذر ما نبأتك به ولم أكتمه عن غيرك والله ولي الإحسان . اللهم صل على سيدنا محمدٍ الكريم في الحسب الرفيع في النسب سليل عبد المطلب وسيد العجم والعرب وسلم تسليماً كثيراً ، ثم نزل عن المنبر وأمر أصحابه بالرحيل وانصرف إلى الكوفة مؤيداً منصوراً .

١٥٦
 &

حرب صفين . . المحنة الكبرى

إن حرب الجمل بالرغم من شراستها وما تركت من مآسٍ وآلام في نفوس المسلمين ، تبقى المحنة الأقل والأهون بالقياس لما حدث بعدها من حروب ، لا سيما حرب « صفين » التي استهدفت أكبر قوةٍ بشرية وعسكرية ومادية على الساحة الإِسلامية في ذلك الوقت ، وامعنت فيها نزفاً وتمزيقاً .

إنها في الحقيقة محنة المسلمين الكبرى التي واجهها أمير المؤمنين عليّ ( ع ) بصبر وشجاعة عظيمين ، شأنه في ذلك شأن الأوصياء الذين يجهدون في إقامة العدل على الأرض وتثبيت شريعة السماء مهما كلف الأمر ، متوخياً من وراء ذلك رضا الله سبحانه وحده ، والبعد عن الذات ودوافعها الشخصية .

إن الإِنسان المتبصر لا يتردد في القول أن علياً ( ع ) كان بإمكانه أن يعيش عيش الأمراء ـ على الأقل ـ منذ وفاة الرسول ( ص ) حتى استشهاده ، فلا أحد من المسلمين يستطيع إنكار فضله وسمو مكانه ، وما قدم في ميادين الجهاد ، والذين خلفوا الرسول حتى عهد عثمان لا يترددون في هذه المقولة لو شاء أو أراد ، ولم يؤثر عنده ( ع ) البتة أنه طالب يوماً من الأيام بشيءٍ من حطام هذه الدنيا الزائلة ، اللهم إلا ما كان من أمر « فدك » التي طالب بها

١٥٧
 &

على أنها حق من حقوق « فاطمة الزهراء » نحلةً أو ميراثاً من أبيها ( ص ) وما ذلك منه إلا احدى دعواته لإقامة الحق ورفع الظلم أياً كان المظلوم .

نعم ، طالب منذ اليوم الأول بالخلافة معتبراً إياها حقاً مشروعاً له ، واعتبرها معظم قدماء الصحابة من المهاجرين والأنصار حقاً مشروعاً كذلك (١) . ومهما يكن الأمر فلم تكن مطالبته بها هدفاً دنيوياً ـ كما يتوهم البعض ـ بل محض واسطةٍ لتثبيت دعائم شريعة الله ، يبدو ذلك واضحاً جلياً من خلال خطبه ومواعظه التي وردت في كتب المؤرخين وفي نهج البلاغة ، كما يتضح ذلك أكثر خلال فترة حكمه وما جرى له مع الولاة الذين سبقوا عصر خلافته .

لقد كان علي ( ع ) منذ اليوم الأول لوفاة الرسول ( ص ) يراقب الأمور عن كثب مراقبة المسؤول الحريص على سلامة المسلمين ووحدتهم وكان الأهم عنده سلامة تطبيق مبادىء الإِسلام وشرائعه . . حتى جاء عهد عثمان ، فكان الإِنحراف وكان الإِلتواء ، كانا ماثلين أمام عينيه بشكل صارخ من جراء بعض الممارسات الشاذة التي قام بها بعض الولاة والأمراء ممن سبقوا عصر سلطته ـ كما قرأت .

لذلك وجدناه يصرّح في أكثر من مناسبة : بأنه سيجهد في إقامة العدل وتثبيته على الأرض بكل ما أوتي من قوة ومهما كانت النتائج وكان الثمن ، ومن ذلك قوله ( ع ) : « وسأجهد في أن أطهر الأرض من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس ، حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد » (٢) .

كما وجدناه أيضاً عمد إلى استبدال الرموز المتسلطة في الدولة بآخرين ممن استقامت الروح الإِسلامية في عقولهم وسلوكهم ، ثم بعد ذلك أوعز

__________________

(١) بالنص من النبي ( ص ) عليه في حجة الوداع / راجع . الغدير ١ / ٨ وما بعدها .

(٢) من كتاب له ( ع ) إلى ابن حنيف . نهج البلاغة ٣ / ٧٣ .

١٥٨
 &

بإرجاع القطائع والأموال التي اقطعها عثمان لبعض ولاته وأقربائه وجعلها في بيت مال المسلمين ، وكان يقول في ذلك : « والله لو وجدته قد تُزوّجَ به النساءُ ، ومُلِك به الإِماءُ لرددته فإن في العدل سعةٌ ، ومن ضاق عليه العدلُ فالجورُ عليه أضيق » (١) .

وكان ( ع ) في سياسته أمور الناس أبعد ما يكون عن الدهاء ، الذي يعتبره ضرباً من ضروب المكر الذي ينتهي بصاحبه إلى الغدر ، فكان صريحاً واضحاً في مواقفه ، كاشفاً لحقائق الأمور بدون خوف ولا وجل ، متوخياً بذلك رضا الله سبحانه ، غير عابىءٍ بما ينتج عن ذلك من مضاعفات على الأرض قد تؤدي إلى خسارته وانكماش سلطانه ، وهو ( ع ) هو الذي يرى الدنيا عنده أزهد وأحقر من نعلٍ بالٍ إلا أن يقيم حقاً أو يدفع باطلاً .

لذلك ، كان البعض يظن أن معاوية تغلب في مواقفه بدهائه ومكره ، وأن علياً كان يفتقر إلى ذلك في سياسة الأمور ، ومنهم المغيرة بن شعبة الذي أشار على علي ( ع ) أن يقر معاوية على الشام حتى تستقيم له الأمور ، ثم بعد ذلك يرى رأيه فيه ، وكان جواب علي ( ع ) « ما كان الله ليراني متخذ المضلين عضدا » .

وفي هذا المضمار يقول علي ( ع ) : « والله ما معاوية بأدهى مني ، ولكنه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس ؛ ولكن كل غدرة فجرة ، وكل فجرةٍ كفرةٌ ، ولكل غادرٍ لواءٌ يعرف به يوم القيامة . والله ما أُستغفَلُ بالمكيدة ، ولا أستغمزُ بالشديدة » (٢) .

ومن طبيعة أرباب السياسة الفاجرة ، أن يجوروا في أحكامهم ضد الغير ، لا سيما حين يجدون أنفسهم في موقع صعب ينذر بإنهيارهم وسقوطهم ، ويجدون في ذلك الغير الذي هو خصم لهم القوةَ والكفاءة

__________________

(١) النهج ١ / ٤٦ .

(٢) النهج ٣ / ١٨٠ ( لا أستغمز بالشديدة يعني : لا يستضعفني شديد القوة .

١٥٩
 &

للحكم ، فنراهم في هذا الحال ينسبون له جريمةً هو أبعد الناس عنها طمعاً منهم في إضعافه ولوي رقاب الناس عنه ، وتبريراً منهم لشن الحرب ضده أمام أعين الناس كي تخلو الساحة لهم ، وبذلك يستطيعون تنفيذ أطماعهم ومآربهم .

إن هذا اللون من السياسة الظالمة استعمل من الأمويين حيال علي ( ع ) إبان خلافته ، فانه بعد مقتل عثمان انصبت التهمة بقتله منهم على علي ، ومرجع ذلك في رأيي إلى أمرين :

الأول : هو الخوف من سيطرة مبادىء علي والعودة بهم إلى ما قبل الخلافة والإِمارة وبذلك يخسرون كل شيء ، بالإِضافة للخسارة الفعلية التي واجهوها في أمور دنياهم .

الثاني : ضياع دم عثمان بين المسلمين ، وبذلك يضيع ما بناه الأمويون خلال عشرين سنة ، وكفى به إذلالاً لهم .

والحق ، أن علياً كان أبعد ما يكون عن قدر محجمةٍ من دم عثمان ، بل هو على العكس من ذلك ، فلقد جهد بكل ما أوتي من قوة في إبعاد المسلمين عن الفتنة ، وردء القتل عنه ، وهو القائل لابن عباس حين أتاه برسالةٍ من عثمان وهو محصور يسأله فيها الخروج إلى ينبع :

يا بن عباس ، ما يريد عثمان إلا أن يجعلني جملاً ناضحاً بالغرب ، أقبل وأدبر ! بعث إليَّ أن أخرج . ثم بعث إلي أن أقدم ، ثم هو الآن يبعث إلي أن أخرج والله لقد دفعتُ عنه حتى خشيت أن أكون آثماً (١) ! .

وهو في الوقت ذاته ليس جندياً من أجناد السلطة الأموية حتى يكون ملزماً بالدفاع عن مصالحهم الشخصية التي تكرس لهم الحكم والسلطة لا أكثر ، بل إن المسلمين لا يرضون له ذلك مطلقاً ، فموقع علي ( ع ) في نفوسهم منذ عهد الرسول له ميزات لا يمكن تخطيها بسهولة .

__________________

(١) النهج ٢ / ٢٣٣ .

١٦٠