عمّار بن ياسر

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه

عمّار بن ياسر

المؤلف:

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه


الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٤٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

ومع ذلك ، فقد أوعز إلى ولديه الحسن والحسين عليهما السلام أن يكونا في جملة المدافعين عنه (١) .

هذا كله ، بالإِضافة إلى أنه ( ع ) لم يكن يملك القوة الضاربة ليمنع حصول ما وقع بل كان مكفوف اليد تماماً ، وحتى بعد مبايعته بالخلافة طولب من قبل بعض الصحابة بمعاقبة من أجلب على عثمان ، فقال :

« يا اخوتاه ، اني لست أجهل ما تعلمون ، ولكن كيف لي بقوةٍ والقوم المجلبون على حدّ شوكتهم ، يملكوننا ولا نملكهم ! وها هم أولاء قد ثارت معهم عبدانكم ، والتفت إليهم أعرابكم ، وهم خلالكم يسومونكم ما شاؤوا ، وهل ترون موضعاً لقدرةٍ على شيء تريدونه ! » (٢) .

ومن الممكن القول أن علياً ( ع ) حينما يتخذ موقفاً من قضيةٍ ما ، فانه إنما يتعامل معها من موقع الإِمام المعصوم العادل ، وبذلك لا يكون بحاجةٍ إلى محامٍ أو مدافع يبرر له مواقفه وقراراته .

بعد هذا العرض المبسط يمكننا أن نستخلص الأسباب التي دفعت بطلحة والزبير إلى إخراج عائشة أم المؤمنين والتمرد على خلافة علي ( ع ) وتجييش الناس عليه ، وانتهاء الأمر بحرب « الجمل » التي قدمنا ذكرها والتي انتهت بنصره ( ع ) ، فان الدوافع لهم على ذلك كانت محض شخصية تتحكم فيها الأنانية والرغبة في الحكم .

كما تتضح لنا أسباب حرب « صفين » التي انتهت بالتحكيم . هذه الحرب المدمرة التي شنها معاوية ومن معه من الأمويين وأتباعهم ضد علي وضد خلافته وضد من كانوا معه من المهاجرين والأنصار .

فالمعلوم الواضح أن معاوية كان أحد الرموز التي أصر الإِمام على

__________________

(١) قال الشيخ محمد عبدة ، أما نهيه عن قتله بلسانه فهو ثابت ، وهو الذي أمر الحسن والحسين أن يذابا عنه .

(٢) النهج ٢ / ٨٠ ـ ٨١ .

١٦١
 &

استبدالها إنطلاقاً من نهجه الجديد الذي سار عليه بعد استخلافه ؛ والسبب في ذلك أنه ليس من ذوي السابقة في الدين والصحبة ، بل هو أحد الطلقاء يوم الفتح ومثله لا يكون حاكماً على المسلمين ، هذا بالإِضافة إلى السياسة التي انتهجها معاوية في حكمه بلاد الشام والتي تشبه إلى حدٍ بعيد سياسة الملوك والأباطرة من الاستئثار بالفيء والإِغداق على المقربين ، والإِساءة إلى بعض الصحابة ، كأبي ذر الغفاري رضي الله عنه ، والتلويح بالترهيب والترغيب بشكل دقيق ومركز .

لقد كان هذا الإِجراء من علي ( ع ) في حق معاوية بمثابة صدمةٍ قويةٍ له ، فكان عليه أن يتأهب ويستعد للمواجهة .

وكان معاوية بسياسته تلك قد استطاع أن يرسخ قدميه على بلاد الشام منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب ، حتى عهد عثمان الذي زاد في سلطانه بأن ضم إليه فلسطين وحمص والجزيرة ، واستطاع أيضاً أن يستغل سذاجة الناس وبساطتهم وعفويتهم ، فنجح في تجميع قبائل أُفرزت من أقاليم عدة كانت بعيدةً عن روح الإِسلام ، وعمد إلى ذوي النفوذ من القادة والزعماء ، وزاد في تقريبهم والإِغداق عليهم بعد أن شحذ أذهانهم وأنفسهم بضرورة الأخذ بثأر الخليفة المظلوم عثمان !

وراح هؤلاء بدورهم ينشرون ذلك في الآفاق وفيمن هم تحت سلطانهم ، حتى تم له بذلك تجميع جيش كثيف لمواجهة علي ، وكأن علياً هو المسؤول عن قتل الخليفة ! .

لقد كانت هذه الخطة أفضل وسيلةٍ للإِنتقام من علي ومبادئه في عرفِ الأمويين وأتباعهم ، وان كان طلحة والزبير قد فشلا في خطتهما ، فربما حالف الحظ معاوية ، من يدري ؟

هكذا أراد معاوية ، أراد القضاء على بقية الله في أرضه ، أو الشام ! ملكاً طلقاً يتوهج بمفاتن الدنيا وبهارج الحياة عله يستطيع بذلك أن يستر دفائن

١٦٢
 &

نفسه وأطماعها عن كثير ممن عميت عيونهم عن الحقيقة . . تلك الدفائن التي أفرغتها فيه سيوف المسلمين في بدرٍ وأحد والخندق حتى الفتح . وتلك الأطماع التي ورثها عمن كان قبله فعاشت وأمرعت حتى أفرخت حرباً ظالمة ، قطف ثمارها فيما بعد ملكاً أوسع من ملك كسرى وقيصر !

إنها حرب صفين ! وسوف تقرأ فيما يلي ظروفها وملابساتها ، ولا ننسى دور عمار بن ياسر فيها فلقد كان شاهد الحق مع علي ، كما كان شهيدُها .

١٦٣
 &

عودة علي إلى الكوفة (١)

بعد انتهاء وقعة الجمل قدم علي ( ع ) الكوفة في شهر رجب سنة ٣٦ هـ ، فدخلها ومعه أشراف الناس من أهل البصرة وغيرهم ، فاستقبله أهل الكوفة وفيهم قراؤهم وأشرافهم ، فدعوا له بالبركة وقالوا : يا أمير المؤمنين ، أين تنزل ؟ أتنزل القصر ؟ قال : لا ، ولكني أنزل الرْحَبة ، فنزلها وأقبل حتى دخل المسجد الأعظم فصلى فيه ركعتين ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ، ثم قال :

أما بعد يا أهل الكوفة ، فإنّ لكم في الإِسلام فضلاً ما لم تبدّلوا وتغيّروا ، دعوتُكم إلى الحق فأجبتم ، وبدأتم بالمنكر فغيرتم ، إلا أن فضلكم فيما بينكم وبين الله ، فأما في الأحكام والقسم فأنتم أسوة غيركم ممن أجابكم ودخل فيما دخلتم فيه .

ألا إن أخوفَ ما أخافُ عليكم اتّبَاعَ الهوىٰ وطولَ الأمل ، أما اتّباعُ

__________________

(١) اعتمدت في نقل حوادث واقعة صفين على كتاب صفين لنصر بن مزاحم بالإضافة إلى شرح النهج لابن أبي الحديد ، ومروج الذهب للمسعودي ، وكذلك تاريخ الطبري وغيرها ، ولا أرى نفسي ملزماً بذكر الجزء والصفحة من هذه الكتب وغيرها ، لأنه يشبه بعضها بعضاً في النص وقد تقصدت التغيير في صورة النص مع حفظ المضمون طبعاً وحذف الأسانيد اللهم إلا ما تفردّت به بعض هذه الكتب دون غيرها من النصوص .

١٦٤
 &

الهوى فيصدّ عن الحق ، وأما طولُ الأمل فينسي الآخرة ؛ ألا ان الدنيا قد تَرحّلَتْ مدبرة وان الآخرة قد ترحّلَتْ مقبلة ، ولكل واحدةٍ منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة اليومَ عملٌ ولا حساب ! غداً حسابٌ ولا عمل ؛ الحمد لله الذي نصر وليه ، وخذل عدوه ، وأعزّ الصادق المحق ، وأذل الناكث المبطل .

عليكم بتقوى الله وطاعة من أطاع الله من أهل بيت نبيكم الذين هم أولى بطاعتكم فيما أطاعوا الله فيه من المستحلّين المدّعين المقابلين إلينا ، يتفضلون بفضلنا ويجاحدوننا أمرنا ، وينازعوننا حقنا ، ويباعدوننا عنه ، فقد ذاقوا وبال ما اجترحوا فسوف يلقون غِيّاً ، ألا أنه قد قعد عن نصرتي رجال منكم ، وأنا عليهم عاتب زارٍ فاهجروهم وأسمعوهم ما يكرهون حتى يعتبوا ليُعرفَ بذلك حزب الله عند الفرقة .

فقام إليه مالك بن حبيب اليربوعي ـ وكان صاحبَ شرطته ـ فقال : والله إني لأرى الهجر وسماع المكروه لهم قليلاً ، والله لو أمرتنا لنقتلنهم . فقال علي ( ع ) : سبحان الله يا مالكِ جُزت المدىٰ وعدوت الحدّ فأغرقت في النزع . فقال : يا أمير المؤمنين ، لبعضُ الغشم أبلغ في أمرٍ ينوبك من مهادنة الأعادي ؟ فقال ( ع ) : ليس هكذا قضى الله يا مالكِ ، قال سبحانه : ( النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) فما بال ذكر الغشم ؟ وقال تعالى : ( وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ) . والإِسراف في القتل أن تقتل غير قاتلك ، فقد نهى الله عنه ، وذاك هو الغشم .

فقام إليه أبو بردة بن عوف الأزدي ـ وكان ممن تخلّف عنه ـ فقال : يا أمير المؤمنين ؛ أرأيت القتلىٰ حول عائشةَ وطلحةَ والزبير ، علامَ قُتلوا ؟ أو قال : بمَ قُتلوا ؟

فقال ( ع ) : قُتلوا بما قَتلوا شيعتي وعمالي ، وقتلوا أخا ربيعة العبدي في عصابةٍ من المسلمين قالوا إنا لا ننكث كما نكثتم ولا نغدر كما غدرتم فوثبوا

١٦٥
 &

عليهم فقتلوهم . فسألتهم أن يدفعوا لي قَتَلةَ إخواني أقتلهم بهم ثم كتاب الله حكم بيني وبينهم فأبوا عليّ وقاتلوني وفي أعناقهم بيعتي ودماءُ قريبٍ من ألف رجل من شيعتي ، فقتلتهم أفي شك أنت من ذلك ؟ فقال : قد كنت في شك ، فأما الآن فقد عرفت ، واستبان لي خطأ القوم ، وانك المهتدي المصيب .

ثم إن علياً ( ع ) تهيأ لينزل ، وقام رجال ليتكلموا ، فلما رأوه نزل جلسوا وسكتوا .

ونزل بالكوفة على جعدةَ بن هبيرة المخزومي وهو ابن أخته أم هاني . ودخل المسجد فصلى ثم تحول فجلس إليه الناس . فسأل عن رجل من الصحابة كان نزل الكوفة فقال قائل : استأثر الله به . فقال علي ( ع ) : إن الله تبارك وتعالى لا يستأثر بأحدٍ من خلقه ، إنما أراد الله جل ذكره بالموت اعزاز نفسه واذلال خلقه ، وقرأ قوله تعالى : ( كُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) .

ولما لحق به ( ع ) ثقَلُه قالوا : أننزل القصر ؟ فقال ( ع ) : قصر الخبال (١) لا تنزلوا فيه . ومكث ( ع ) في الكوفة ، فقال شن بن عبد القيس :

قل لهذا الإِمام قد خبتَ الحر

بُ وتمّت بذلك النعماءُ

وفرغنا من حرب من نقض العهدَ وبالشام حيّة صمّاءً

تنفث السم ما لمن نهشته

فارمها قبل أن تعض شفاءُ

إنه والذي يحجُ له الناس

ومن دون بيته البيداء

لضعيف النخاع إن رمي اليوم

بخيلٍ كأنها أشلاء

تتبارى بكل أصيد كالفحل

بكفّيه صُعْدةٌ سمراء

إن تذره فما معاوية الدهر

بمعطيك ما أراك تشاءُ

ولنَيْلُ السماء أقرب من ذاك

ونجم العيّوق والعوّاءُ

__________________

(١) الخبال : الفساد .

١٦٦
 &

فاعدُ بالحد والحديد إليهم

ليس والله غير ذاك دواء

وخطب علي ( ع ) الناس في يوم الجمعة ، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله :

أوصيكم بتقوى الله فان تقوى الله خيرَ ما تواصىٰ به عبادُ الله وأقربَه إلى رضوان الله وخيرَه في عواقب الأمور عند الله ، وبتقوى الله أمرتم ، وللإِحسان والطاعة خلقتم ، فاحذروا من الله ما حذّركم من نفسه فانه حذّر بأساً شديداً ، واخشوا خشيةً ليست بتعذير ، واعملوا في غير رياءٍ ولا سُمْعة ، فانه من عمل لغير الله وكَلَهُ الله إلى ما عمل له ومن عمل لله مخلِصاً تولَّى الله أجره ، اشفقوا من عذاب الله فانه لم يخلقكم عبثاً ولم يترك شيئاً من أمركم سدى ، قد سمى أثاركم وعلم أعمالكم وكتب أجالكم ، فلا تغتروا بالدنيا فانها غرّارةٌ لأهلها ، مغرورٌ من اغتر بها ، وإلى فناءٍ ما هي ، وان الآخرة هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون ، اسأل الله منازل الشهداء ومرافقة الأنبياء ، ومعيشة السعداء فإنما نحن به وله .

ثم استعمل علي ( ع ) العمّال وفرقهم في البلاد واستعد لمواجهة معاوية وأهل الشام (١) .

عليٌّ يدعو معاوية إلى البيعة

أقبل جرير بن عبد الله البجلي إلى علي ( ع ) فقال له : ابعثني يا أمير المؤمنين إليه ـ يعني معاوية ـ فانه لم يزل لي مستخصاً ووُدّاً ، آتيه فأدعوه على أن يسلم لك هذا الأمر ويجتمع معك على الحق على أن يكون أميراً من أمرائك وعاملاً من عمّالك ما عمل بطاعة الله واتبع ما في كتاب الله ، وأدعو أهل الشام إلى طاعتك وولايتك ، فجلّهم قومي وأهل بلادي ، وقد رجوت ألّا يعصوني .

فبعثه علي ( ع ) وقال له : إن حولي من أصحاب رسول الله ( ص ) من

__________________

(١) صفين ص ٣ ـ ١٠ وشرح النهج ٣ / ١٠٢ ـ ١٠٨ .

١٦٧
 &

أهل الرأي والدين من قد رأيت ، وقد اخترتك عليهم لقول رسول الله ( ص ) فيك « إنك من خير ذي يمن » إئت معاوية بكتابي ، فان دخل فيما دخل فيه المسلمون ، وإلا فانبذ إليه ، وأعلمه أني لا أرضى به أميراً ، وان العامة لا ترضى به خليفة .

فانطلق جرير حتى أتى الشام ، ونزل بمعاوية ، فلما دخل عليه حمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد يا معاوية فانه قد اجتمع لابن عمك أهل الحرمين وأهل المصرين ، وأهل الحجاز وأهل اليمن وأهل مصر ، وأهل العروض ـ عُمان ـ وأهل البحرين واليمامة ، فلم يبق إلا هذه الحصون التي أنت فيها ولو سال عليها سيل من أوديته لأغرقها ، وقد أتيتك أدعوك إلى ما يرشدك ويهديك إلى مبايعة هذا الرجل ، ثم دفع إليه كتاب علي ( ع ) وفيه :

كتاب علي لمعاوية

أما بعد : فان بيعتي بالمدينة لزمتكَ وأنتَ بالشام لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمرَ وعثمانَ على ما بُويعوا عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يرد ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار إذا اجتمعوا على رجل فسمّوْهُ إماماً ، كان ذلك لله رضاً ، فان خرج من أمرهم خارج بطعنٍ أو رغبةٍ ، رَدّوه إلى ما خرج منه فان أبى ، قاتلوه على إتباع سبيل المؤمنين وولّاه الله ما تولّى ويصليه جهنم وساءت مصيرا ، وان طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي فكان نقضهما كرِدّتِهما ، فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ، فادخل فيما دخل فيه المسلمون فان أحب الأمور إلي فيك العافية إلا أن تتعرض للبلاء ، فان تعرضت له قاتلتك واستعنت بالله عليك .

وقد أكثرت الكلام في قتلة عثمان ، فأدخل فيما دخل فيه الناس ، ثم حاكم القوم إليّ أحملك وإياهم على كتاب الله ، فأما تلك التي تريدها فخدعةُ الصبيّ عن اللبن ، ولعمري لئن نظرتَ بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان .

١٦٨
 &

وأعلم أنك من الطلقاء الذين لا يحل لهم الخلافة ، ولا تُعرض عليهم الشورى ، وقد أرسلت إليك وإلى من قبلك جرير بن عبد الله البجلي وهو من أهل الإِيمان والهجرة ، فبايع ولا قوة إلا بالله (١) .

أما جرير ، فانه بعد أن سلم معاوية الكتاب وقرأه ، قام خطيباً فقال في جملة ما قال :

أيها الناس ، إن أمر عثمان قد أعيا من شهده فكيف بمن غاب عنه ، وان الناس بايعوا علياً غير واتر ولا موتور ، وكان طلحة والزبير ممن بايعاه ثم نكثا بيعته على غير حدث .

ألا وان هذا الدين لا يحتمل الفتن ، وقد كانت بالبصرة أمس روعة ملحمةٍ إن يشفع البلاء بمثلها فلا بقاء للناس ، وقد بايعت الأمة علياً ، ولو ملكنا والله الأمور لم نختر لها غيره ، ومن خالف هذا استعتب ، فادخل يا معاوية فيما دخل فيه الناس .

فان قلت استعملني عثمان ثم لم يعزلني ، فان هذا قول لو جاز لم يقم لله دين وكان لكل امرىءٍ ما في يديه ، ولكن الله جعل للآخر من الولاة حق الأول ، وجعل الأمور موطأةً ينسخ بعضها بعضاً .

فقال معاوية : انظرُ وتنظر ، واستطلع رأي أهل الشام .

معاوية يشاور أهل الشام

وبعد أيام أمر معاوية مناديه فنادى ، الصلاة جامعة ، فلما اجتمع الناس صعد المنبر ثم خطب خطبة جاء في آخرها : أيها الناس ، قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وخليفة أمير المؤمنين عثمان بن عفان عليكم ، واني لم أقم رجلاً منكم على خزايةٍ قط ، واني وليُّ عثمان ، وقد قُتل مظلوماً ، والله تعالى يقول : ( وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا

__________________

(١) صفين ٢٧ ـ وشرح النهج ٢ / ٧٤ ـ ٧٦ .

١٦٩
 &

فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا ) . وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان ؟

فقام أهل الشام بأجمعهم فأجابوا إلى الطلب بدم عثمان وبايعوه على ذلك ، واوثقوا له على أن يبذلوا بين يديه أموالهم وأنفسهم حتى يدركوا بثأره أو تلتحق أرواحهم بالله .

وغني عن التفسير ما يحمل هذا الأسلوب من مغالطات لا تنطلي إلا على السذج والبسطاء من الناس ، فمتى كان معاوية هو ولي عثمان ، سيما مع وجود الولي الشرعي أعني الخليفة المفترض الطاعة ، وهو الإِمام علي ( ع ) ، فان علياً هو الولي ـ بعد خلافته ـ ومن حقه هو فقط الطلب بدم عثمان وله السلطة المطلقة في ذلك طبقاً للموازين والأعراف الدينية والشرعية .

ولو تنازلنا وسلمنا بأن معاوية هو ولي عثمان ، فما علاقة علي بدم عثمان ، ولماذا يكون هو المستهدف بالثأر ؟ لكنها السياسة الفاجرة التي تلصق الجريمة بابعد الناس عنها !!

لكن معاوية حين أمسى واختلى بأهله ، اغتم وذهبت به الفكر بعيداً ، فبالأمس كان طلحة والزبير قد دفعا ثمن نكثهما بيعة علي غالياً ، وها هي الحواضر الإِسلامية برمتها تفتح ذراعيها لعلي ، ما عدا الشام . ترى ماذا يفعل ؟ أيستسلم للأمر الواقع فيبايع وينتهي كل شيء وتنتهي أحلامه الكبار ؟ أم أنه يقاوم بقميص عثمان وأنامل نائلة ، يستثير بهما عواطف البسطاء من الناس ؟ . .

إختار الثانية . . اختارها متأرجحةً بين خطر الموت والقتل بسيف علي ، وبين مجد السلطان وانبساط الدنيا وزهو الملك إذا قدر لعلي أن يخسر الحرب أو على الأقل أن لا يكون هنالك لا غالب ولا مغلوب .

أما أن علياً صاحب الحق وأن الخلافة لازمه الطبيعي والأخلاقي والشرعي ، فهذا مما لا يحرك في ضمير معاوية شيئاً . وان شئت فقل :

١٧٠
 &

استولت الدنيا على شعوره وتفكيره وأخذت بمجامع قلبه فلم يكن للآخرة عنده نصيب ، لذلك جعل يردد هذه الأبيات :

تطاول ليلي واعترتني وساوسي

لآتٍ أتى بالترهات البسابس

أتاني جرير والحوادث جَمّة

بتلك التي فيها اجتداع المعاطسِ

أكايده والسيف بيني وبينه

ولست لأثواب الدنيء بلابس

إن الشامُ أعطت طاعة يمنيةً

تواصفها أشياخها في المجالس

فان يفعلوا أصدم علياً بجبهةٍ

تفت عليها كل رطب ويابس

واني لأرجو خير ما نال نائل

وما أنا من ملك العراق بآيس (١)

ثم إن جريراً جعل يستحث معاوية بالبيعة لعلي ( ع ) ، فقال له معاوية : يا جرير ، أنها ليست بخلسة وأنه أمر له ما بعده ، فابلعني ريقي حتى أنظر .

وكان بإمكان معاوية أن يرفض البيعة حين جاءه جرير بكتاب علي وليكن ما يكون ولكنه في الفترة التي كان يكايد فيها جريراً ويوهمه أنه ينظر في الأمر ، كان قد بدأ بتجميع القوى الشامية وتكريسها لصالحه وتأهيلها للحرب وكأنه بذلك يرد على كتاب علي بأنه والشام على أهبة الاستعداد لمواجهته عسكرياً ، لذلك دعا قادة الجند وزعماء القبائل ممن يثق بهم للإِستشارة ، فأشار عليه أخوه عتبة بن أبي سفيان بعمرو بن العاص ، وقال له إنه من قد عرفت ، وقد اعتزل عثمان في حياته ، وهو لأمرك أشد إعتزالاً إلا أن يثمن له دينه .

معاوية يستعين بعمرو بن العاص وشرحبيل

فاستدعى معاوية عمراً ، فاشترط عليه ولاية مصر . ثم استقدم شُرَحْبيل بن السمط ، رئيس اليمنية وشيخها والمقدم عليها ، ودسَّ إليه الرجال يغرونه بعلي ( ع ) ، ويشهدون عنده أنه قتل عثمان حتى ملأوا صدره وقلبه

__________________

(١) شرح النهج ٣ / ٧٨ .

١٧١
 &

حقداً وتِرةً واحنةً على علي ( ع ) وأصحابه .

قال له معاوية : يا شُرَحْبيل ، علي خير الناس لولا أنه قتل عثمان بن عفان ، وقد حبست نفسي عليك وإنما أنا رجل من أهل الشام أرضى ما رضوا وأكره ما كرهوا .

فقال شرحبيل : أخرج فانظر .

فخرج شرحبيل ، فلقيه أولئك النفر الموطئون له ، فكلهم يخبره بأن علياً قتل عثمان بن عفان ، فخرج مغضباً إلى معاوية فقال : يا معاوية ، أبى الناس إلا أن علياً قتل عثمان ، والله لئن بايعت لنخرجنّك من الشام أو لنقتلنك .

قال معاوية : ما كنت لاخالف عليكم ، وما أنا إلا رجل من أهل الشام . قال : فرد هذا الرجل ـ يعني جريراً ـ إلى صاحبه ! فعرف معاوية أن شرحبيلاً قد نفذت بصيرته في حرب أهل العراق ، وأن الشام كله مع شرحبيل . فأتى حُصَيْنَ بن نمير فقال : ابعث إلى جرير فليأتنا ، فبعث حصين بن نمير إلى جرير أن زرنا فعندنا شرحبيل ، فاجتمعا عند حصين ، فتكلم شرحبيل فقال :

يا جرير ، أتيتنا بأمرٍ مُلفّفْ لتلقينا في لهوات الأسد ، وأردت أن تخلط الشام بالعراق ، وأطريت علياً وهو قاتل عثمان والله سائلك عما قلت يوم القيامة .

فقال له جرير : أما قولك اني جئت بأمر ملفف فكيف يكون كذلك وقد اجتمع عليه المهاجرون والأنصار ! وقوتل على رده طلحة والزبير !؟ وأما قولك إني القيك في لهوات الأسد ، ففي لهواتها ألقيت نفسك . وأما خلط أهل الشام بأهل العراق ، فخلطهما على حق خير من فرقتهما على باطل .

وأما قولك إن علياً قتل عثمان ، فوالله ما في يديك من ذلك إلا القذف بالغيب من مكان بعيد ، ولكنك مِلْتَ إلى الدنيا وشيء كان في نفسك على

١٧٢
 &

زمن سعد بن أبي وقاص .

فبلغ ما قالاه إلى معاوية ، فبعث إلى جرير فزجره .

قال نصر في كتابه : وكتب إلى شرحبيل كتاب لا يعرف كاتبه ، فيه :

شرحبيل يا بن السَمطْ لا تتبع الهوىٰ

فما لك في الدنيا من الدين من بدلْ

وقل لابن حرب ما لك اليوم خلة

تروم بها ما رمت واقطع له الأملْ

شرحبيل ان الحق قد جدَّ جدُّه

فكن فيه مأمون الأديم من النعل

مقال ابن هندٍ في علي عضيهة

وللهُ في صدر ابن أبي طالب أجلْ

وما كان إلا لازماً قعرَ بيته

إلى أن أتى عثمان في داره الأجل

وصي رسول الله من دون أهله

ومن باسمه في فضله يُضربُ المثل

فلما قرأ شرحبيل الكتاب ، ذُعر وفكّر وقال : هذه نصيحة لي في ديني ، ولا والله لا أعجل في هذا الأمر بشيء وفي نفسي منه حاجة ، وكاد يحول عن نصر معاوية ويتوقف ، فلفّق له معاوية الرجال يدخلون إليه ويخرجون ويعظمون عنده قتل عثمان ويرمون به علياً ، ويقيمون الشهادة الباطلة والكتب المختلفة حتى أعادوا رأيه وشحذوا عزمه (١) .

وسار شرحبيل فبدأ بأهل حمص ، فقام فيهم خطيباً ، وكان أهل الشام يرونه مأموناً ناسكاً متألهاً ، فقال :

أيها الناس ، إن علياً قتل عثمان . فغضب له قوم من أصحاب رسول الله ( ص ) فلقيهم فهزم الجمع وقتل صلحائهم وغلب على الأرض ، فلم يبق إلا الشام وهو واضع سيفه على عاتقه ، ثم خائض غمرات الموت حتى يأتيكم ، أو يحدث الله أمراً ، ولا نجد أحداً أقوى على قتاله من معاوية ، فجدّوا وانهضوا .

فأجابه الناس كلهم ! إلا نُسّاكاً من أهل حمص ، فانهم قالوا له : بيوتنا قبورُنا ومساجدُنا ، وأنت أعلم بما ترىٰ .

__________________

(١) نفس المصدر ٨٠ .

١٧٣
 &

وجعل شرحبيل يستنهض مدائن الشام حتى استفرغها ، لا يأتي على قوم إلا قبلوا ما أتاهم به . فبعث له النجاشي بن الحارث ـ وكان له صديقاً ـ بأبياتٍ ، منها :

شرحبيل ما للدين فارقت ديننا

ولكن لبغض المالكي جريرِ

وشحناء دبّت بين سعدٍ وبينه

فأصبحت كالحادي بغير بعيرِ

أتفعل أمراً غبت عنه بشبهةٍ

وقد حار فيه عقل كلّ بصيرِ

بقول رجالٍ لم يكونوا أئمةً

ولا للتي لقّوْكَهَا بحضورِ

وتترك أن الناس أعطوا عهودهم

عليّاً على أنس به وسرورِ

إذا قيل هاتوا واحداً يُقتدىٰ به

نظيراً به لم يفصحوا بنظير

لعلك أن تشقى الغداة بحربه

فليس الذي قد جئته بصغير

ثم أقبل شرحبيل حتى دخل على معاوية فقال له : أنت عامل أمير المؤمنين وابن عمه ، ونحن المؤمنون ، فان كنت رجلاً تجاهد علياً وقتلةَ عثمان حتى ندرك ثأرنا أو تذهب أرواحنا استعملناك علينا ، وإلا عزلناك واستعملنا غيرك ممن نريد ثم جاهدنا معه حتى ندرك ثأرنا بدم عثمان ، أو نهلِك .

فقال له جرير بن عبد الله : مهلاً يا شرحبيل ، فان الله قد حقن الدماء ، ولمّ الشعث وجمع أمر الأمة ، ودنا من هذه الأمة سكون ، فإياك أن تفسد بين الناس وأمسك عن هذا القول أن يشيع ويظهر عنك قولٌ لا تستطيعُ ردَّه .

فقال : لا والله لا أستره أبداً ! ثم قام فتكلم به ، فقال الناس : صدَقَ صدق ! القولُ ما قال ، والرأي ما رأى . فأيِسَ جريرٌ عند ذلك من معاوية ومن عوام أهل الشام (١) .

قال نصر بن مزاحم في كتابه « صفين » :

كان معاوية قد أتى جريراً قبل ذلك في منزله ، فقال له : يا جرير ، إني

__________________

(١) نفس المصدر ٨٣ ـ ٨٤ .

١٧٤
 &

قد رأيت رأياً ، قال : هاته . قال : اكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام ومصر جبايةٌ ، فإذا حضرته الوفاة لم يجعل لأحدٍ بعده في عنقه بيعةً ، وأسلم له هذا الأمر ، واكتب إليه بالخلافة .

فقال له جرير : اكتبْ ما أردت ، أكتُبُ معَكَ .

فكتب معاوية بذلك إلى علي ( ع ) . فكتب عليٌّ إلى جرير :

أما بعد ، فإنما أراد معاوية ألّا يكون لي في عنقه بيعة ، وأن يختار من أمره ما أحب . وأراد أن يريثك ويبطئك حتى يذوق أهلَ الشام ؛ وأن المغيرة بن شعبة قد كان أشار عليَّ أن استعمل معاوية على الشام وأنا حينئذٍ بالمدينة فأبيت ذلك عليه ولم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضدا ، فان بايعك الرجل ، وإلا فأقبل ، والسلام .

فلما انتهى الكتاب إلى جرير أتى معاوية فاقرأه الكتاب وقال له : يا معاوية ، إنه لا يُطبع على قلب إلا بذنب ، ولا يُشرح صدر إلا بتوبة ، ولا أظن قلبك إلا مطبوعاً عليه ، أراك وقد وقفت بين الحق والباطل كأنك تنتظر شيئاً في يد غيرك .

قال معاوية : ألقاك بالفصل في أول مجلس إن شاء الله .

فلما بايع أهل الشام بعد أن جربهم واختبرهم ، قال يا جرير الحق بصاحبك ! وكتب إليه بالحرب ، وكتب في أسفل الكتاب شعر كعب بن جعيل :

أرى الشام تكرهُ أهلَ العراقِ

وأهلَ العراقِ لهم كارِهونا (١)

« الإِمام علي يختبر الفريقين . . »

ولما عزم أمير المؤمنين ( ع ) على المسير إلى الشام دعا رجلاً فأمره أن يتجهز ويسير إلى دمشق ، فإذا دخل أناخ راحلته بباب المسجد ولا يلقي من

__________________

(١) شرح النهج ٣ / ٨٧ .

١٧٥
 &

ثياب سفره شيئاً ، فان الناس إذا رأوه عليه آثار الغربة ، سألوه ، فليقل لهم : تركت علياً قد نهد إليكم بأهل العراق ، فانظر ما يكون من أمرهم .

ففعل الرجل ذلك ، فاجتمع الناس وسألوه ، فقال لهم ، فكثروا عليه يسألونه فأرسل إليه معاوية الأعور السلمي يسأله ، فأتاه فسأله ، فقال له ، فأتى معاوية فأخبره ، فنادى : الصلاة جامعة ، ثم قام فخطب الناس وقال لهم : إن علياً قد نهد إليكم في أهل العراق ، فما ترون ؟

قال : فضرب الناس بأذقانهم على صدورهم لا يتكلمون ، فقام ذو الكلاع الحميري فقال : عليك الرأي وعلينا الفعال .

فنزل ونادى في الناس بالخروج إلى معسكرهم .

وعاد الرجل إلى علي ( ع ) فأخبره بذلك ، فنادى : الصلاة جامعة ، ثم قام فخطب الناس ، فأخبرهم أنه قدم عليه رسول كان بعثه إلى الشام وأخبره أن معاوية قد نهد إلى العراق في أهل الشام ، فما الرأي ؟

فاضطرب أهل المسجد ، هذا يقول الرأي كذا ، وهذا يقول الرأي كذا ، وكثر اللغط واللجب ، فلم يفهم علي ( ع ) من كلامهم شيئاً ولم يدر المصيب من المخطىء ، فنزل عن المنبر وهو يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ذهبَ بها ابنُ آكلة الأكباد ـ يعني معاوية (١) .

اعتراض بعض قراء الشام على معاوية

وقبل أن يتجهز أمير المؤمنين علي للمسير نحو صفين ، جاء أبو مسلم الخولاني في ناسٍ من قراء أهل الشام إلى معاوية فقالوا له : يا معاوية ، علام تقاتل علياً وليس لك مثل صحبته ولا هجرته ولا قرابته ولا سابقته !

فقال : إني لا أدعي أن لي في الإِسلام مثل صحبته ولا هجرته ولا سابقته ، ولكن خبّروني عنكم ، ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلوماً ! قالوا :

__________________

(١) شرح النهج ٣ / ٩٦ .

١٧٦
 &

بلىٰ ، قال : فليدفع إلينا قتلته لنقتلهم به ، ولا قتال بيننا وبينه .

قالوا : فاكتب إليه كتاباً يأته به بعضنا . فكتب مع أبي مسلم الخولاني :

من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب ، سلام عليك ، فاني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فان الله اصطفى محمداً بعلمه ، وجعله الأمين على وحيه ، والرسول إلى خلقه ، واجتبىٰ له من المسلمين أعوانا أيده الله تعالى بهم ، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإِسلام ، فكان أفضلهم في الإِسلام وأنصحهم لله ورسوله الخليفة من بعده ، ثم خليفة خليفته من بعد خليفته ، ثم الثالث الخليفة المظلوم عثمان ! فكلهم حسَدْتَ ، وعلى كلّهم بغيتَ ، عرفنا ذلك في نظرك الشزرْ ، وقولك الهجر ، وتنفُسّكَ الصعداء ، وابطائك عن الخلفاء ، تُقاد إلى كلٍ منهم كما يُقادُ الفحل المخشوش ، حتى تبايع وأنت كاره ، ثم لم تكن لأحد منهم بأعظم حسداً منك لابن عمك عثمان ، وكان أحقهم أن لا تفعل ذلك في قرابته وصهره فقطعتَ رحمَهُ ، وقبّحتَ محاسنَهُ وألّبت الناس عليه ، وبطنت وظهرت حتى ضُرِبَت إليه آباط الإِبل ، وقيدت إليه الإِبل العِراب ، وحُمل عليه السلاح في حرم رسول الله ( ص ) فقتل معك في المحنة وأنت تسمع في داره الهائعة ، لا تردع الظن والتهمة عن نفسك بقولٍ ولا عمَل .

وأقسم قسماً صادقاً لو قمت فيما كان من أمره مقاماً واحداً تنهنه الناس عنه ما عدل بك من قِبلنا من الناس أحداً ولمحا ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به من المجانبة لعثمان والبغي عليه ، وأخرى أنت بها عند أنصار عثمان ظنين ، إيواؤك قتلة عثمان ، فهم عضدك وأنصارك ، ويدك وبطانتك ، وقد ذكر لي أنك تتنصل من دمه ، فان كنت صادقاً فأمكنّا من قتلته نقتلهم به ، ونحن أسرع الناس إليك ، وإلا فانه ليس لك ولأصحابك إلا السيف ، والذي لا إله إلا هو لنطلبنَّ قتلة عثمان في الجبال والرمال ، والبر والبحر حتى يقتلهم الله ، أو لتلحقَنَّ أرواحنا بالله ، والسلام .

١٧٧
 &

فلما قدم أبو مسلم على عليّ ( ع ) بهذا الكتاب ، قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ، فانك قد قمت بأمرٍ وُلِّيته ، ووالله ما أحب أنه لغيرك إن أعطيت الحق من نفسك ، إن عثمان قتل مسلماً محرماً مظلوماً ، فادفع إلينا قتلته وأنت أميرنا ، فإن خالفك من الناس أحد كانت أيدينا لك ناصرة ، وألسنتنا لك شاهدة ، وكنت ذا عذرٍ وحجة .

فقال له علي ( ع ) : أغدُ عليّ غدا فخذ جواب كتابك .

فانصرف أبو مسلم ، وفي اليوم التالي رجع ليأخذ جواب كتابه ، فوجد الناس قد بلغهم الذي جاء فيه ، فلبست الشيعة أسلحتها ثم غدوا فملأوا المسجد فنادوا : كلنا قتلة عثمان ؛ وأكثروا من النداء بذلك . وأذِنَ لأبي مسلم ، فدخل ، فدفع علي ( ع ) جواب كتاب معاوية .

فقال أبو مسلم : لقد رأيت قوماً ما لَكَ معهم أمر ! قال : وما ذاك ؟ قال : بلغ القوم أنك تريد أن تدفع إلينا قتلة عثمان ، فضجوا واجتمعوا ولبسوا السلاح ، وزعموا أنهم قتلة عثمان .

فقال علي ( ع ) : والله ما أردت أن أدفعهم إليك طرفة عين قط ، لقد ضربت هذا الأمر أنفه وعينه ، فما رأيت ينبغي لي أن أدفعهم إليك ولا إلى غيرك ! .

فخرج أبو مسلم بالكتاب وهو يقول : الآن طاب الضِرَابْ .

جواب الإِمام لمعاوية

من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان ، أما بعد : فإن أخا خولان قدم عليّ بكتاب منك تذكر فيه محمداً ( ص ) وما أنعم الله به عليه من الهدى والوحي ، فالحمد لله الذي صدقه الوعد ، وأيده بالنصر ، ومكن له في البلاد ، وأظهره على أهل العداوة والشنآن من قومه الذين وثبوا عليه ، وشنفوا له ، وأظهروا تكذيبه ، وبارزوه بالعدواة ، وظاهروا على إخراجه وعلى إخراج أصحابه وأهله ، وألبوا عليه العرب ، وجادلوهم على حربه ، وجهدوا

١٧٨
 &

في أمره كل الجهد ، وقلبوا له الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون .

وكان أشد الناس عليه تأليباً وتحريضاً أسرته والأدنى فالأدنى من قومه إلا من عصم الله . وذكرت أن الله تعالى اجتبىٰ له من المسلمين أعواناً أيده الله بهم فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإِسلام ، فكان أفضلهم ـ زعمت ـ في الإِسلام وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة وخليفة الخليفة ! لعمري إن مكانهما في الإِسلام لعظيم ، وان المصاب بهما لجرحٌ في الإِسلام شديد فرحمهما الله وجزاهما أحسن ما عملا ! وذكرت أن عثمان كان في الفضل تالياً ، فإن يك عثمان محسناً فسيجزيه الله بإحسانه وإن يك مسيئاً فسيلقى رباً غفورا ، لا يتعاظمه ذنب أن يغفره ، ولعمري إني لأرجو إذا أعطى الله الناس على قدر فضائلهم في الإِسلام ونصيحتهم لله ولرسوله أن يكون نصيبنا في ذلك الأوفر .

إن محمداً ( ص ) لما دعا إلى الإِيمان بالله والتوحيد له كنا أهل البيت أول من آمن به وصدقه فيما جاء ، فبتنا أحوالاً كاملةً مجرّمة (١) تامة ، وما يعبد الله في ربع ساكنٍ من العرب غيرنا ، فأراد قومنا قتل نبينا ، واجتياح أصلنا ، وهمُّوا بنا الهموم ، وفعلوا بنا الأفاعيل ، ومنعونا الميرة (٢) وأمسكوا عنا العذب وأحلسونا الخوف (٢) وجعلوا علينا الأرصاد والعيون ، واضطرونا إلى جبل وعر ، وأوقدوا لنا نار الحرب ، وكتبوا بينهم كتاباً ، لا يؤاكلوننا ، ولا يشاربوننا ، ولا يناكحوننا ، ولا يبايعوننا ولا نأمن منهم حتى ندفع إليهم محمداً فيقتلوه ويمثلوا به ، فلم نكن نأمن فيهم إلا من موسم إلى موسم . فعزم الله لنا على منعه ، والذب عن حوزته ، والرمي من وراء حرمته ، والقيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف بالليل والنهار ، فمؤمننا يرجو بذلك الثواب ، وكافرنا يحامي عن نفسه .

__________________

(١) مجرّمة : كاملة .

(٢) الميرة ـ المواد الغذائية .

١٧٩
 &

وأما من أسلم من قريش فإنهم مما نحن فيه خلاء ، منهم الحليف الممنوع ، ومنهم ذو العشيرة التي تدافع عنه ، فلا يبغيه أحد مثل ما بغانا به قومنا من التلف ، فهم من القتل بمكان نجوة وأمن ، فكان ذلك ما شاء الله أن يكون .

ثم أمر الله تعالى رسوله بالهجرة ، وأذن له بعد ذلك في قتال المشركين ، فكان إذا أحمر البأس ودعي للنزال ، أقام أهل بيته فاستقدموا ، فوقى أصحابه بهم حدّ الأسنة والسيوف . فقتل عبيدة يوم بدر ، وحمزة يوم أحد ، وجعفر وزيد يوم مؤتة ، وأراد من لو شئت ذكر اسمه (١) مثل الذي أرادوا من الشهادة مع النبي ( ص ) غير مرة ، إلا أن آجالهم عُجّلت ومنيتهم أُخّرت ، والله ولي الإِحسان إليهم ، والمنة عليهم بما أسلفوا من أمر الصالحات ، فما سمعت بأحد ولا رأيته هو أنصح في طاعة رسوله ولا لنبيه ، ولا أصبر على اللأواء والسراء والضراء وحين البأس ، ومواطن المكروه مع النبي ( ص ) من هؤلاء النفر الذين سميتُ لك وفي المهاجرين خير كثير يعرف ، جزاهم الله خيراً بأحسن أعمالهم .

وذكرت حسدي للخلفاء وابطائي عنهم ، وبغيي عليهم ، فأما البغي فمعاذ الله أن يكون ، وأما الإِبطاء عنهم والكراهية لأمرهم فلست اعتذر للناس عن ذلك .

إن الله تعالى ذكره لما قبض نبيه ، قالت قريش : منا أمير ؛ وقالت الأنصار : منا أمير ؛ فقالت قريش : منا محمد ( ص ) نحن أحق بالأمر ! فعرفت ذلك الأنصار فسلمت لهم الولاية والسلطان ، فإذا استحقوها بمحمد دون الأنصار ، فان أولى الناس بمحمد أحق به منهم ، وإلا فإن الأنصار أعظم العرب فيها نصيباً ، فلا أعلم ، أصحابي سلموا من أن يكونوا حقي أخذوا ، أو الأنصار ظلموا ، بل عرفت أن حقي هو المأخوذ ، وقد تركته لهم تجاوزاً لله عنهم .

__________________

(١) يعني نفسه ( ع ) .

١٨٠