عمّار بن ياسر

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه

عمّار بن ياسر

المؤلف:

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه


الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٤٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

بذور الثورة

وعلى ضوء ما ذكرنا بدأ القلق يساور المسلمين من جراء تلك السياسة ، فهم يرون الخلافة وقد أخذت تجنح نحو المنحدر الخطير ، نحو الملك حيث الحكم بالمال أو السيف . فها هي بدأت تفقد هيبتها وفاعليتها وسيطرتها ، فكان لا بد لهم ـ والحال هذه ـ أن يهيئوا أنفسهم لمواجهة الأمر الواقع تفادياً لما هو أعظم وأخطر ، فأخذ كل فردٍ منهم يشعر بالمسؤولية وبضرورة معالجة الموقف قدر المستطاع .

وهذا العبىء الثقيل يلقى بالدرجة الأولى على كاهل أصحاب الأمانة ، وهم الصحابة من المهاجرين والأنصار ، فهم الذين عايشوا مسيرة الإِسلام وسيرة نبيه ومن خلَفَهُ من بعده ، فقد إختاروا لأنفسهم كلمة الفصل في الظروف الصعبة واختارها لهم عامة المسلمين ، فكانت المسؤولية وكان عليهم تقرير المصير .

وبالفعل ، فإنهم لم يدخروا النصيحة فلقد بادروا إلى مصارحة الخليفة وتوجيه النقد له ولسياسته وجهاً لوجه أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة ، وكان في الطليعة عمار بن ياسر الذي كان يتمتع بنصيب وافر من الجرأة والإِقدام ، والثقة من أصحاب رسول الله ( ص ) فاجتمع هو وبعض الصحابة ، منهم

١٠١
 &

المقداد بن عمرو وطلحة والزبير ، وكتبوا كتاباً إلى عثمان عددوا في ما أحدث وغيّر وخوفوه ربه ، وأعلموه أنهم مواثبوه إن لم يُقلع .

وقد ذكر ابن قتيبة في الإِمامة والسياسة ما جاء في ذلك الكتاب . فقال :

١ ـ كتبوا كتاباً ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سنة رسول الله ( ص ) وسنة صاحبيه .

٢ ـ وما كان من هبة خُمسِ إفريقية لمروان ، وفيه حق الله ورسوله ، ومنهم ذوو القربىٰ واليتامى والمساكين .

٣ ـ وما كان من تطاوله في البنيان ، حتى عدوا سبع دورٍ بناها بالمدينة ، داراً لنائلة وداراً لعائشة وغيرهما من أهله وبناته .

٤ ـ وبنيان مروان القصور بذي خُشب ، وعمارة الأموال بها من الخمس الواجب لله ولرسوله .

٥ ـ وما كان من افشائه العمل والولايات في أهله وبني عمه من بني أمية من أحداثٍ وغلمةٍ لا صحبة لهم مع الرسول ، ولا تجربة لهم بالأمور .

٦ ـ وما كان من الوليد بن عقبة بالكوفة إذ صلىٰ بهم الصبح سكراناً أربعة ركعات ثم قال لهم : إن شئتم أزيدكم ركعةً زدتكم .

٧ ـ وتعطيله إقامة الحد وتأخيره ذلك عنه .

٨ ـ وتركه المهاجرين والأنصار لا يستعملهم على شيءٍ ولا يستشيرهم ، واستغنى برأيه عن رأيهم .

٩ ـ وما كان من الحمىٰ الذي حمى حول المدينة .

١٠ ـ وما كان من إدارة القطائع والأرزاق والأعطيات على أقوام بالمدينة ليس لهم صحبة من النبي ( ص ) ، ثم لا يغزون ولا يذبُّون .

١٠٢
 &

١١ ـ وما كان من مجاوزته الخيزران إلى السوط ، وأنه أول من ضرب بالسياط ظهور الناس ، وإنما كان ضرب الخليفتين قبله بالدِرّة والخيزران .

ثم تعاهد القوم ليدفعنَّ الكتاب في يد عثمان ، وكان ممن حضر الكتاب عمّار بن ياسر ، والمقداد بن الأسود ، وكانوا عشرة .

فلما خرجوا بالكتاب ليدفعوه إلى عثمان ـ والكتاب في يد عمار ـ جعلوا يتسللون عن عمار حتى بقي وحدَه ، فمضىٰ حتى جاء دار عثمان فاستأذن عليه ، فأذن له في يومٍ شاتٍ ، فدخل عليه وعنده مروان بن الحكم وأهله من بني أمية ، فدفع إليه الكتاب فقرأه فقال : أنت كتبت هذا الكتاب ؟ قال : نعم ، قال : ومن كان معك ؟ قال : معي نفر تفرقوا فَرَقاً منك ! قال : ومن هم ؟ قال : أخبرك بهم . قال : فلم اجترأت عليَّ من بينهم ؟!

فقال مروان : يا أمير المؤمنين ، هذا العبد الأسود ـ يعني عماراً ـ قد جرأ عليك الناس وأنك إن قتلته نكلتَ به من وراءه . قال عثمان : إضربوه .

فضربوه وضربه عثمان معهم حتى فتقوا بطنه ، فغُشي عليه ، فجرّوه حتى طرحوه على باب الدار ، فأمرت به أم سلمة زوج النبي ( ص ) فأدخل منزلها . . الخ (١) .

لقد كان المسلمون يرون في الخليفة المرشد الروحي لهم والمسؤول الأول عنهم الذي يمكن أن يضمن لهم السلامة في دينهم والسعادة في دنياهم ، وعلى هذا الأساس كانوا يتركون له كلمة الفصل في تقرير المصير فيما إذا ساءت الأيام وقست الظروف ، ويضحون بكل ما يستطيعون في سبيل إنجاح مهماته وقرارته .

أما ، وقد أمسىٰ الخليفة وأراؤه حكرا على حفنةٍ من الأقرباء ، فهذا أمر لا يكاد يرضي أحداً من الناس سيما المخلصين منهم ، بل هو نذير شؤم يهدد سلامة الأمة .

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / .

١٠٣
 &

لذلك عمدوا إلى أسلوب جديد استهدفوا من ورائه الضغط على الخليفة حيث قاموا بتأجيج الثورة الإِعلامية التي انتشرت في الأمصار انتشار النار في الهشيم ، فبعد أخذٍ وردٍّ استغرق وقتاً كان الخليفة يماطل من خلاله في وعوده ، اجتمعوا ووجهوا كتاباً لأهل مصر ، هذا نصه :

بسم الله الرحمن الرحيم : من المهاجرين الأولين وبقية الشورى ، إلى من بمصر من الصحابة .

أما بعد : أن تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول الله ( ص ) قبل أن يُسلَبَها أهلُها ، فإن كتاب الله قد بُدّل ، وسنّة رسول الله ( ص ) قد غيّرت ، وأحكام الخليفتين قد بدلت . فننشِدُ الله من قرأ كتابنا هذا من بقية أصحاب رسول الله ( ص ) والتابعين بإحسان إلا أقبل إلينا ، وأخذ الحق لنا وأعطاناه ، فأقبلوا إلينا إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، وأقيموا الحق على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيكم وفارقكم عليه الخلفاء ، غُلِبنا على حقنا ، واستُولي على فيئنا ، وحِيلَ بيننا وبين أمرنا ، وكانت الخلافة بعد نبينا خلافة نبوّةٍ ورحمة ، وهي اليوم مُلكٌ عضوض ، من غلب على شيء أكله (١) .

لقد كان هذا الكتاب وثيقةً حسيةً عبرت عما يعتمل في نفوس المسلمين من السخط والغضب لما آلت إليه الأمور من تغيير وتبديل في سير الخلافة ونهجها .

وهكذا بدأت رياح التغيير تعصف لتنتقل بالمسلمين من موقع المعارضة الهادئة إلى موقع الثورة ، بعد أن وجهوا انذاراتهم المتعددة من أقاليم متعددة ، وبعد أن صرخوا باحتجاجاتهم وصرّحوا بالطلب من الخليفة أن يصلح ما أفسده عهده ، غير أن تلك الصرخات وتلك الإِحتجاجات ذهبت أدراج الرياح ، حيث لم تلق أذناً صاغية بل لحقها إصرار شديد على الإِلتواء والإِنحراف ، سيما من تلك البطانة التي كانت تُحدُق بعثمان وتتحكم فيه ،

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ٣٨ .

١٠٤
 &

مما دفع بأم المؤمنين عائشة أن تحرّض الناس عليه بكلمتها المشهورة : إقتلوا نعثلاً قتله الله فقد كفر (١) .

وقبل مقتل عثمان بعام التقى أهل الأمصار الثلاثة ـ الكوفة والبصرة ومصر ـ بالمسجد الحرام ، فتذاكروا سيرة عثمان وتبديله ، وقالوا : لا يسعنا الرضى بهذا ، وكانوا قد اختاروا زعماء لهم يتكلمون باسمهم فاتفقوا أن يرجع كلٌّ إلى وطنه ثم يأتون في العام المقبل إلى عثمان في داره فيستمعوه ، فإن اعتذر إليهم ، وإلا رأوا رأيهم فيه .

ولما حضر الوقت خرج الأشتر مع أهل الكوفة في ألف رجل ، وحَكيم بن جبلة العبدي في مائة وخمسين من أهل البصرة ، وجاء أهل مصر في أربعمائة ، وقال ابن أبي الحديد : في ألفين ، وكان فيهم محمد بن أبي بكر ، حتى دخلوا المدينة ، فحصروا عثمان الحصار الأول ، وكتبوا إليه كتاباً ، قيل : كتبه المصريون ، جاء فيه :

« أما بعد : فاعلم أن الله لا يُغيّرُ ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسِهِم ، فالله الله ، ثم الله الله . . إلى قولهم : فاعلم أنا واللهِ للهِ نغضب ، وفي اللهِ نرضىٰ ، وإنّا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبةٌ مصرّحة ، أو ضلالة مجلَّحة مبلّجة . فهذه مقالتنا لك وقضيتنا إليك ، والله عذيرنا منك . والسلام » .

ثم أرسلوا بالكتاب إليه وأحاطوا هم وغيرهم بدار عثمان . فقال المغيرة بن شعبة لعثمان : دعني آتي القوم فانظر ما يريدون ! فمضى نحوهم فلما دنا منهم صاحوا به : يا أعور ! وراءك ، يا فاجر ! وراءك ، يا فاسق ! وراءك ، فرجع .

ودعا عثمان عمرو بن العاص فقال له : إئت القوم فادعُهم إلى كتاب الله والعتبىٰ مما ساءهم .

__________________

(١) وردت هذه العبارة بطرق وتراكيب مختلفة . راجع الغدير ٩ / ٧٩ وما بعدها .

١٠٥
 &

فلما دنا منهم سلّم ، فقالوا : لا سلّم الله عليك ! إرجع يا عدو الله ؛ إرجع يا بن النابغة ! فلست عندنا بأمين ولا مأمون !

فقال له ابن عمر وغيره ليس لهم إلا عليّ بن أبي طالب . فلما أتاه قال : يا أبا الحسن ؛ إئت هؤلاء القوم فادعهم إلى كتاب الله وسنة نبيه .

قال : نعم ، إن أعطيتني عهد الله وميثاقه على أنك تفي لهم بكل ما أضمنه عنك . قال : نعم ، فأخذ عليٌّ عليه عهد الله وميثاقه على أوكد ما يكون وأغلظ ، وخرج إلى القوم . فقالوا : وراءك . قال : لا ، بل أمامي ، تُعطون كتاب الله ، وتُعتبون من كل ما سخطتم . فعرض عليهم ما بذل عثمان ، فقالوا : أتضمنُ ذلك عنه ؟ قال : نعم . قالوا رضينا .

وأقبل وجوهُهُم وأشرافهم مع عليّ حتى دخلوا على عثمان وعاتبوه ، فأعتبهم من كل شيء . فقالوا : أكتب بهذا كتاباً ، فكتب :

بسم الله الرحمٰن الرحيم : هذا كتاب من عبد الله عثمان أمير المؤمنين لمن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين إن لكم أن أعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه ، يُعطى المحرومُ ، ويؤمَنُ الخائف ، ويردُّ المنفيُّ ، ولا تجمَّر (١) البعوث ، ويوفّرُ الفيىء ، وعليٌّ بن أبي طالب ضمين المؤمنين والمسلمين على عثمان بالوفاء في هذا الكتاب . ثم أشهدَ على الكتاب .

وأخذ كل قوم نسخةً منه وانصرفوا . وقال علي بن أبي طالب : أخرج فتكلم كلاماً يسمعه الناس ، ويحملونه عنك ، وأشهد اللهَ على ما في قلبك ، فإن البلاد قد تمخَّضت عليك ، ولا تأمن أن يأتيَ ركبٌ آخر من الكوفة أو منَ البصرة ، أو من مصر فتقول : يا علي اركب إليهم ، فإنْ لم أفعل قلتَ قطع رحمي واستخفَّ بحقي .

فخرج عثمان فخطب الناس وأقرَّ بما فعل واستغفر الله منه . . فسُرّ

__________________

(١) تجمَّر البعوث ، أي تحبس الجيوش في أرض العدو .

١٠٦
 &

الناس بخطبته مبتهجين . ثم دخل بيته (١) .

لكن مروان بن الحكم لم يعجبه ما حدث ، فخرج إلى الناس وقال لهم ، شاهت الوجوه إلا من أريد ، إرجعوا إلى منازلكم ، فإن يكن لأمير المؤمنين حاجة بأحدٍ منكم يرسل إليه وإلا قرّ في بيته !

وبلغ علياً ذلك ، فأتى عثمان وهو مغضب وقال له في مروان : لا رضي منك إلا بإفساد دينك ، وخديعتك عن عقلك ، وإني لأراه سيوردُك ثم لا يُصدِرُك ، وما أنا بعائدٍ بعد مقامي هذا لمعاتبتك .

الحصار الثاني : (٢)

لما شخص المصريون ، بعد الكتاب الذي كتبه عثمان فصاروا بأيلة ، رأوا راكباً خلفهم يريد مصر ، فقالوا له من أنت ؟ فقال : رسول أمير المؤمنين إلى عبد الله بن سعد ، وأنا غلامُ أمير المؤمنين . فقال بعضهم لبعض : لو أنزلناه وفتّشناه ألّا يكون صاحبه قد كتب فينا بشيء : ففعلوا فلم يجدوا معه شيئاً . فقال بعضهم لبعض : خلّوا سبيله . فقال كنانةُ بن بشر : أما والله دونَ أن أنظر في إداوته فلا . فقالوا : سبحان الله ، أيكون كتابٌ في ماء ؟ فقال : إن للناس حيلاً . ثم حلَّ الإِداوة فإذا فيها قارورة مختومة أو قال : مضمومة في جوفِ القارورة ، كتاب في أنبوب من رصاص ، فأخرجه فقرىء فإذا فيه :

أما بعد : فإذا قدِم عليك عمرو بن بُديل فاضرب عنقه ، واقطع يديْ ابن عُديس ، وكنانة وعروة ، ثم دعهم يتشحطون في دمائهم حتى يموتوا ، ثم أوثقهم على جذوع النخل .

وفي رواية ثانية : إذا أتاك محمد بن أبي بكر وفلان وفلان فاحتلْ لقتلهم وأبطل كتاب محمد وقر على عملك حتى يأتيك رأيي واحبس من يجيء إلي

__________________

(١) راجع الغدير ٩ / ١٧١ من مصادر ومراجع عدة .

(٢) راجع كتاب الغدير ٩ / ١٧٧ وقد أخذها من مصادر ومراجع عدة وقد اختصرتها وأخذت حاجتنا منها .

١٠٧
 &

متظلماً منك إن شاء الله .

فلما قرأوا الكتاب فزعوا وغضبوا ورجعوا إلى المدينة ، فجمعوا علياً وطلحة والزبير وسعداً ومن كان من أصحاب النبي ( ص ) ثم فكّوا الكتاب بمحضرٍ منهم وأخبروهم بقصة الغلام وأقرأوهم الكتاب ، فلم يبق أحد من أهل المدينة إلا حنق على عثمان ، وزاد ذلك من كان غضِبَ لابن مسعود وعمار بن ياسر وأبي ذر حنقاً وغيظاً ، وقام أصحاب النبي ( ص ) بمنازلهم ما منهم أحدٌ إلا وهو مغتم لما في الكتاب .

وحاصر الناسُ عثمان ، وأجلب عليه محمد بن أبي بكر ببني تيم وغيرهم ، وأعانه على ذلك طلحة بن عبيد الله ، وكانت عائشة تقرصه كثيراً ، ودخل علي وطلحة والزبير وسعد وعمار في نفرٍ من أصحاب محمد ( ص ) كلهم بدريٌّ على عثمان ، ومع علي الكتاب والغلام والبعير ، فقال له علي : هذا الغلام غلامك ؟ قال : نعم . قال : والبعير بعيرك ؟ قال : نعم . قال : وأنت كتبت هذا الكتاب ؟ قال : لا ، وحلف بالله : ما كتبتُ هذا الكتاب ولا أمرتُ به ، ولا وجهتُ هذا الغلام إلى مصر قط (١) ! .

وجاء في تأريخ الطبري : قالوا : ما أنت إلا صادق أو كاذب ، فإن كنت كاذباً فقد استحققت الخلع لما أمرت به من سفك دمائنا بغير حقها ، وإن كنت صادقاً فقد استحققت أن تُخلع لضعفك وغفلتك وخُبث بطانتك ، لأنه لا ينبغي أن نترك على رقابنا من يُقتطع مثل هذا الأمر دونه لضعفه وغفلته ، وقالوا له : إنك ضربت رجالاً من أصحاب النبي ( ص ) وغيرهم حين يَعِظونك ويأمرونك بمراجعة الحقّ عندما يستنكرون من أعمالك ، فأقِدْ من نفسك من ضربته وأنت له ظالم ، فقال : الإِمامُ يخطىءُ ويصيب ، فلا أقيدُ من نفسي لأني لو اقدتُ كلّ من أصبته بخطأٍ آتي على نفسي . قالوا : انك قد أحدثت أحداثاً عظاماً فاستحققتَ بها الخلع . . الخ (٢) . ورجع عليٌّ وبعض من كان

__________________

(١) الغدير ٩ / ١٨١ .

(٢) الطبري ٤ / ٣٧٥ .

١٠٨
 &

معه إلى منازلهم (١) .

قال حويطب بن عبد العزى : أرسل إلي عثمان حين اشتد حصاره ، فقال : قد بدا لي أن أتهم نفسي لهؤلاء ؛ فإتِ علياً وطلحة والزبير فقل لهم : هذا أمركم تولوه واصنعوا فيه ما شئتم .

قال : فخرجت حتى جئت علياً فوجدت على بابه مثل الجبال من الناس ، والبابُ مغلق لا يدخل عليه أحد (٢) .

وما عسى أن يفعل علي آنذاك أكثر من أن ينهى الناس بلسانه تفادياً للفتنة وصوناً لوحدة المسلمين ، لكن الأمر كان خارجاً عن يده ، ومع ذلك فقد أمر ولديه الحسن والحسين بالدفاع عن عثمان . بيد أن ذلك لم يجدي نفعاً ، فلقد قتل عثمان وكان ذلك بداية الفتنة التي يميز بها الله الخبيثَ من الطيّب .

__________________

(١) الطبري ٤ / ٣٧٥ .

(٢) الإمامة والسياسة ١ / ٣٧ .

١٠٩
 &

ترجمة سعيد بن العاص

ولي الكوفة بعد الوليد ، فلما دخلها أبى أن يصعد المنبر وأمر بغسله ، وقال : إن الوليد كان نجساً رجساً .

فلما اتصلت أيام سعيد بالكوفة ظهرت منه أمور منكرة ، فاستبد بالأموال حتى قال في بعض الأيام : إنما هذا السواد قطين لقريش . فقال له الأشتر : أتجعل ما أفاء الله علينا بضلال سيوفنا ومراكز رماحنا بستاناً لك ولقومك ؟!

ثم خرج الأشتر إلى عثمان في سبعين راكباً من أهل الكوفة ، فذكروا سوء سيرة سعيد بن العاص وسألوا عزله عنهم ، فمكث الأشتر وأصحابه أياماً لا يخرج لهم من عثمان في سعيد شيء ، وامتدت أيامهم بالمدينة .

وقدم على عثمان أمراؤه من الأمصار ، منهم : عبد الله بن سعد بن أبي سرح من مصر ، ومعاوية من الشام ، وعبد الله بن عامر من البصرة ، وسعيد بن العاص من الكوفة فأقاموا بالمدينة أياماً لا يردهم إلى أمصارهم كراهة أن يرد سعيداً إلى الكوفة ، وكره أن يعز له حتى كتب إليه من بأمصارهم يشكون إليه كثرة الخراج وتعطيل الثغور ، فجمعهم عثمان وقال : ما ترون ؟ فقال معاوية : أما أنا فراضٍ بي جندي . وقال عبد الله بن عامر : ليكفك امرؤ ما قِبلك اكفك ما قبلي . وقال عبد الله بن سعد ، ليس بكثير عزل عامل للعامة

١١٠
 &

وتولية غيره . وقال سعيد بن العاص : إنك إن فعلت هذا كان أهل الكوفة هم الذين يولون ويعزلون ، وقد صاروا حلقاً في المسجد ليس لهم غير الأحاديث والخوض ، فجهزهم في البعوث حتى يكون همُّ أحدهم أن يموت على دابته .

قال : فسمع مقالته عمرو بن العاص ، فخرج إلى المسجد فإذا طلحة والزبير جالسان فيه ، فقالا له : تعال إلينا ، فصار إليهما ، فقالا : ما وراءك ؟ قال : الشر ! ما ترك شيئاً من المنكر إلا أتى به وأمر به . وجاء الأشتر فقالا له : إن عاملكم الذي قمتم فيه خطباء قد رُدّ عليكم وأمر بتجهيزكم في البعوث وبكذا وكذا . . فقال الأشتر : والله لقد كنا نشكو سوء سيرته وما قمنا فيه خطباء ، فكيف وقد قمنا ؟! وأيم الله على ذلك لولا أني أنفذت النفقة وأنضيت الظهر لسبقته إلى الكوفة حتى أمنعه دخولها ! فقالا له : فعندنا حاجتك التي تقوم بك في سفرك ! قال فاسلفاني إذن مائة ألف درهم ، قال : فأسلفه كل واحد منهما خمسين ألف درهم ، فقسمها بين أصحابه .

وخرج إلى الكوفة ، فسبق سعيداً ، وصعد المنبر وسيفه في عنقه ما وضعه بعد ، ثم قال : أما بعد ، فإن عاملكم الذي أنكرتم تعديه وسوء سيرته ، قد رد عليكم وأمر بتجهيزكم في البعوث ، فبايعوني على أن لا يدخلها . فبايعه عشرة آلاف من أهل الكوفة ، وخرج راكباً متخفياً يريد المدينة أو مكة ، فلقي سعيداً بواقعة ( اسم مكان ) فأخبره بالخبر ، فانصرف إلى المدينة .

وكتب الأشتر إلى عثمان : إنا والله ما منعنا عاملك الدخول لنفسد عليك عملك ، ولكن لسوء سيرته فينا وشدة عذابه ، فابعث إلى عملك من أحببت .

فكتب إليهم : انظروا من كان عاملكم أيام عمر بن الخطاب فولوه .

فنظروا ، فإذا هو أبو موسى الأشعري . فولوه عليهم .

مروج الذهب ٢ / ٣٣٦

١١١
 &

ترجمة عبد الله بن مسعود

كان ابن مسعود أول من جهَرَ بالقرآن بمكة ، وذلك : « أنه اجتمع يوماً أصحابُ رسول الله فقالوا : والله ما سمعتْ قريش هذا القرآن يُجهَرُ لهَابهِ قطْ ، فمن رجلٌ يسمعهموه ؟

فقال عبد الله بن مسعود : أنا . قالوا : إنا نخشاهم عليك ، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه . قال : دعوني ، فإن الله سيمنعني .

وغدا ابن مسعود حتى أتى المقامَ في الضحى وقريشٌ في أنديتها ، حتى قام عند المقام ، ثم قرأ بسم الله الرحمٰن الرحيم : الرحمان علم القرآن . . . ثم استقبلها يقرأها ، وتأملوه فجعلوا يقولون : ماذا قال ابن أم عبد ؟ ثم قالوا : إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد ، فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه ، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه ، فقالوا له : هذا الذي خشينا عليك . فقال : ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن ، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غداً : قالوا : لا ، حسبُك ، قد أسمعتَهُمْ ما يكرهون .

وكان الخليفة عمر بن الخطاب قد أرسله إلى الكوفة ليعلّم أهلها أمورَ

١١٢
 &

دينهم ، وبعث عماراً أميراً ، وكتب إليهم : « إنهما من النجباء من أصحاب محمد من أهل بدر فاقتدوا بهما ، واسمعوا من قولهما وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي » .

وكان على عهد عثمان يقيم في الكوفة والأميرُ عليها الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وكان قد ألقى إليه مفاتيح بيت المال وقال له : « من غيّر غيّر الله ما به ، ومن بدّل أسخط اللهَ عليه ، وما أرى صاحبكم إلا وقد بدّل وغيّر ، أيعزَلُ مثلُ سعد بن أبي وقاص ويُولىَّ الوليد ؟!

وكان ابن مسعود يتكلم بكلام لا يدعه ، وهو : « إن أصدَقَ القولِ كتابُ الله ، وأحسنُ الهدي هدىٰ محمد ( ص ) ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكل محدَثٍ بدعة ، وكل بدعةٍ ضلالة ، وكلّ ضلالة في النار » .

فكتب الوليد إلى عثمان بذلك وقال : إنه يعيبُك ويطعن عليك .

فكتب إليه عثمان يأمره باشخاصه . فاجتمع الناس فقالوا : أقم ، ونحن نمنعك أن يصلَ إليك شيء تكرهه .

فقال : إن له علي حقَّ الطاعة ، ولا أحب أن أكون أول من فتح باب الفتن .

فردَّ الناس وخرج إلى المدينة .

قال البلاذري : وشيّعه أهل الكوفة ، فأوصاهم بتقوى الله ولزوم القرآن . فقالوا له : جُزيت خيراً ، فلقد علّمتَ جاهلنا ، وثبتّ عالمنا ، وأقرأتنا القرآن ، وفقهتنا في الدين ، فنِعم أخو الإِسلام أنت ونعم الخليل . ثم ودّعوه وانصرفوا .

ودخل المدينة يوم الجمعة وعثمان يخطب على المنبر . وقال البلاذري : « دخلها ليلة الجمعة ، فلما علم عثمان بدخوله قال : يا أيها الناس ، إنه قد طرقكم الليلة دُوْيَبة ! من يمشي على طعامهِ يقيىء ويسلح !!

فقال ابن مسعود : لستُ كذلك ، ولكنني صاحب رسول الله ( ص ) يوم

١١٣
 &

بدرٍ ، وصاحبهُ يوم بيعة الرضوان ، وصاحبه يوم الخندق ، وصاحبه يوم حُنَين .

قال : وصاحت عائشة ، يا عثمان ، أتقول هذا لصاحب رسول الله !؟ فقال عثمان : اسكتي .

ثم قال لعبد الله بن زمعة : أخرجه اخراجاً عنيفاً .

فأخذه ابن زمعة فاحتمله حتى جاء به باب المسجد فضرب به الأرض ، فكسر ضلعاً من أضلاعه . فقال ابن مسعود : قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان .

وقام علي بأمره حتى أتى به منزله . فأقام ابن مسعود بالمدينة لا يأذن له عثمان في الخروج منها إلى ناحية من النواحي ، وأراد حين برىء الغزوَ ، فمنعه من ذلك ، وقال له مروان : إن ابن مسعود أفسد عليك العراق ، أفتريدُ أن يفسد عليك الشام ؟ فلم يبرح المدينة حتى توفي قبل مقتل عثمان بسنتين .

وكان عثمان قد منعه عطاءه سنتين ، ولما مرض مرضه الذي مات فيه أتاه عثمان عائداً ، فقال له : ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي ! قال : فما تشتهي ؟ قال : رحمة ربي . قال : ألا أدعو لك طبيباً ؟ قال : الطبيب أمرضني ! قال : أفلا أمر لك بعطائك ؟ قال : منعتنيه وأنا محتاج إليه وتعطينيه وأنا مستغنٍ عنه ! قال : يكون لولدك . قال : رزقهم على الله . قال : استغفر لي يا أبا عبد الرحمان . قال : أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي .

وأوصى أن لا يصلي عليه عثمان ، فدُفن بالبقيع وعثمان لا يعلم . . الخ .

وقد وردت في فضله أحاديث كثيرة ، نذكر بعضها :

عن رسول الله ( ص ) إنه قال : تمسكوا بعهد عمار ، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه .

وعنه ( ص ) : عبد الله يوم القيامة في الميزان أثقل من أحُد .

١١٤
 &

وعنه ( ص ) : رضيتُ لأمتي ما رضيَ الله لها وابنُ أم عبد ، وسخطتَ لأمتي ما سخط الله لها وابن أم عبد .

وقال فيه علي ( ع ) حين أتاه ناس يثنون عليه : أقول فيه مثل ما قالوا وأفضل ، من قرأ القرآن وأحلّ حلاله ، وحرّم حرامه ، فقيهٌ في الدين ، عالمٌ بالسنة .

وكان يلقب بصاحب سِواد رسول الله . أي صاحب سره .

١١٥
 &

ترجمة الوليدِ بن عُقبَة

هو أخو عثمان لأمه ، ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن ـ كما يقول في الإِستيعاب ـ فيما علمت ، أن قوله عزَّ وجلّ : ( إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ . . . ) الآية نزلت في الوليد بن عقبة .

وجاء : أن امرأة الوليد جاءتْ إلى النبي ( ص ) تشتكيه بأنه يضربها ، فقاله لها : إرجعي وقولي إن رسولَ الله قد أجارني . فانطلقتْ ، فمكثت ساعةً ، ثم جاءت فقالت : ما أقلعَ عني . فقطع ( ص ) هدبةً من ثوبه ثم قال لها : اذهبي بهذا وقولي إن رسول الله قد أجارني . فمكثت ساعةً ثم رجعت فقالت : يا رسول الله ما زادني إلا ضرباً .

فرفع يديه وقال : اللهم عليكَ بالوليد . مرتين أو ثلاثاً .

وأقام بالكوفة أميراً من طرف عثمان ، وكان يدني الشعراء ويشرب الخمر ، ويجالس أبا زَبيد الطائي النصراني . وصلىٰ الصبح بالناس في المسجد الجامع أربعاً وهو سكران ، وقرأ في صلاته :

علِقَ القلبُ الربابا

بعد أن شابَتْ وشابا

فلما سلّم ، التفت إلى الناس وقال : أأزيدكم ؟ فإني أجد اليوم نشاطاً .

١١٦
 &

فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ـ وكان على بيت المال ـ ما زلنا معك في زيادة منذُ اليوم ! . ثم تقيأ في المحراب . وفيه يقول الحطيئة :

شهدَ الحطيئةُ يوم يلقى ربَّه

أن الوليدَ أحق بالعذر ـ

نادىٰ وقد تمت صلاتُهم

أأزيدكم ؟ سكراً وما يدري

فأبوا أبا وهب ولو أذنوا

لقرنتَ بين الشَفعِ والوِترِ

كفوا عنانك إذ جريت ولوُ

تركوا عنانك لم تزل تجري ـ (١)

وخطب ذات يومٍ ، فحصبه الناس بحصباء المسجد ، فدخل قصره يترنح ويتمثل بأبيات لتأبط شراً :

ولستُ بعيداً عن مدام وقينةٍ

ولا بصفا صلدٍ عن الخير معزلِ

ولكنني أروي من الخمر هامتي

وأمشي الملا بالساحبِ المتسللِ

وأشاعوا بالكوفة فعله ، وظهر فسقُه ومداومتهُ شربَ الخمر ، فهجم عليه جماعة من المسجد فوجدوه سكراناً مضطجعاً على سريره لا يعقل ، فأيقظوه من رقدته فلم يستيقظ ، ثم تقايأ عليهم ما شرب من الخمر ، فانتزعوا خاتمه من يده ، وخرجوا من فورهم إلى المدينة ، فأتوا عثمان بن عفان فشهدوا عنده على الوليد أنه شرب الخمر . فقال عثمان : وما يدريكما أنه شرب الخمر ؟ فقالا : هي الخمر التي كنا نشربها في الجاهلية ، وأخرجا خاتمه فدفعاه إليه ، فزجرهما ودفع في صدورهما .

فخرجا من عنده وأتيا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأخبراه بالقصة ، فأتى عثمان وهو يقول : « دفعتَ الشهودَ وأبطلتَ الحدودَ ! فقال له عثمان فما ترى ؟ قال : أرىٰ أن تبعث إلى صاحبك فتحضرهُ ، فإن أقاما الشهادة عليه في وجهه ولم يدرأ عن نفسه بحجّةٍ أقمت عليه الحَدَّ .

فلما حضر الوليد ، دعاهما عثمان ، فأقاما الشهادة عليه ولم يدل بحُجَة ، فألقى عثمان السوطَ إلى علي . فقال علي لابنه الحسن : قم يا بني

__________________

(١) النصائح الكافية / ١٦٥ .

١١٧
 &

فأقم عليه ما أوجب الله عليه . فقال : يكفينيه بعض من ترىٰ ، فلما رأى إمتناع الجماعة عن إقامة الحد توقياً لغضب عثمان لقرابته منه ، أخذ عليٌّ السوطَ ودنا منه ، فلما أقبل نحوه سبّه الوليد وقال : يا صاحب مكْس . فقال عقيل بنُ أبي طالب وكان ممن حضر : إنك تتكلم يا بن أبي مُعَيْط كأنك لا تدري من أنت ؟! وأنت عِلجٌ من أهل صفّورية . . فأقبل الوليد يروغ من عليّ ، فاجتذبه عليٌّ فضرب به الأرض ، وعلاه بالسوط . فقال عثمان : ليس لك أن تفعل به هذا . قال : بل وشراً من هذا إذا فسق ومنع حق الله تعالى أن يُؤخذ منه (١) .

وحدّث عمر بن شبة ، قال : لما قدِم الوليد الكوفة ، وفد عليه أبو زبيد الطائي النصراني ، فأنزله الوليد دار عقيل بن أبي طالب على باب المسجد ، فاستوهبها منه ، فوهبها له ، وكان أول الطعن عليه لأن أبا زبيد كان يخرج من منزله يخترق المسجد إلى الوليد وهو سكران ، فيتخذه طريقاً ويسمر عنده ويشرب معه .

وعن ابن الأعرابي قال : أعطىٰ الوليد أبا زُبيد الطائي ما بين القصور الحمر من الشام إلى القصور الحمر من الحيرة وجعله له حمىً ، فلما عُزل الوليد وولي سعيد انتزعها منه وأخرجها عنه .

قال : ولما قدم سعيد بن العاص الكوفة موضع الوليد قال : إغسلوا هذا المنبر ، فإن الوليد كان رجساً نجساً . فلم يصعده حتى غسل .

ومات الوليد فوق الرقة . وبها مات أبو زبيد ، ودفنا في موضع واحد ، فقال في ذلك أشجع السلمي وقد مر بقبرهما :

مررتُ على عظام أبي زبيدٍ

وقد لاحت ببلقعة صلودِ

وكان له الوليد نديمَ صدقٍ

فنادم قبرُه قبرَ الوليد (٢)

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٣٣٥ .

(٢) النصائح الكافية ١٧٢ الحاشية .

١١٨
 &

ترجمة مالك الأشتر

هو مالك ابن الحارث الأشتر النخعي ، أدرك النبي الأعظم ( ص ) وقد أثنى عليه كل من ذكره ، ولم أجد أحداً يغمز فيه (١) .

وكان فارساً شجاعاً رئيساً من أكابر الشيعة وعظمائها ، شديد التحقق بولاء أمير المؤمنين ( ع ) ونصره ، وقال فيه بعد موته : رحم الله مالكاً ، فلقد كان لي كما كنت لرسول الله ( ص ) .

وقد روى المحدثون حديثاً يدل على فضيلةٍ عظيمة للأشتر رحمه الله ، وهي شهادة قاطعة من النبي ( ص ) بأنه مؤمن ـ وذكر قصة وفاة أبي ذر وقول رسول الله ( ص ) « ليموتنّ أحدكم بفلاةٍ من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين » . إلى أن قال : وكان النفر الذين حضروا موت أبي ذر بالربذة مصادفة جماعة ، منهم حِجرُ بن الأدْبرَ ، ومالكُ بن الحارث الأشتر (٢) .

وقد شهد أمير المؤمنين علي ( ع ) في حقه شهادات عالية تدل على عظمة هذا الرجل . من ذلك كتابه إلى أهل مصر :

« أما بعد ، فقد بعثت إليكم عبداً من عباد الله ، لا ينام أيام الخوف ،

__________________

(١) الغدير ٩ / ٣٨ .

(٢) شرح النهج ١٥ / ٩٩ ـ ١٠٠ راجع الرواية مفصلةً منقولة عن ابن عبد البر .

١١٩
 &

ولا ينكِلُ عن الأعداء ساعاتِ الروع ، أشدُّ على الفجّار من حريقِ النار ، وهو مالِكُ بن الحارث أخو مذحج ، فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحق ، فإنه سيف من سيوف الله ، لا كليلُ الضُبّة ، ولا نابِي الضربة فإن أمركم أن تَنفِروا فأنفروا ، وإن أمركم أن تُقيموا فأقِيموا ، فإنه لا يقدِمُ ولا يُحجم ، ولا يؤخر ولا يقدِمُ إلا عن أمري ، وقد آثرتكم به على نفسي لنصيحته لكم ، وشدة شكيمته على عدوكم . . . » الخ .

وكتب ( ع ) إلى أميرين من أمراء جيشه :

« وقد أمرت عليكما وعلى من في حيّزكما مالك بن الحارث الأشتر ، فاسمعا له وأطيعا ، وأجعلاه درعاً ومجنّاً ، فإنه ممن لا يُخاف وَهنُه ولا سَقطَتُه ، ولا بطؤه عما الإِسراع إليه أحزم ولا إسراعه إلى ما البطىء عنه أمثل . . » (١) .

قال ابن أبي الحديد : فأما ثناء أمير المؤمنين ( ع ) عليه في هذا الفصل ، فقد بلغ مع اختصاره ما لا يبلغ بالكلام الطويل ، ولعمري لقد كان الأشتر أهلاً لذلك ، كان شديد البأس ، جواداً رئيساً حليماً فصيحاً شاعراً ، وكان يجمع بين اللين والعنف ، فيسطو في موضع السطوة ، ويرفق في موضع الرفق .

وقد ذكرنا بعض مواقفه في حرب الجمل وصفين فيما سيأتي من هذا الكتاب .

ومات الأشتر في سنة تسع وثلاثين متوجهاً إلى مصر والياً عليها لعلي ( ع ) ، قيل : سُقي سُمّاً . وقيل : إنه لم يصح ذلك ، وإنما مات حتف أنفه (٢) .

وفي الكامل لابن الأثير : دسَّ معاوية بن أبي سفيان للأشتر مولى عمر ، فسقاه شربة سويقٍ فيها سُمٌّ فمات . فلما بلغ معاوية موته ، قام خطيباً في

__________________

(١) الغدير ٣٩ .

(٢) شرح النهج ١٥ / ١٠١ .

١٢٠