باقر شريف القرشي
المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المعروف للطباعة والنشر
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-8275-79-7
الصفحات: ٢٣٨
تَقْتُلُونِي وَسَأَقُولُ كَما قالَ أَخُو الْأَوْسِ لِابْنِ عَمِّهِ وَهُوَ يُرِيدُ نُصْرَةَ رَسُولِ الله صلىاللهعليهوآله فَخَوَّفَهُ ابْنُ عَمِّهِ وَقالَ : أَيْنَ تَذْهَبُ ؟ فَإِنَّكَ مَقْتُولٌ ، فَقَالَ :
سَأَمْضِي وَمَا بِالمَوتِ عَارٌ عَلَى الفَتَى |
|
إذَا مَا نَوَىٰ حَقّاً وَجَاهَدَ مُسْلِمَا |
وَآسىٰ الرِّجالَ الصَّالِحينَ بِنَفْسِهِ |
|
وَفارَقَ مَثبُوراً وَخالَفَ مُجْرِما |
فَإِنْ عِشْتُ لَمْ أَنْدَمْ وَإِنْ مُتُّ لَمْ أُلَمْ |
|
كَفَىٰ بِكَ ذُلّاً أَنْ تَعِيشَ وتُرْغَمَا (١) |
ولمّا سمع الحرّ ذلك تنحّى عنه ، وعرف أنّه مصمّم على الموت والتضحية لإنقاذ المسلمين من ويلات الأمويّين وجورهم .
رسالة ابن مرجانة إلى الحرّ
وتابعت قافلة الإمام سيرها في البيداء ، وهي تارة تتيامن ، واُخرى تتياسر ، وجنود الحرّ يذودون الركب عن البادية ، ويدفعونه تجاه الكوفة ، والركب يمتنع عليهم ، وبينما هم كذلك وإذا براكب يجدّ في سيره ، فلبثوا هنيهة ينتظرونه فإذا به رسول من ابن زياد إلى الحرّ ، فسلّم الخبيث على الحرّ ولم يسلّم على ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وناول الحرّ رسالة من ابن مرجانة جاء فيها :
أمّا بعد : فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ، ويقدم عليك رسولي ، فلا تنزله إلّا بالعراء في غير حصن ولا على غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتّى يأتيني بإنفاذك أمري ، والسلام .
وأعرض ابن مرجانة عمّا عهد به إلى الحرّ من إلقاء القبض على الإمام ، وإرساله مخفوراً إلى الكوفة ، ومن المحتمل أنّه خاف من تطوّر الأحداث ، وانقلاب الأوضاع عليه إن وصل الإمام إلى الكوفة ، فرأى التحجير في الصحراء بعيداً عن المدن أوْلى
__________________________
(١) الإرشاد : ٢ : ٨٠ و ٨١ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٨٢ و ٣٨٣ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٥ . الفتوح : ٥ : ٧٩ . الكامل في التاريخ :٣ : ٢٨٠ و ٢٨١ .
بالوصول إلى أهدافه .
وقرأ الحرّ كتاب ابن مرجانة على الإمام ، وكان يريد أن يستأنف سيره ليحطّ رحله صوب قرية أو ماء ، فامتنع عليه الحرّ لأنّ نظرات الرقيب الوافد من ابن زياد كانت تتابعه ، وكان يسجّل عليه كلّ بادرة يخالف أوامر سيّده ابن مرجانة ، وأشار زهير بن القين ـ وهو من أعلام أنصار الإمام ، ومن خلّص أصحابه ـ عليه أن يبادر إلى قتال الحرّ ، فامتنع عليه الإمام ، وقال : ما كُنْتُ لِأَبْدَأَهُمْ بِقِتالٍ .
في كربلاء
وكان ركب الإمام في كربلاء ، فأصرّ عليه الحرّ أن ينزل فيها ، ولم يجد الإمام بُدّاً من النزول ، فالتفت إلى أصحابه قائلاً : ما اسْمُ هٰذَا الْمَكانِ ؟
ـ كربلاء .
وفاضت عيناه بالدموع ، وراح يقول : اللّٰهُمَّ إِنَّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَرْبِ وَالْبَلَاءِ (١) .
وأيقن الإمام بنزول الرزء القاصم ، فالتفت إلى أصحابه ينعى إليهم نفسه ونفوسهم
__________________________
(١) الفتوح : ٥ : ٨١ .
وفي تذكرة الخواص : ٢٢٥ : « أنّه لمَا قيل للحسين عليهالسلام : هذه أرض كربلاء أخذ ترابها فشمّها ، وقال : هَذِهِ وَاللهِ هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا جَبْرَئِيلُ رَسُولَ اللهِ صلىاللهعليهوآله وَإِنَّنِي أُقْتَلُ فِيهَا » .
وجاء في حياة الحيوان / الدميري : ١ : ٨٧ : « أنّ الحسين سأل عن اسم المكان فقيل له : كربلاء ، فقال : ذَاتُ كَرْبٍ وَبَلاءٍ ، لَقَدْ مَرَّ أَبِي بِهٰذَا الْمَكَانِ عِنْدَ مَسِيرِهِ إِلَىٰ صِفِّينَ وَأَنَا مَعَهُ ، فَوَقَفَ وَسَأَلَ عَنْهُ فَأَخْبَرُوهُ بِاسْمِهِ ، فَقَالَ : هَاهُنَا مَحَطُّ رِحَالِهِمْ ، وَهَاهُنَا مُهرَاقُ دِمَائِهِمْ .
فَسُئِلَ عَنْ ذلِكَ .
فَقَالَ : نَفَرٌ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ يَنْزِلُونَ هَاهُنَا » ، ثمّ أمر بأثقاله فحطّت في ذلك المكان . وكذلك جاء في مختصر صفوة الصفوة : ٢٦٢ .
قائلاً : هَذَا مَوْضِعُ كَرْبٍ وَبَلاءٍ ، انْزِلُوا هاهُنا مُناخُ رِكابِنا ، وَمَحَطُّ رِحالِنا ، وَسَفْكُ دِمائِنا (١) .
وسارع أبو الفضل العبّاس مع الفتية من أهل البيت عليهمالسلام ، وسائر الأصحاب الممجّدين إلى نصب الخيام لعقائل الوحي ، ومخدّرات النبوّة ، وقد خيّم عليهنّ الرعب ، وأيقنّ بمواجهة الأحداث الرهيبة على صعيد هذه الأرض .
ورفع الإمام الممتحن يديه بالدعاء إلى الله شاكياً إليه ما ألمّ به من عظيم المحن والخطوب قائلاً :
« اللّٰهُمَّ إِنَّا عِتْرَةُ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صلىاللهعليهوآله قَد أُخْرِجْنا وَأُزعِجْنا وَطُرِدْنا عَنْ حَرَمِ جَدِّنا ، وتَعَدَّتْ بَنُو أُمَيَّةَ عَلَيْنا ، اللَّهُمَّ فَخُذْ لَنا بِحَقِّنا وَانْصُرْنا عَلَى القَوْمِ الظَّالِمِينَ .
وأقبل الإمام على أهل بيته وأصحابه ، فقال لهم : النَّاسُ عَبِيْدُ الدُّنيا وَالدِّينُ لَعِقٌ عَلىٰ أَلْسِنَتِهِمْ يَحُوطُونَهُ ما دَرَّتْ مَعايِشُهُمْ ، فَإِذا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَانُونَ (٢) .
يا لها من كلمات ذهبيّة حكت واقع الناس واتّجاهاتهم في جميع مراحل التاريخ ، فهم عبيد الدنيا وعبيد السلطة ، وأمّا الدين والمُثل العليا فلا ظلّ لها في أعماق نفوسهم ، فإذا دهمتهم عاصفة أو بلاء هربوا من الدين ، ولم يثبت عليه إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان أمثال الصفوة العظيمة من أهل بيت الحسين وأصحابه .
ثمّ حمد الإمام عليهالسلام الله وأثنى عليه ، والتفت إلى أصحابه قائلاً :
أَمَّا بَعْدُ ، فَقَدْ نَزَلَ بِنَا ما قَدْ تَرَوْنَ ، وَإنَّ الدُّنْيا قَدْ تَغَيَّرَتْ ، وَتَنَكَّرَتْ وَأَدْبَرَ مَعْرُوفُها ،
__________________________
(١) اللهوف : ٤٩ . مقتل الحسين عليهالسلام / الخوارزمي : ١ : ٢٣٧ . ينابيع المودة : ٣ : ٦٣ .
(٢) مقتل الحسين عليهالسلام / الخوارزمي : ١ : ٢٣٧ . الفتوح : ٥ : ٩٧ .
وضبط أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري في كتابه ( الصناعين ) كلام الإمام الحسين بهذه الصورة : « النَّاسُ عَبِيدُ الدُّنيَا ، وَالدِّينُ لَغْوٌ عَلَىٰ أَلْسِنَتِهِمْ يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ بِهِ مَعَايِشُهُمْ ، فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيانُونَ » .
وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صَبابَةٌ كَصَبابَةِ الْإِناءِ ، وَخَسِيسُ عَيْشٍ كَالْمَرْعَى الْوَبيلِ (١) ، أَلَا تَرَوْنَ إِلى الْحَقِّ لَا يُعْمَلُ بِهِ ، وَإِلَى الْباطِلِ لَا يُتَناهَىٰ عَنْهُ ، لِيَرْغَبَ الْمُؤْمِنُ فِي لِقاءِ اللهِ ، فَإِنِّي لَا أَرَى الْمَوْتَ إِلّا سَعادةً وَالْحَياةَ مَعَ الظّالِمِينَ إِلّا بَرَماً (٢) .
لقد أعلن أبو الأحرار بهذا الخطاب عمّا حلّ به من المحن والبلوى ، وأعلم أهل بيته وأصحابه عن عزمه الجبّار وإرادته الصلبة في مقارعة الباطل ، وإقامة الحقّ الذي آمن به في جميع أدوار حياته .
وقد وجّه إليهم هذا الخطاب ليكونوا على بيّنة من أمرهم ، ويشاركوه في تحمّل المسؤوليّة ، وقد هبّوا جميعاً وهم يسجّلون في تاريخ البشريّة أروع الأمثلة للتضحية والفداء من أجل إقامة دولة الإسلام .
وكان أوّل من تكلّم منهم زهير بن القين ، وهو من أفذاذ الأحرار ، فقال له : سمعنا ـ يا بن رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنّا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها (٣) .
ومثّلت هذه الكلمات شرف الإنسان الذي لا يضاهيه شرف ، وقد حكى ما في نفوس أصحابه الأحرار من الولاء لريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، والتفاني في سبيله .
وانبرى بطل آخر من أصحاب الإمام وهو برير (٤) الذي وهب حياته لله ، فقال له :
__________________________
(١) المرعى الوبيل : هو الطعام الوخيم الذي يخاف وباله ، أي سوء عاقبته . لسان العرب : ١٥ : ٢٠٢ ـ وبل .
(٢) المعجم الكبير / الطبراني : ٣ : ١١٤ ـ ١١٥ ، الحديث ٢٨٤٢ . حلية الأولياء : ٢ : ٣٩ . تاريخ مدينة دمشق : ١٤ : ٢١٧ ـ ٢١٨ . تاريخ الإسلام ـ حوادث ٦١ ـ ٨٠ : ١٢ .
(٣) اللهوف : ٤٨ . بحار الأنوار : ٤٤: ٣٨١ . عوالم العلوم : ١٧ : ٢٣٢ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٥ و ٣٠٦ ، وفيه : « قد سمعنا . . . مخلدين إلّا أنّ فراقها في نصرك ومواساتك لآثرنا . . . » .
(٤)
وفي تاج العروس أثبته يزيد بن خضير ، والأصحّ برير ، كما عليه الأكثر . راجع =
« يا بن رسول الله ، لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك ، وتقطّع فيك أعضاؤنا ، ثمّ يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة » (١) .
ولا يوجد في البشريّة مثل هذا الإيمان الخالص ، لقد أيقن أن نصرته لابن رسول الله صلىاللهعليهوآله فضل ومنّة من الله عليه ليفوز بشفاعة جدّه الأعظم يوم يلقى الله .
وانبرى بطل آخر من أصحاب الإمام ، وهو نافع (٢) فأعلن نفس المصير الذي اختاره الأبطال من أصحابه ، فقال : « أنت تعلم أنّ جدّك رسول الله صلىاللهعليهوآله لم يقدر أن يشرب الناس محبته ، ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحب ، وقد كان منهم منافقون يعدونه بالنصر ، ويضمرون له الغدر ، يلقونه بأحلىٰ من العسل ويخلفونه بأمرّ من الحنظل ، حتّىٰ قبضه الله إليه ، وإنّ أباك عليّاً كان في مثل ذلك ، فقوم قد أجمعوا علىٰ نصره وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين حتّىٰ أتاه أجله فمضى إلى رحمة الله ورضوانه ، وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة ، فمن نكث عهده ، وخلع بيعته فلن يضرّ إلّا نفسه ، والله مغنٍ عنه ، فسر بنا راشداً معافىً مشرِّقاً إن شئت وإن شئت مغرِّباً ، فوالله ما أشفقنا من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربنا ، وإنّا علىٰ نيّاتنا وبصائرنا نوالي من والاك ونعادي من عاداك » (٣) .
__________________________
= تاج العروس : ٣ : ١٨٣ .
ذكر علماء السير : أنّ الرجل كان شجاعاً تابعيّاً ناسكاً قارئاً للقرآن ، من شيوخ القرّاء ، ومن أصحاب أمير المؤمنين عليهالسلام ، وكان من أشراف أهل الكوفة من الهمدانيّين ، وله كتاب القضايا والأحكام يرويه عن أمير المؤمنين وعن الحسن عليهماالسلام ، وكتابه من الاُصول المعتبرة عند الأصحاب . تنقيح المقال / المامقاني : ١ : ١٦٧ .
(١) اللهوف : ٤٨ . بحار الأنوار : ٤٤: ٣٨١ : ٣٨٣ . عوالم العلوم : ١٧ : ٢٣٢ .
(٢) وهو نافع بن هلال بن نافع بن جمل بن سعد العشيرة المذحجي الجملي . إبصار العين : ١١٤ .
(٣) بحار الأنوار : ٤٤ : ٣٨٢ ـ ٣٨٣ . عوالم العلوم : ١٧ : ٢٣٣ .
دلّ هذا الخطاب الرائع على وعي نافع ، وإدراكه العميق للأحداث ، ودراسته لأبعادها ، فقد أعرب أنّ الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله بما يملك من طاقات روحيّة لم يستطع أن يجمع الناس على محبّته ، ويخضعهم إلى الإيمان برسالته ، فقد كان هناك طائفة من المنافقين انتشروا في صفوف المسلمين ، وهم يضمرون الكفر في دخائل نفوسهم ، ويظهرون الإسلام على ألسنتهم ، وكانوا يبغون للنبيّ صلىاللهعليهوآله الغوائل ، ويكيدون له في غلس الليل وفي وضح النهار ، فقد ابتلي بمثل ما ابتلي به النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فقد آمن به قوم وحاربه قوم آخرون ، وحال الإمام الحسين عليهالسلام كحال أبيه جدّه صلوات الله عليهم ، فقد آمنت به قلّة مؤمنة من أصحابه ، وزحفت لحربه الجموع الهائلة من الذين نزع الله الإيمان من قلوبهم .
وعلى أي حال فقد تكلّم أكثر أصحاب الإمام بمثل كلام نافع ، وهم يعلنون له الإخلاص والتفاني ، وقد شكرهم الإمام ، وأثنى عليهم ، ودعا لهم بالمغفرة والرضوان .
خروج الجيوش لحرب الحسين عليهالسلام
وتمّت أحلام ابن مرجانة ، وتحقّقت آماله حينما استولت طليعة جيوشه على ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وأخذ يطيل النظر فيمن ينتدبه لحربه ، ويرشّحه لقيادة قوّاته المسلّحة ، وتصفّح الأرجاس من أذنابه وعملائه ، فلم يرَ رجساً مثل عمر بن سعد يقدم على اقتراف هذه الجريمة ، فقد درس نفسيّته ، ووقف على ميوله واتّجاهاته التي منها الخنوع والمروق من الدين ، وعدم المبالاة بارتكاب الآثام والجرائم ، والتهالك على المادّة ، وغير ذلك من نزعاته الشريرة .
وعرض ابن مرجانة سليل
الأدعياء على ابن سعد القيام بحرب سبط رسول الله صلىاللهعليهوآله فامتنع عن إجابته ، فهدّده بعزله عن
ولاية الريّ ، فلم يطق صبراً عنها ، فقد سال لها لعابه ، فأجابه إلى ذلك وزحف إلى كربلاء ومعه أربعة آلاف فارس ،
وهو يعلم أنّه خرج لقتال ذرّيّة رسول الله صلىاللهعليهوآله الذين هم خيرة مَن في الأرض ، وانتهى الجيش إلى كربلاء فانضمّ إلى الجيش الرابض هناك بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي .
خطبة ابن زياد
وأمر الطاغية بجمع الناس في رحاب المسجد الأعظم ، فهرعوا كالأغنام خوفاً من ابن مرجانة ، وقد امتلأ الجامع منهم ، فقام خطيباً ، فقال : أيّها الناس ، إنّكم بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبّون ، وهذا أمير المؤمنين يزيد ، قد عرفتموه حَسَن السيرة محمود الطريقة محسناً إلى الرعية ، يعطي العطاء في حقّه ، وقد أمنت السبل علىٰ عهده ، وكذلك كان أبوه معاوية في عصره ، وهذا ابنه يزيد من بعده يكرم العباد ، ويغنيهم بالأموال ويكرمهم ، وقد زادكم في أرزاقكم مائة مائة ، وأمرني أن أُوفرها عليكم ، وأُخرجكم إلى حرب عدوه الحسين فاسمعوا له وأطيعوا (١) .
لقد خاطبهم باللغة التي يفهمونها ويتهالكون عليها ، ويقدّمون أرواحهم بسخاء في سبيلها ، وهي المادّة التي هاموا بحبّها ، وقد أجابوه إلى ما أراد فزجّهم لاقتراف أفظع جريمة في تأريخ البشريّة .
وأسند القيادة في بعض قطعات جيشه إلى كلّ من الحصين بن نمير ، وحجّار بن أبجر ، وشمر بن ذي الجوشن ، وشبث بن ربعي ، وغيرهم ، وقد زحفوا بمن معهم إلى كربلاء لمساعدة ابن سعد .
احتلال الفرات
وقامت العصابة المجرمة التي تحمل شرور أهل الأرض وخبثهم باحتلال الفرات ، ولم تبق شريعة أو منفذ إلّا وقد وضع عليها الحرس ، وقد صدرت إليهم
__________________________
(١) بحار الأنوار : ٤٤ : ٣٨٥ . الفتوح : ٥ : ٨٩ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٨٦ و ٣٨٧ .
الأوامر المشدّدة من قِبل القيادة العامّة بالحذر واليقظة كي لا تصل قطرة من الماء إلى عترة رسول الله صلىاللهعليهوآله الذين هم من خيرة ما خلق الله .
ويقول المؤرّخون : حيل بين الحسين والماء قبل قتله بثلاثة أيّام (١) ، وكان ذلك من أعظم ما عاناه الإمام من المحن والخطوب ، فكان يسمع صراخ أطفاله وهم ينادون : العطش . . العطش ، وذاب قلب الإمام حناناً ورحمة لذلك المشهد الرهيب ، فقد ذبلت شفاه أطفاله ، وذَوِيَ عودهم ، وجفّ لبن المراضع .
وصوّر أنور الجندي هذا المنظر المفجع بقوله :
وَذِئابُ الشُّرُورِ تَنْعَمُ بِالماءِ |
|
وَأَهْـلُ النَّبيِّ مِنْ غَيْرِ ماءِ |
يا لِظُلْمِ الأَقْدَارِ يَظْمَأُ قَلْبُ اللَّيْثِ |
|
وَاللَّيْثُ مُوثَّقُ الأَعْضاءِ |
وَصِغارُ الحُسَيْنِ يَبكُونَ فِي الصَّحْراءِ |
|
يا رَبِّ أَيْنَ غَوْثُ القَضاءِ |
لقد نزع الله الرحمة من قلوبهم ، فتنكّروا لإنسانيّتهم ، وتنكّروا لجميع القيم والأعراف ، فإنّ جميع الشرائع والمذاهب لا تبيح منع الماء عن النساء والأطفال ، فالناس فيه جميعاً شركاء ، وقد أكّدت ذلك الشريعة الإسلاميّة ، واعتبرته حقّاً طبيعيّاً لكلّ إنسان ، ولكنّ الجيش الأموي لم يحفل بذلك ، فحرم الماء على آل النبيّ صلىاللهعليهوآله وكان بعض الممسوخين يتباهى ويفخر لحرمانهم الحسين من الماء ، فقد انبرى الوغد اللئيم المهاجر بن أوس صوب الإمام رافعاً صوته قائلاً : يا حسين ، ألا ترى الماء يلوح كأنّه بطون الحيّات ، والله لا تذوقه أو تموت دونه .
واشتدّ عمرو بن الحجّاج نحو الحسين ، وهو فرح كأنّما ظفر بمكسب أو مغنم قائلاً : يا حسين ، إنّ هذا الفرات تلغ فيه الكلاب ، وتشرب فيه الحمير والخنازير ،
__________________________
(١) الإرشاد : ٢ : ٨٦ و ٨٧ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٨٩ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٦١٣ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٣ . مرآة الزمان في تاريخ الأعيان : ٨٩ .
والله لا تذوق منه جرعة حتىٰ تذوق الحميم في نار جهنم (١) .
وكان هذا الوغد الأثيم ممّن كاتب الإمام الحسين عليهالسلام بالقدوم إلى الكوفة .
وانبرى جلف آخر من أوغاد أهل الكوفة وهو عبد الله بن الحصين الأزدي فنادى بأعلى صوته لتسمعه مخابرات ابن مرجانة فينال منه جوائزه وهباته ، قائلاً : يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنّه كبد السماء ، والله لا تذوق منه قطر حتّى تموت عطشاً .
فرفع الإمام يديه بالدعاء عليه قائلاً : اللَّهُمَّ اقْتُلْهُ عَطَشَاً ، وَلَا تَغْفِرْ لَهُ أَبَداً (٢) .
لقد تمادى هؤلاء الممسوخون بالشرّ ، وسقطوا في هوّة سحيقة من الجرائم والآثام ما لها من قرار .
سقاية العبّاس عليهالسلام لأهل البيت عليهمالسلام
والتاع أبو الفضل أشدّ ما تكون اللوعة ألماً ومحنة حينما رأى أطفال أخيه وأهل بيته وهم يستغيثون من الظمأ القاتل ، فانبرى الشهم النبيل لتحصيل الماء وأخذه بالقوّة ، وقد صحب معه ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً ، وحملوا معهم عشرين قربة ، وهجموا بأجمعهم على نهر الفرات ، وقد تقدّمهم نافع بن هلال المرادي ، وهو من أفذاذ أصحاب الإمام الحسين ، فاستقبله عمرو بن الحجّاج الزبيدي ، وهو من مجرمي حرب كربلاء ، وقد عهد إليه حراسة الفرات ، فقال لنافع : ما جاء بك ؟
ـ جئنا لنشرب الماء الذي حلّأتمونا عنه .
ـ اشرب هنيئاً .
__________________________
(١) أنساب الأشراف : ٣ : ٣٩٠ .
(٢) تاريخ الاُمم والملوك :٤ : ٣١٢ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٣ . الصراط السوي في مناقب آل النبيّ : ٨٦ . وفي أنساب الأشراف : ٣ : ٣٨٩ : « ابن حصن » .
ـ أفأشرب والحسين عطشان ، ومن ترى من أصحابه ؟
ـ لا سبيل إلى سقي هؤلاء ، إنّما وضعنا بهذا المكان لمنعهم عن الماء .
ولم يعن به الأبطال من أصحاب الإمام ، وسخروا من كلامه ، فاقتحموا الفرات ليملأوا قربهم منه ، فثار في وجوههم عمرو بن الحجّاج ومعه مفرزة من جنوده ، والتحم معهم بطل كربلاء أبو الفضل ، ونافع بن هلال ، ودارت بينهم معركة إلّا أنّه لم يقتل فيها أحد من الجانبين ، وعاد أصحاب الإمام بقيادة أبي الفضل ، وقد ملأوا قربهم من الماء .
لقد أروى أبو الفضل عطاشى أهل البيت عليهمالسلام ، وأنقذهم من الظمأ ، وقد منح منذ ذلك اليوم لقب ( السقّاء ) وهو من أشهر ألقابه ، وأكثرها ذيوعاً بين الناس ، كما أنّه من أحبّ الألقاب وأعزّها عنده (١) .
أمان الشمر للعبّاس عليهالسلام وإخوته
وبادر الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن إلى سيّده ابن مرجانة ، فأخذ منه أماناً لأبي الفضل وإخوته الممجّدين ، وقد ظنّ أنّه سيخدعهم ويفردهم عن أخيهم أبي الأحرار ، وبذلك يضعف جيش الإمام ، لأنّه يخسر هؤلاء الأبطال الذين هم من أشجع فرسان العرب ، وجاء الخبيث يشتدّ كالكلب وقد وقف أمام جيش الحسين ، وهتف منادياً : أين بنو اُختنا العبّاس وإخوته ؟
وهبّت الفتية كالاُسود ، فقالوا له : ما تريد يا بن ذي الجوشن ؟
فانبرى مستبشراً يبدي لهم الحنان المزيّف قائلاً : لكم الأمان .
وصاحوا به ، وهم يتميّزون من الغيظ ، فقد لذعهم قوله : لعنك الله ، ولعن أمانك ،
__________________________
(١) أنساب الأشراف ٣ : ١٨١ .
أتؤمننا وابن بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله لا أمان له (١) .
وولّى الخبيث خائباً ، فقد ظنّ أنّ السادة الأماجد إخوة الإمام من طراز أصحابه الممسوخين الذين باعوا ضمائرهم على ابن مرجانة ووهبوا حياتهم للشيطان ، ولم يعلم أنّ إخوة الحسين عليهالسلام من أفذاذ الدنيا الذين صاغوا الكرامة الإنسانيّة ، وصنعوا الفخر والمجد للإنسان .
زحف الجيوش لحرب الحسين عليهالسلام
وزحفت طلائع الشرك والكفر لحرب ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله في عصر الخميس لتسع خلون من شهر محرّم ، بعد أن صدرت إليهم الأوامر المشدّدة من ابن مرجانة بتعجيل القتال وحسم الموقف خوفاً من تبلور رأي الجيش وحدوث انقسام في صفوفه ، وكان الإمام محتبياً بسيفه أمام بيته ، إذ خفق برأسه ، فسمعت شقيقته عقيلة بني هاشم السيّدة زينب أصوات الرجال ، وتدافعهم نحو أخيها ، فانبرت إليه فزعة مرعوبه ، فأيقظته ، فرفع الإمام رأسه فرأى اُخته مذهولة ، فقال لها بعزم وثبات : إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلىاللهعليهوآله فِي الْمَنامِ ، فَقالَ : إِنَّكَ تَرُوحُ إِلَيْنا .
وذابت نفس العقيلة أسى وحسرات ، وانهارت قواها ، ولم تملك نفسها أن لطمت وجهها ، وراحت تقول : يا ويلتاه .
والتفت أبو الفضل إلى أخيه فقال له : يا أخي أتاك القوم .
وطلب الإمام منه أن يتعرّف على خبرهم قائلاً : ارْكَبْ بِنَفْسِي أَنْتَ يا أَخِي حَتَّىٰ تَلْقاهُم ، وَتَقُولَ لَهُمْ : ما لَكُمْ وَما بَدا لَكُمْ ، وَتَسْأَلَهُمْ عَمّا جاءَ بِهِمْ ؟ (٢) .
__________________________
(١) أنساب الأشراف ٣ : ١٨٤ .
(٢) الإرشاد : ٢ : ٩٠ . روضة الواعظين : ١٨٣ . بحار الأنوار : ٤٤ : ٣٩١ . الفتوح : ٥: ٩٧ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤: ٣١٥ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٤ و ٢٨٥ . البداية والنهاية : ٨ : ١٧٨ .
لقد فدى الإمام عليهالسلام أخاه بنفسه ، وهو ممّا يدلّ على سموّ مكانته ، وعظيم منزلته ، وأنّه قد بلغ قمّة الإيمان ، وأعلى مراتب المتّقين . . وأسرع أبو الفضل نحو الجيش ، ومعه عشرون فارساً من أصحابه ، ومن بينهم زهير بن القين ، وحبيب بن مظاهر ، وسألهم أبو الفضل عن سبب زحفهم ، فقالوا له : جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم النزول على حكمه ، أو نناجزكم (١) .
وقفل العباس إلى أخيه ، فأخبره بمقالتهم ، وراح حبيب بن مظاهر يعظهم ويحذّرهم من عقاب الله قائلاً : « أما والله بئس القوم يقدمون غداً على الله عزّ وجلّ ، وعلىٰ رسوله محمد صلىاللهعليهوآله ، وقد قتلوا ذريته وأهل بيته المتهجدين بالأسحار ، الذاكرين الله كثيراً بالليل والنهار ، وشيعته الأتقياء الأبرار » .
وردّ عليه بوقاحة عَزرَة بن قيس ، فقال له : يا بن مظاهر ، إنّك لتزكّي نفسك !
وانبرى إليه زهير بن القين قائلاً : اتقِ الله يا بن قيس ، ولا تكن من الذين يعينون على الضلال ويقتلون النفس الزكية الطاهرة عترة خيرة الأنبياء (٢) .
فأجابه عزرة : كنت عندنا عثمانياً فما بالك ؟
فردّ عليه زهير بمنطق الشرف والإيمان : « والله ما كتبت إلى الحسين ، ولا أرسلت إليه رسولاً ، ولكن الطريق جمعني وإياه ، فلمّا رأيته ذكرت به رسول الله صلىاللهعليهوآله وعرفت ما تقدمون من غدركم ونكثكم ، وسبيلكم إلى الدنيا فرأيت أن أنصره ، وأكون في حزبه حفظاً لما ضيّعتم من حق رسول الله صلىاللهعليهوآله » (٣) .
لقد كان كلام زهير حافلاً بالصدق بجميع رحابه ، فقد بيّن أنّه لم يكتب إلى الإمام بالقدوم إلى الكوفة ، لأنّه كان عثماني الهوى ، ولكنّه حينما التقى بالإمام في الطريق
__________________________
(١) أنساب الأشراف : ٣ : ٣٩٢ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٥ . البداية والنهاية : ٨ :١٧٨ .
(٢) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٥ و ٣١٦ . الفتوح : ٥ : ٩٨ .
(٣) أنساب الأشراف : ٣ : ٣٩٢ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٦ .
ووقف على واقع الحال من غدر أهل الكوفة به ، ونكثهم لبيعته انقلب رأساً على عقب ، وصار من أنصار الإمام ، ومن أكثرهم مودّة وحباً له ، لأنّ الإمام من ألصق الناس برسول الله صلىاللهعليهوآله .
وعلى أي حال ، فقد عرض أبو الفضل مقالة القوم على أخيه ، فقال له : اِرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُؤَخِّرَهُمْ إِلَى الْغَدْوَةِ وَتَدفَعَهُمْ عَنّا الْعَشِيَّةِ لَعلَّنا نُصَلِّي لِرَبِّنا هٰذِهِ اللَّيْلَةَ ، وَنَدْعُوهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّي أُحِبُّ الصَّلَاةَ ، وَتِلَاوَةَ كِتابِهِ وَكَثْرَةَ الدُّعاءِ وَالْإِسْتِغْفارِ (١) .
لقد أراد ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله أن يودّع الحياة الدنيا بأثمن ما فيها ، وهي الصلاة والدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن الكريم ، وأن يواجه الله تعالى وقد تزوّد منها .
ورجع أبو الفضل عليهالسلام إلى معسكر ابن مرجانة فأخبرهم بمقالة أخيه ، فعرض ابن سعد ذلك على الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن خوفاً من وشايته إذا استجاب لطلب الإمام ، فقد كان شمر المنافس الوحيد لابن سعد على إمارة الجيش ، كما كان عيناً عليه ، كما أراد أن يكون شريكاً له في المسؤوليّة فيما إذا عاتبه ابن زياد على تأخير الحرب .
ولم يبد الشمر أي رأي له في الموضوع ، وإنّما أحاله لابن سعد ليكون هو المسؤول عنه ، وانبرى عمرو بن الحجّاج الزبيدي فأنكر عليهم هذا التردّد والاحجام عن إجابة الإمام قائلاً : سبحان الله ! والله لو كان من الديلم ثمّ سألكم هذه المسألة لكان ينبغي أن تجيبوه (٢) .
__________________________
(١) الإرشاد : ٢ : ٩٠ و ٩١ . اللهوف : ٥٤ .
(٢) أنساب الأشراف : ٣ : ٣٩٢ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٦ . المنتظم : ٥ : ٣٣٧ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٥٨ .
ولم يزد ابن الحجّاج على ذلك ، فلم يقل لهم : إنّه ابن رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وإنّهم هم الذين غرّوه وكاتبوه بالقدوم إلى مصرهم ، لم يقل ذلك خوفاً من أن تنقل الاستخبارات العسكريّة إلى ابن زياد ذلك فينال العقاب والحرمان ، وأيّد ابن الأشعث مقالته ، فاستجاب ابن سعد إلى تأجيل الحرب ، وأوعز إلى رجل من أصحابه أن يعلن ذلك ، فدنا من معسكر الإمام ورفع صوته قائلاً : يا شيعة الحسين ابن عليّ ، قد أجّلناكم يومكم هذا إلىٰ غدٍ ، فإن استسلمتم ونزلتم علىٰ حكم الأمير وجّهنا بكم إليه وإن أبيتم ناجزناكم (١) .
واُرجئ القتال إلى صبيحة اليوم العاشر من المحرّم ، وظلّ جيش ابن سعد ينتظرون الغد هل يجيبهم الإمام أو يرفض ما دعوه إليه .
الإمام عليهالسلام يأذن لأصحابه بمفارقته
وجمع ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله أهل بيته وأصحابه في ليلة العاشر من المحرّم ، وعرض عليهم ما يلاقيه من الشهادة ، وطلب منهم أن ينطلقوا في رحاب الأرض ويتركوه وحده ليقلى مصيره المحتوم ، وقد أراد بذلك أن يكونوا على بيّنة من أمرهم فقال عليهالسلام لهم :
أُثْنِي عَلَى اللهِ أَحْسَنَ الثَّناءِ ، وَأَحْمَدُهُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ، اللَّهُمَّ إنِّي أَحْمَدُكَ عَلَى أَنْ أَكْرَمْتَنا بِالنُّبُوَّةِ وَعَلَّمْتَنا الْقُرْآنَ ، وَفهَّمْتَنا فِي الدِّينِ ، وَجَعَلْتَ لَنا أَسْماعاً وَأَبْصارَاً وَأَفئِدَةً ، وَلَمْ تَجْعَلْنا مِنَ المُشْرِكِينَ .
أَمّا بَعْدُ ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَصْحَابَاً أَوْفَىٰ وَلَا خَيْراً مِن أَصْحابِي ، وَلَا أَهْلَ بَيْتٍ أَبَرَّ وَلَا أَوْصَلَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ، فَجَزَاكُمُ اللهُ جَمِيعَاً عَنِّي خَيْراً ، أَلَا وَإِنِّي لَأَظُنُّ يَومَنَا مِنْ
__________________________
(١) الفتوح : ٥ : ٩٩ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٧ .
هٰؤُلَاءِ الْأَعْدَاءِ غَداً ، وَإِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ جَمِيعَاً ، فَانْطَلِقُوا فِي حِلٍّ لَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنِّي ذِمَامٌ ، وَهٰذَا اللَّيْلُ قَدْ غَشِيَكُمْ فَاتَّخِذِوهُ جَمَلاً ، وَلْيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُم بِيَدِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ، فَجَزَاكُمُ اللهُ جَميعَاً خيراً ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا فِي سَوَادِكُمْ وَمَدائِنِكُمْ حَتَّىٰ يُفَرِّجَ اللهُ ، فَإِنَّ الْقَوْمَ إِنَّما يَطْلُبُونَنَي ، وَلَوْ أَصابُونِي لَهَوْا عَنْ طَلَبِ غَيْرِي (١) .
وتمثّلت روعة الإيمان ، وسرّ الإمامة بهذا الخطاب العظيم الذي كشف جانباً كبيراً عن نفسيّة أبي الأحرار ، فقد تجنّب في هذا الموقف الدقيق الحاسم جميع ألوان المنعطفات ، ووضع أصحابه وأهل بيته أمام الأمر الواقع ، فقد حدّد لهم النتيجة التي لا مفرّ منها وهي القتل والتضحية ، وليس هناك أي شيء آخر من متع الدنيا ، وقد طلب منهم أن يخلّوه وينصرفوا تحت جنح الظلام ، فيتّخذونه ستراً دون كلّ عين ، فلعلّهم يخجلون أن يبتعدوا عنه في وضع النهار ، فقد جعلهم في حلّ
__________________________
(١) المنتظم : ٥ : ٣٣٧ و ٣٣٨ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٥ . الإرشاد : ٢ : ٩١ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٧ .
وروي كلامه بصورة اُخرى ، فقد جاء في تفسير العسكري عليهالسلام : ١٧٨ ـ ١٧٩ ، أنّه عليهالسلام قال : أَنْتُمْ فِي حِلٍّ مِنْ بَيْعَتِي ، فَالْحَقُوا بِعَشائِرِكُمْ وَمَوَالِيكُمْ ، وقال لأهل بيته : قَدْ جَعَلْتُكُمْ في حِلٍّ مِنْ مُفارَقَتِي ، فَإِنَّكُم لَا تُطِيقُوهُم ، لِتَضَاعُفِ أَعْدَادِهِمْ وَقُوَاهُمْ وَمَا الْمَقصُودُ غَيْرِي ، فَدَعُونِي وَالْقَوْمَ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعينُنِي وَلَا يُخَلِّينِي مِنْ حُسْنِ نَظَرِهِ كَعَادَتِهِ مَعَ أَسْلَافِنا الطَّيِّبِينَ ، ففارقه جماعة من معسكره .
فقال له أهله : لا نفارقك ويحزننا ما يحزنك ، ويصيبنا ما يصيبك ، وإنّا أقرب ما نكون إلى الله إذا كنّا معك ، فقال لهم : إِنْ كُنْتُمْ وَطَّنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ عَلَىٰ ما وَطَّنْتُ نَفْسِي عَلَيْهِ ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ إِنَّما يَهَبُ الْمَنازِلَ الشَّرِيفَةَ لِعِبادِهِ ؛ لِاحْتِمالِ الْمَكارِهِ ، وَأَنَّ اللهَ كانَ خَصَّنِي مَعَ مَنْ مَضَىٰ مِنْ أَهْليَ الَّذِينَ أَنا آخِرُهُمْ بَقاءً في الدَّنْيا مِنَ الْكَرَاماتِ بِما يُسَهِّلُ عَلَيَّ مَعَها احْتِمالُ الْمَكرُوهاتِ ، فَإِنَّ لَكُمْ شَطْراً مِنْ كَرَامَاتِ اللهِ ، وَاعْلَمُوا أنَّ الدُّنْيا حُلْوَها وَمُرَّها حُلمٌ ، وَالْإِنتِباهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَالْفائِزُ مَنْ فازَ فِيها ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِيها .
من التزاماتهم تجاهه ، وقد عرّفهم أنّه بالذات هو الهدف لتلك الوحوش الكاسرة المتعطّشة إلى سفك دمه ، فإذا ظفروا به فلا إرب لهم في طلب غيره .
جواب أهل البيت عليهمالسلام
ولم يكد يفرغ الإمام من خطابه حتّى هبّت الصفوة من أهل البيت عليهمالسلام ، وعيونهم تفيض دموعاً ، وهم يعلنون ولاءهم له ، وتضحيتهم في سبيله ، وقد مثّلهم أبو الفضل العباس عليهالسلام فخاطب الإمام قائلاً : لِمَ نفعل ذلك ؟! لنبقى بعدك لا أرانا الله ذلك أبداً .
والتفت الإمام إلى السادة من أبناء عمّه من بني عقيل ، فقال لهم : حَسْبُكُمْ مِنَ القَتْلِ بِمُسْلِمٍ ، اذْهَبُوا فَقَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ .
وهبّت فتية آل عقيل كالاُسود تتعالى أصواتهم ، قائلين : إذن ما يقول الناس ؟ وما نقول ؟ إنّا تركنا شيخنا وسيدنا ، وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرمِ معهم بسهم ، ولم نطعن برمح ، ولم نضرب بسيف ولا ندري ما صنعوا ؟ لا واللهِ لا نفعل ، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا نقاتل معك ، حتىٰ نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك (١) .
لقد صمّموا على حماية الإمام العظيم ، والدفاع عن أهدافه ومبادئه ، واختاروا الموت تحت ظلال الأسنّة على الحياة التي لا هدف فيها .
جواب أصحابه عليهالسلام
أمّا أصحاب الإمام عليهالسلام فهم أحرار هذه الدنيا ، وقد اندفعوا يعلنون للإمام عليهالسلام الفداء والتضحية دفاعاً عن المبادئ المقدّسة التي ناضل من أجلها الإمام ، وقد انبرى مسلم بن عوسجة فخاطب الإمام قائلاً : « أنحن نُخلّي عنك ؟! وبماذا نعتذر إلى الله سبحانه في أداء حقّك ، أما واللهِ لا اُفارقك حتىٰ أطعن في صدورهم برمحي ،
__________________________
(١) الإرشاد : ٩١ : ٩٢ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٨ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٥ .
وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لم يكن معي سلاح أُقاتلهم لقذفتهم بالحجارة ، والله لا نخلّيك حتىٰ يعلم الله أن قد حفظنا غيبة رسول الله صلىاللهعليهوآله . . . » (١) .
لقد عبّرت هذه الكلمات عن عميق إيمانه بريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وأنّه سيذبّ عنه حتّى النفس الأخير من حياته .
وانبرى بطل آخر من أصحاب الإمام ، وهو سعيد بن عبد الله الحنفي ، فخاطب الإمام قائلاً : « والله لا نخلّيك حتىٰ يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسوله صلىاللهعليهوآله فيك ، والله لو علمتُ أنّي أُقتل ثمّ أُحيا ثمّ أُحرق ، ثمّ أُذرّ ، يفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقىٰ حمامي دونك ، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا ؟! » (٢) .
وليس في قاموس الوفاء أصدق ، ولا أنبل من هذا الوفاء ، فهو يتمنّى من صميم قلبه أن تجري عليه عمليّة القتل سبعين مرّة ليفدي الإمام عليهالسلام ، ليحفظ بذلك غيبة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وكيف لا يستطيب الموت في سبيله وإنّما هو مرّة واحدة ، ثمّ هي الكرامة الأبديّة التي لا انقضاء لها .
وانبرى زهير بن القين فأعلن نفس الاتّجاه الذي أعلنه المجاهدون من إخوانه قائلاً : « والله ، لوددت أنّي قتلت ثمّ نشرت ، ثمّ قتلت حتى أُقتل هكذا ألف مرّة ، وأنّ الله عزّ وجلّ يدفع بذلك القتل عن نفسك ، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك » (٣) .
__________________________
(١) الإرشاد : ٢ : ٩٢ . اللهوف : ٥٦ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٩٣ . تاريخ الاُمم والملوك : : ٤ : ٣١٨ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٥ .
(٢) اللهوف : ٥٦ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٨ . البداية والنهاية : ٨ : ١٧٨ و ١٧٩ .
وفي أنساب الأشراف : ٣ : ٣٩٣ ذكر أنّه تكلم ، ولم يذكر نصّ كلامه .
(٣) الإرشاد : ٢ : ٩٢ . اللهوف : ٥٦ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٨ .
أرأيتم وفاء هؤلاء الأبطال ، فهل تجدون لهم مثيلاً في تأريخ هذه الدنيا ، لقد ارتفعوا إلى مستوى من النبل والشهامة لم يبلغه أي إنسان ، وقد أعطوا بذلك الدروس المشرقة في الدفاع عن الحقّ .
وأعلن بقيّة أصحاب الإمام عليهالسلام الترحيب بالشهادة في سبيل إمامهم ، فجزاهم خيراً ، وأكّد لهم جميعاً أنّهم سينعمون في الفردوس الأعلى ، ويحشرون مع النبيّين والصدّيقين ، وهتفوا جميعاً : الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك ، وشرّفنا بالقتل معك ، أوَلا ترضى أن نكون معك في درجتك يا بن رسول الله ؟ (١) .
لقد أُترعت نفوس هؤلاء الأبطال بالإيمان العميق ، فتحرّروا من جميع ملاذّ الحياة ولهوها ، واتّجهوا صوب الله ، فرفعوا راية الإسلام عالية خفّاقة في رحاب هذا الكون .
إحياء الليل بالعبادة
وأقبل الإمام عليهالسلام مع الصفوة الطيّبة المؤمنة من أهل بيته وأصحابه نحو الله يناجونه بقلوبهم وعواطفهم ، وهم يسألونه العفو والغفران ولم يذق أحد منهم طعم الرقاد ، فقد كانوا ما بين راكع وساجد وقارئ للقرآن ، وكان لهم دويّ كدويّ النحل .
وكانوا ينتظرون انبثاق نور الصبح بفارغ الصبر لينالوا الشهادة بين يدي ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله .
وأما معسكر ابن زياد فقد باتوا وهم في شوق لطلوع الصبح ليريقوا دماء أهل البيت عليهمالسلام ليقترّبوا بها إلى سيّدهم ابن مرجانة .
يوم عاشوراء
وليس مثل يوم العاشر من المحرّم في مآسيه وكآبته وكوارثه ، فلم تبق محنة
__________________________
(١) نفس المهموم : ٢٠٨ . مقتل الحسين عليهالسلام : المقرّم : ٢٦١ .
من محن الدنيا ، ولا فاجعة من فواجع الدهر إلّا جرت على ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فلا يوم مثل ذلك اليوم الخالد في دنيا الأحزان .
دعاء الإمام عليهالسلام
وخرج أبو الأحرار من خبائه فرأى البيداء قد ملئت خيلاً ورجالاً ، وقد شهر اُولئك البغاة اللئام سيوفهم لإراقة دمه ، ودماء الصفوة البررة من أهل بيته وأصحابه لينالوا الأجر الزهيد من الارهابي المجرم ابن مرجانة ، ودعا الإمام بمصحف فنشره على رأسه ، ورفع يديه بالدعاء إلى الله قائلاً :
اللّهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ ، وَرَجائِي فِي كُلِّ شِدَّةٍ ، وَأَنْتَ لِي فِي كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِي ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ . كَمْ مِنْ هَمٍّ يَضعُفُ فِيْهِ الفُؤادُ ، وَتَقِلُّ فِيْهِ الْحِيلَةُ ، وَيَخْذُلُ فِيْهِ الصَّدِيقُ ، وَيَشْمَتُ فِيْهِ العَدُوُّ ، أَنْزَلْتُهُ بِكَ وَشَكَوْتُهُ إِلَيْكَ رَغْبَةً مِنِّي إِلَيْكَ عَمَّنْ سِوَاكَ فَفَرَّجْتَهُ وَكَشَفْتَهُ ، فَأَنْتَ وَلِيُّ كُلِّ نِعْمَةٍ وَصاحِبُ كُلِّ حَسَنَةٍ وَمُنْتَهَىٰ كُلِّ رَغْبَةٍ (١) .
لقد أناب الإمام إلى الله تعالى ، وأخلص له ، فهو وليّه ، والملجأ الذي يلجأ إليه في كلّ نائبة نزلت به .
خطبة الإمام عليهالسلام
ودعا الإمام الحسين عليهالسلام براحلته فركبها ، واتّجه نحو معسكر ابن سعد ، وهو بتلك الهيبة التي تحكي هيبة جدّه الرسول صلىاللهعليهوآله ، فخطب فيهم خطابه التاريخي الذي هو من أبلغ وأروع ما أُثر في الكلام العربي ، وقد نادى بصوت عالٍ يسمعه جلّهم :
« أَيُّها النّاسُ ، اسْمَعُوا قَوْلِي وَلَا تَعْجَلُوا حَتّىٰ أَعِظَكُمْ بِما يَحِقُّ لَكُمْ عَلَيَّ ، وَحَتّىٰ
__________________________
(١) الإرشاد : ٢: ٩٦ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٢١ . تاريخ مدينة دمشق : ١٤ : ٢١٧ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٦ و ٢٨٧ . البداية والنهاية : ٨ : ١٧١ .
أَعْتَذِرَ إِلَيْكُمْ مِنْ مَقْدَمِي عَلَيْكُمْ ، فَإِنْ قَبِلْتُمْ عُذْرِي ، وَصَدَّقْتُمْ قَوْلِي ، وَأَعْطَيتُمُونِيَ النَّصَفَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ كُنْتُمْ بِذَلِكَ أَسْعَدَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَكُمْ عَلَيَّ سَبِيلٌ ، وَإِنْ لَمْ تَقْبَلُوا مِنِّيَ الْعُذْرَ وَلَمْ تُعْطُوا النَّصَفَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ) (١) ، ( إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) (٢) » .
وحمل الأثير هذه الكلمات إلى السيّدات من عقائل النبوّة ، ومخدّرات الرسالة ، فتصارخن بالبكاء ، فبعث إليهنّ أخاه العبّاس وابنه عليّاً ، وقال لهما : « سَكِّتاهُنَّ فَلَعَمْرِي لَيَكْثُرُ بُكاؤُهُنَّ » (٣) .
ولمّا سكتن استرسل في خطابه ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على جدّه الرسول صلىاللهعليهوآله وعلى الملائكة والأنبياء ، وقال في ذلك ما لا يحصى ذكره ، ولم يسمع لا قبله ولا بعده أبلغ منه في منطقه .
وكان ممّا قاله : الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ الدُّنْيا فَجَعَلَها دَارَ فَناءٍ وَزَوَالٍ ، مُتَصَرِّفَةً بِأَهْلِها حالاً بَعْدَ حالٍ ، فَالْمَغرُورُ مَنْ غَرَّتْهُ ، وَالشَّقِيُّ مَنْ فَتَنَتْهُ ، فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ هٰذِهِ الدُّنْيا فَإِنَّها تَقْطَعُ رَجَاءَ مَنْ رَكَنَ إِلَيها ، وَتُخيِّبُ طَمَعَ مَن طَمِعَ فِيْها ، وَأَرَاكُمُ قَدْ اجْتَمَعْتُم عَلَىٰ أَمْرٍ قَدِ أَسْخَطْتُمُ اللهَ فِيْهِ عَلَيْكُمْ ، وَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ عَنْكُمْ ، وَأَحَلَّ بِكُمْ نِقْمَتَهُ ، فَنِعْمَ الرَّبُّ رَبُّنا ، وَبِئْسَ الْعَبِيدُ أَنْتُم ، أَقْرَرْتُمْ بِالطَّاعَةِ ، وَآمَنْتُمْ بِالرَّسُولِ صلىاللهعليهوآله ثُمَّ إِنَّكُمْ زَحَفْتُمْ إِلَىٰ ذُرِيَّتِهِ وَعِتْرَتِهِ تُرِيدُونَ قَتْلَهُمْ .
لَقَدْ اسْتَحْوَذَ عَلَيْكُمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساكُمْ ذِكْرَ اللهِ العَظِيمِ ، فَتَبّاً لَكُمْ وَلِمَا تُرِيدُونَ ، إِنّا للهِ
__________________________
(١) يونس عليهالسلام ١٠ : ٧١ .
(٢) الأعراف ٧ : ١٩٦ .
(٣) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٢٢ . الإرشاد : ٢ : ٩٧ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٧ .