العبّاس بن علي عليهما السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

باقر شريف القرشي

العبّاس بن علي عليهما السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المعروف للطباعة والنشر
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-8275-79-7
الصفحات: ٢٣٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

تَقْتُلُونِي وَسَأَقُولُ كَما قالَ أَخُو الْأَوْسِ لِابْنِ عَمِّهِ وَهُوَ يُرِيدُ نُصْرَةَ رَسُولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فَخَوَّفَهُ ابْنُ عَمِّهِ وَقالَ : أَيْنَ تَذْهَبُ ؟ فَإِنَّكَ مَقْتُولٌ ، فَقَالَ :

سَأَمْضِي وَمَا بِالمَوتِ عَارٌ عَلَى الفَتَى

إذَا مَا نَوَىٰ حَقّاً وَجَاهَدَ مُسْلِمَا

وَآسىٰ الرِّجالَ الصَّالِحينَ بِنَفْسِهِ

وَفارَقَ مَثبُوراً وَخالَفَ مُجْرِما

فَإِنْ عِشْتُ لَمْ أَنْدَمْ وَإِنْ مُتُّ لَمْ أُلَمْ

كَفَىٰ بِكَ ذُلّاً أَنْ تَعِيشَ وتُرْغَمَا (١)

ولمّا سمع الحرّ ذلك تنحّى عنه ، وعرف أنّه مصمّم على الموت والتضحية لإنقاذ المسلمين من ويلات الأمويّين وجورهم .

رسالة ابن مرجانة إلى الحرّ

وتابعت قافلة الإمام سيرها في البيداء ، وهي تارة تتيامن ، واُخرى تتياسر ، وجنود الحرّ يذودون الركب عن البادية ، ويدفعونه تجاه الكوفة ، والركب يمتنع عليهم ، وبينما هم كذلك وإذا براكب يجدّ في سيره ، فلبثوا هنيهة ينتظرونه فإذا به رسول من ابن زياد إلى الحرّ ، فسلّم الخبيث على الحرّ ولم يسلّم على ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وناول الحرّ رسالة من ابن مرجانة جاء فيها :

أمّا بعد : فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ، ويقدم عليك رسولي ، فلا تنزله إلّا بالعراء في غير حصن ولا على غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتّى يأتيني بإنفاذك أمري ، والسلام .

وأعرض ابن مرجانة عمّا عهد به إلى الحرّ من إلقاء القبض على الإمام ، وإرساله مخفوراً إلى الكوفة ، ومن المحتمل أنّه خاف من تطوّر الأحداث ، وانقلاب الأوضاع عليه إن وصل الإمام إلى الكوفة ، فرأى التحجير في الصحراء بعيداً عن المدن أوْلى

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ٨٠ و ٨١ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٨٢ و ٣٨٣ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٥ . الفتوح : ٥ : ٧٩ . الكامل في التاريخ :٣ : ٢٨٠ و ٢٨١ .

١٦١
 &

بالوصول إلى أهدافه .

وقرأ الحرّ كتاب ابن مرجانة على الإمام ، وكان يريد أن يستأنف سيره ليحطّ رحله صوب قرية أو ماء ، فامتنع عليه الحرّ لأنّ نظرات الرقيب الوافد من ابن زياد كانت تتابعه ، وكان يسجّل عليه كلّ بادرة يخالف أوامر سيّده ابن مرجانة ، وأشار زهير بن القين ـ وهو من أعلام أنصار الإمام ، ومن خلّص أصحابه ـ عليه أن يبادر إلى قتال الحرّ ، فامتنع عليه الإمام ، وقال : ما كُنْتُ لِأَبْدَأَهُمْ بِقِتالٍ .

في كربلاء

وكان ركب الإمام في كربلاء ، فأصرّ عليه الحرّ أن ينزل فيها ، ولم يجد الإمام بُدّاً من النزول ، فالتفت إلى أصحابه قائلاً : ما اسْمُ هٰذَا الْمَكانِ ؟

ـ كربلاء .

وفاضت عيناه بالدموع ، وراح يقول : اللّٰهُمَّ إِنَّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَرْبِ وَالْبَلَاءِ (١) .

وأيقن الإمام بنزول الرزء القاصم ، فالتفت إلى أصحابه ينعى إليهم نفسه ونفوسهم

__________________________

(١) الفتوح : ٥ : ٨١ .

وفي تذكرة الخواص : ٢٢٥ : « أنّه لمَا قيل للحسين عليه‌السلام : هذه أرض كربلاء أخذ ترابها فشمّها ، وقال : هَذِهِ وَاللهِ هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا جَبْرَئِيلُ رَسُولَ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله وَإِنَّنِي أُقْتَلُ فِيهَا » .

وجاء في حياة الحيوان / الدميري : ١ : ٨٧ : « أنّ الحسين سأل عن اسم المكان فقيل له : كربلاء ، فقال : ذَاتُ كَرْبٍ وَبَلاءٍ ، لَقَدْ مَرَّ أَبِي بِهٰذَا الْمَكَانِ عِنْدَ مَسِيرِهِ إِلَىٰ صِفِّينَ وَأَنَا مَعَهُ ، فَوَقَفَ وَسَأَلَ عَنْهُ فَأَخْبَرُوهُ بِاسْمِهِ ، فَقَالَ : هَاهُنَا مَحَطُّ رِحَالِهِمْ ، وَهَاهُنَا مُهرَاقُ دِمَائِهِمْ .

فَسُئِلَ عَنْ ذلِكَ .

فَقَالَ : نَفَرٌ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ يَنْزِلُونَ هَاهُنَا » ، ثمّ أمر بأثقاله فحطّت في ذلك المكان . وكذلك جاء في مختصر صفوة الصفوة : ٢٦٢ .

١٦٢
 &

قائلاً : هَذَا مَوْضِعُ كَرْبٍ وَبَلاءٍ ، انْزِلُوا هاهُنا مُناخُ رِكابِنا ، وَمَحَطُّ رِحالِنا ، وَسَفْكُ دِمائِنا (١) .

وسارع أبو الفضل العبّاس مع الفتية من أهل البيت عليهم‌السلام ، وسائر الأصحاب الممجّدين إلى نصب الخيام لعقائل الوحي ، ومخدّرات النبوّة ، وقد خيّم عليهنّ الرعب ، وأيقنّ بمواجهة الأحداث الرهيبة على صعيد هذه الأرض .

ورفع الإمام الممتحن يديه بالدعاء إلى الله شاكياً إليه ما ألمّ به من عظيم المحن والخطوب قائلاً :

« اللّٰهُمَّ إِنَّا عِتْرَةُ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله قَد أُخْرِجْنا وَأُزعِجْنا وَطُرِدْنا عَنْ حَرَمِ جَدِّنا ، وتَعَدَّتْ بَنُو أُمَيَّةَ عَلَيْنا ، اللَّهُمَّ فَخُذْ لَنا بِحَقِّنا وَانْصُرْنا عَلَى القَوْمِ الظَّالِمِينَ .

وأقبل الإمام على أهل بيته وأصحابه ، فقال لهم : النَّاسُ عَبِيْدُ الدُّنيا وَالدِّينُ لَعِقٌ عَلىٰ أَلْسِنَتِهِمْ يَحُوطُونَهُ ما دَرَّتْ مَعايِشُهُمْ ، فَإِذا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَانُونَ (٢) .

يا لها من كلمات ذهبيّة حكت واقع الناس واتّجاهاتهم في جميع مراحل التاريخ ، فهم عبيد الدنيا وعبيد السلطة ، وأمّا الدين والمُثل العليا فلا ظلّ لها في أعماق نفوسهم ، فإذا دهمتهم عاصفة أو بلاء هربوا من الدين ، ولم يثبت عليه إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان أمثال الصفوة العظيمة من أهل بيت الحسين وأصحابه .

ثمّ حمد الإمام عليه‌السلام الله وأثنى عليه ، والتفت إلى أصحابه قائلاً :

أَمَّا بَعْدُ ، فَقَدْ نَزَلَ بِنَا ما قَدْ تَرَوْنَ ، وَإنَّ الدُّنْيا قَدْ تَغَيَّرَتْ ، وَتَنَكَّرَتْ وَأَدْبَرَ مَعْرُوفُها ،

__________________________

(١) اللهوف : ٤٩ . مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ١ : ٢٣٧ . ينابيع المودة : ٣ : ٦٣ .

(٢) مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ١ : ٢٣٧ . الفتوح : ٥ : ٩٧ .

وضبط أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري في كتابه ( الصناعين ) كلام الإمام الحسين بهذه الصورة : « النَّاسُ عَبِيدُ الدُّنيَا ، وَالدِّينُ لَغْوٌ عَلَىٰ أَلْسِنَتِهِمْ يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ بِهِ مَعَايِشُهُمْ ، فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيانُونَ » .

١٦٣
 &

وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صَبابَةٌ كَصَبابَةِ الْإِناءِ ، وَخَسِيسُ عَيْشٍ كَالْمَرْعَى الْوَبيلِ (١) ، أَلَا تَرَوْنَ إِلى الْحَقِّ لَا يُعْمَلُ بِهِ ، وَإِلَى الْباطِلِ لَا يُتَناهَىٰ عَنْهُ ، لِيَرْغَبَ الْمُؤْمِنُ فِي لِقاءِ اللهِ ، فَإِنِّي لَا أَرَى الْمَوْتَ إِلّا سَعادةً وَالْحَياةَ مَعَ الظّالِمِينَ إِلّا بَرَماً (٢) .

لقد أعلن أبو الأحرار بهذا الخطاب عمّا حلّ به من المحن والبلوى ، وأعلم أهل بيته وأصحابه عن عزمه الجبّار وإرادته الصلبة في مقارعة الباطل ، وإقامة الحقّ الذي آمن به في جميع أدوار حياته .

وقد وجّه إليهم هذا الخطاب ليكونوا على بيّنة من أمرهم ، ويشاركوه في تحمّل المسؤوليّة ، وقد هبّوا جميعاً وهم يسجّلون في تاريخ البشريّة أروع الأمثلة للتضحية والفداء من أجل إقامة دولة الإسلام .

وكان أوّل من تكلّم منهم زهير بن القين ، وهو من أفذاذ الأحرار ، فقال له : سمعنا ـ يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنّا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها (٣) .

ومثّلت هذه الكلمات شرف الإنسان الذي لا يضاهيه شرف ، وقد حكى ما في نفوس أصحابه الأحرار من الولاء لريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتفاني في سبيله .

وانبرى بطل آخر من أصحاب الإمام وهو برير (٤) الذي وهب حياته لله ، فقال له :

__________________________

(١) المرعى الوبيل : هو الطعام الوخيم الذي يخاف وباله ، أي سوء عاقبته . لسان العرب : ١٥ : ٢٠٢ ـ وبل .

(٢) المعجم الكبير / الطبراني : ٣ : ١١٤ ـ ١١٥ ، الحديث ٢٨٤٢ . حلية الأولياء : ٢ : ٣٩ . تاريخ مدينة دمشق : ١٤ : ٢١٧ ـ ٢١٨ . تاريخ الإسلام ـ حوادث ٦١ ـ ٨٠ : ١٢ .

(٣) اللهوف : ٤٨ . بحار الأنوار : ٤٤: ٣٨١ . عوالم العلوم : ١٧ : ٢٣٢ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٥ و ٣٠٦ ، وفيه : « قد سمعنا . . . مخلدين إلّا أنّ فراقها في نصرك ومواساتك لآثرنا . . . » .

(٤) وفي تاج العروس أثبته يزيد بن خضير ، والأصحّ برير ، كما عليه الأكثر . راجع =

١٦٤
 &

« يا بن رسول الله ، لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك ، وتقطّع فيك أعضاؤنا ، ثمّ يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة » (١) .

ولا يوجد في البشريّة مثل هذا الإيمان الخالص ، لقد أيقن أن نصرته لابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فضل ومنّة من الله عليه ليفوز بشفاعة جدّه الأعظم يوم يلقى الله .

وانبرى بطل آخر من أصحاب الإمام ، وهو نافع (٢) فأعلن نفس المصير الذي اختاره الأبطال من أصحابه ، فقال : « أنت تعلم أنّ جدّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقدر أن يشرب الناس محبته ، ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحب ، وقد كان منهم منافقون يعدونه بالنصر ، ويضمرون له الغدر ، يلقونه بأحلىٰ من العسل ويخلفونه بأمرّ من الحنظل ، حتّىٰ قبضه الله إليه ، وإنّ أباك عليّاً كان في مثل ذلك ، فقوم قد أجمعوا علىٰ نصره وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين حتّىٰ أتاه أجله فمضى إلى رحمة الله ورضوانه ، وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة ، فمن نكث عهده ، وخلع بيعته فلن يضرّ إلّا نفسه ، والله مغنٍ عنه ، فسر بنا راشداً معافىً مشرِّقاً إن شئت وإن شئت مغرِّباً ، فوالله ما أشفقنا من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربنا ، وإنّا علىٰ نيّاتنا وبصائرنا نوالي من والاك ونعادي من عاداك » (٣) .

__________________________

= تاج العروس : ٣ : ١٨٣ .

ذكر علماء السير : أنّ الرجل كان شجاعاً تابعيّاً ناسكاً قارئاً للقرآن ، من شيوخ القرّاء ، ومن أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكان من أشراف أهل الكوفة من الهمدانيّين ، وله كتاب القضايا والأحكام يرويه عن أمير المؤمنين وعن الحسن عليهما‌السلام ، وكتابه من الاُصول المعتبرة عند الأصحاب . تنقيح المقال / المامقاني : ١ : ١٦٧ .

(١) اللهوف : ٤٨ . بحار الأنوار : ٤٤: ٣٨١ : ٣٨٣ . عوالم العلوم : ١٧ : ٢٣٢ .

(٢) وهو نافع بن هلال بن نافع بن جمل بن سعد العشيرة المذحجي الجملي . إبصار العين : ١١٤ .

(٣) بحار الأنوار : ٤٤ : ٣٨٢ ـ ٣٨٣ . عوالم العلوم : ١٧ : ٢٣٣ .

١٦٥
 &

دلّ هذا الخطاب الرائع على وعي نافع ، وإدراكه العميق للأحداث ، ودراسته لأبعادها ، فقد أعرب أنّ الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله بما يملك من طاقات روحيّة لم يستطع أن يجمع الناس على محبّته ، ويخضعهم إلى الإيمان برسالته ، فقد كان هناك طائفة من المنافقين انتشروا في صفوف المسلمين ، وهم يضمرون الكفر في دخائل نفوسهم ، ويظهرون الإسلام على ألسنتهم ، وكانوا يبغون للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الغوائل ، ويكيدون له في غلس الليل وفي وضح النهار ، فقد ابتلي بمثل ما ابتلي به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد آمن به قوم وحاربه قوم آخرون ، وحال الإمام الحسين عليه‌السلام كحال أبيه جدّه صلوات الله عليهم ، فقد آمنت به قلّة مؤمنة من أصحابه ، وزحفت لحربه الجموع الهائلة من الذين نزع الله الإيمان من قلوبهم .

وعلى أي حال فقد تكلّم أكثر أصحاب الإمام بمثل كلام نافع ، وهم يعلنون له الإخلاص والتفاني ، وقد شكرهم الإمام ، وأثنى عليهم ، ودعا لهم بالمغفرة والرضوان .

خروج الجيوش لحرب الحسين عليه‌السلام

وتمّت أحلام ابن مرجانة ، وتحقّقت آماله حينما استولت طليعة جيوشه على ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخذ يطيل النظر فيمن ينتدبه لحربه ، ويرشّحه لقيادة قوّاته المسلّحة ، وتصفّح الأرجاس من أذنابه وعملائه ، فلم يرَ رجساً مثل عمر بن سعد يقدم على اقتراف هذه الجريمة ، فقد درس نفسيّته ، ووقف على ميوله واتّجاهاته التي منها الخنوع والمروق من الدين ، وعدم المبالاة بارتكاب الآثام والجرائم ، والتهالك على المادّة ، وغير ذلك من نزعاته الشريرة .

وعرض ابن مرجانة سليل الأدعياء على ابن سعد القيام بحرب سبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فامتنع عن إجابته ، فهدّده بعزله عن ولاية الريّ ، فلم يطق صبراً عنها ، فقد سال لها لعابه ، فأجابه إلى ذلك وزحف إلى كربلاء ومعه أربعة آلاف فارس ،

١٦٦
 &

وهو يعلم أنّه خرج لقتال ذرّيّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين هم خيرة مَن في الأرض ، وانتهى الجيش إلى كربلاء فانضمّ إلى الجيش الرابض هناك بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي .

خطبة ابن زياد

وأمر الطاغية بجمع الناس في رحاب المسجد الأعظم ، فهرعوا كالأغنام خوفاً من ابن مرجانة ، وقد امتلأ الجامع منهم ، فقام خطيباً ، فقال : أيّها الناس ، إنّكم بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبّون ، وهذا أمير المؤمنين يزيد ، قد عرفتموه حَسَن السيرة محمود الطريقة محسناً إلى الرعية ، يعطي العطاء في حقّه ، وقد أمنت السبل علىٰ عهده ، وكذلك كان أبوه معاوية في عصره ، وهذا ابنه يزيد من بعده يكرم العباد ، ويغنيهم بالأموال ويكرمهم ، وقد زادكم في أرزاقكم مائة مائة ، وأمرني أن أُوفرها عليكم ، وأُخرجكم إلى حرب عدوه الحسين فاسمعوا له وأطيعوا (١) .

لقد خاطبهم باللغة التي يفهمونها ويتهالكون عليها ، ويقدّمون أرواحهم بسخاء في سبيلها ، وهي المادّة التي هاموا بحبّها ، وقد أجابوه إلى ما أراد فزجّهم لاقتراف أفظع جريمة في تأريخ البشريّة .

وأسند القيادة في بعض قطعات جيشه إلى كلّ من الحصين بن نمير ، وحجّار بن أبجر ، وشمر بن ذي الجوشن ، وشبث بن ربعي ، وغيرهم ، وقد زحفوا بمن معهم إلى كربلاء لمساعدة ابن سعد .

احتلال الفرات

وقامت العصابة المجرمة التي تحمل شرور أهل الأرض وخبثهم باحتلال الفرات ، ولم تبق شريعة أو منفذ إلّا وقد وضع عليها الحرس ، وقد صدرت إليهم

__________________________

(١) بحار الأنوار : ٤٤ : ٣٨٥ . الفتوح : ٥ : ٨٩ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٨٦ و ٣٨٧ .

١٦٧
 &

الأوامر المشدّدة من قِبل القيادة العامّة بالحذر واليقظة كي لا تصل قطرة من الماء إلى عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين هم من خيرة ما خلق الله .

ويقول المؤرّخون : حيل بين الحسين والماء قبل قتله بثلاثة أيّام (١) ، وكان ذلك من أعظم ما عاناه الإمام من المحن والخطوب ، فكان يسمع صراخ أطفاله وهم ينادون : العطش . . العطش ، وذاب قلب الإمام حناناً ورحمة لذلك المشهد الرهيب ، فقد ذبلت شفاه أطفاله ، وذَوِيَ عودهم ، وجفّ لبن المراضع .

وصوّر أنور الجندي هذا المنظر المفجع بقوله :

وَذِئابُ الشُّرُورِ تَنْعَمُ بِالماءِ

وَأَهْـلُ النَّبيِّ مِنْ غَيْرِ ماءِ

يا لِظُلْمِ الأَقْدَارِ يَظْمَأُ قَلْبُ اللَّيْثِ

وَاللَّيْثُ مُوثَّقُ الأَعْضاءِ

وَصِغارُ الحُسَيْنِ يَبكُونَ فِي الصَّحْراءِ

يا رَبِّ أَيْنَ غَوْثُ القَضاءِ

لقد نزع الله الرحمة من قلوبهم ، فتنكّروا لإنسانيّتهم ، وتنكّروا لجميع القيم والأعراف ، فإنّ جميع الشرائع والمذاهب لا تبيح منع الماء عن النساء والأطفال ، فالناس فيه جميعاً شركاء ، وقد أكّدت ذلك الشريعة الإسلاميّة ، واعتبرته حقّاً طبيعيّاً لكلّ إنسان ، ولكنّ الجيش الأموي لم يحفل بذلك ، فحرم الماء على آل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان بعض الممسوخين يتباهى ويفخر لحرمانهم الحسين من الماء ، فقد انبرى الوغد اللئيم المهاجر بن أوس صوب الإمام رافعاً صوته قائلاً : يا حسين ، ألا ترى الماء يلوح كأنّه بطون الحيّات ، والله لا تذوقه أو تموت دونه .

واشتدّ عمرو بن الحجّاج نحو الحسين ، وهو فرح كأنّما ظفر بمكسب أو مغنم قائلاً : يا حسين ، إنّ هذا الفرات تلغ فيه الكلاب ، وتشرب فيه الحمير والخنازير ،

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ٨٦ و ٨٧ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٨٩ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٦١٣ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٣ . مرآة الزمان في تاريخ الأعيان : ٨٩ .

١٦٨
 &

والله لا تذوق منه جرعة حتىٰ تذوق الحميم في نار جهنم (١) .

وكان هذا الوغد الأثيم ممّن كاتب الإمام الحسين عليه‌السلام بالقدوم إلى الكوفة .

وانبرى جلف آخر من أوغاد أهل الكوفة وهو عبد الله بن الحصين الأزدي فنادى بأعلى صوته لتسمعه مخابرات ابن مرجانة فينال منه جوائزه وهباته ، قائلاً : يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنّه كبد السماء ، والله لا تذوق منه قطر حتّى تموت عطشاً .

فرفع الإمام يديه بالدعاء عليه قائلاً : اللَّهُمَّ اقْتُلْهُ عَطَشَاً ، وَلَا تَغْفِرْ لَهُ أَبَداً (٢) .

لقد تمادى هؤلاء الممسوخون بالشرّ ، وسقطوا في هوّة سحيقة من الجرائم والآثام ما لها من قرار .

سقاية العبّاس عليه‌السلام لأهل البيت عليهم‌السلام

والتاع أبو الفضل أشدّ ما تكون اللوعة ألماً ومحنة حينما رأى أطفال أخيه وأهل بيته وهم يستغيثون من الظمأ القاتل ، فانبرى الشهم النبيل لتحصيل الماء وأخذه بالقوّة ، وقد صحب معه ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً ، وحملوا معهم عشرين قربة ، وهجموا بأجمعهم على نهر الفرات ، وقد تقدّمهم نافع بن هلال المرادي ، وهو من أفذاذ أصحاب الإمام الحسين ، فاستقبله عمرو بن الحجّاج الزبيدي ، وهو من مجرمي حرب كربلاء ، وقد عهد إليه حراسة الفرات ، فقال لنافع : ما جاء بك ؟

ـ جئنا لنشرب الماء الذي حلّأتمونا عنه .

ـ اشرب هنيئاً .

__________________________

(١) أنساب الأشراف : ٣ : ٣٩٠ .

(٢) تاريخ الاُمم والملوك :٤ : ٣١٢ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٣ . الصراط السوي في مناقب آل النبيّ : ٨٦ . وفي أنساب الأشراف : ٣ : ٣٨٩ : « ابن حصن » .

١٦٩
 &

ـ أفأشرب والحسين عطشان ، ومن ترى من أصحابه ؟

ـ لا سبيل إلى سقي هؤلاء ، إنّما وضعنا بهذا المكان لمنعهم عن الماء .

ولم يعن به الأبطال من أصحاب الإمام ، وسخروا من كلامه ، فاقتحموا الفرات ليملأوا قربهم منه ، فثار في وجوههم عمرو بن الحجّاج ومعه مفرزة من جنوده ، والتحم معهم بطل كربلاء أبو الفضل ، ونافع بن هلال ، ودارت بينهم معركة إلّا أنّه لم يقتل فيها أحد من الجانبين ، وعاد أصحاب الإمام بقيادة أبي الفضل ، وقد ملأوا قربهم من الماء .

لقد أروى أبو الفضل عطاشى أهل البيت عليهم‌السلام ، وأنقذهم من الظمأ ، وقد منح منذ ذلك اليوم لقب ( السقّاء ) وهو من أشهر ألقابه ، وأكثرها ذيوعاً بين الناس ، كما أنّه من أحبّ الألقاب وأعزّها عنده (١) .

أمان الشمر للعبّاس عليه‌السلام وإخوته

وبادر الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن إلى سيّده ابن مرجانة ، فأخذ منه أماناً لأبي الفضل وإخوته الممجّدين ، وقد ظنّ أنّه سيخدعهم ويفردهم عن أخيهم أبي الأحرار ، وبذلك يضعف جيش الإمام ، لأنّه يخسر هؤلاء الأبطال الذين هم من أشجع فرسان العرب ، وجاء الخبيث يشتدّ كالكلب وقد وقف أمام جيش الحسين ، وهتف منادياً : أين بنو اُختنا العبّاس وإخوته ؟

وهبّت الفتية كالاُسود ، فقالوا له : ما تريد يا بن ذي الجوشن ؟

فانبرى مستبشراً يبدي لهم الحنان المزيّف قائلاً : لكم الأمان .

وصاحوا به ، وهم يتميّزون من الغيظ ، فقد لذعهم قوله : لعنك الله ، ولعن أمانك ،

__________________________

(١) أنساب الأشراف ٣ : ١٨١ .

١٧٠
 &

أتؤمننا وابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا أمان له (١) .

وولّى الخبيث خائباً ، فقد ظنّ أنّ السادة الأماجد إخوة الإمام من طراز أصحابه الممسوخين الذين باعوا ضمائرهم على ابن مرجانة ووهبوا حياتهم للشيطان ، ولم يعلم أنّ إخوة الحسين عليه‌السلام من أفذاذ الدنيا الذين صاغوا الكرامة الإنسانيّة ، وصنعوا الفخر والمجد للإنسان .

زحف الجيوش لحرب الحسين عليه‌السلام

وزحفت طلائع الشرك والكفر لحرب ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في عصر الخميس لتسع خلون من شهر محرّم ، بعد أن صدرت إليهم الأوامر المشدّدة من ابن مرجانة بتعجيل القتال وحسم الموقف خوفاً من تبلور رأي الجيش وحدوث انقسام في صفوفه ، وكان الإمام محتبياً بسيفه أمام بيته ، إذ خفق برأسه ، فسمعت شقيقته عقيلة بني هاشم السيّدة زينب أصوات الرجال ، وتدافعهم نحو أخيها ، فانبرت إليه فزعة مرعوبه ، فأيقظته ، فرفع الإمام رأسه فرأى اُخته مذهولة ، فقال لها بعزم وثبات : إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله فِي الْمَنامِ ، فَقالَ : إِنَّكَ تَرُوحُ إِلَيْنا .

وذابت نفس العقيلة أسى وحسرات ، وانهارت قواها ، ولم تملك نفسها أن لطمت وجهها ، وراحت تقول : يا ويلتاه .

والتفت أبو الفضل إلى أخيه فقال له : يا أخي أتاك القوم .

وطلب الإمام منه أن يتعرّف على خبرهم قائلاً : ارْكَبْ بِنَفْسِي أَنْتَ يا أَخِي حَتَّىٰ تَلْقاهُم ، وَتَقُولَ لَهُمْ : ما لَكُمْ وَما بَدا لَكُمْ ، وَتَسْأَلَهُمْ عَمّا جاءَ بِهِمْ ؟ (٢) .

__________________________

(١) أنساب الأشراف ٣ : ١٨٤ .

(٢) الإرشاد : ٢ : ٩٠ . روضة الواعظين : ١٨٣ . بحار الأنوار : ٤٤ : ٣٩١ . الفتوح : ٥: ٩٧ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤: ٣١٥ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٤ و ٢٨٥ . البداية والنهاية : ٨ : ١٧٨ .

١٧١
 &

لقد فدى الإمام عليه‌السلام أخاه بنفسه ، وهو ممّا يدلّ على سموّ مكانته ، وعظيم منزلته ، وأنّه قد بلغ قمّة الإيمان ، وأعلى مراتب المتّقين . . وأسرع أبو الفضل نحو الجيش ، ومعه عشرون فارساً من أصحابه ، ومن بينهم زهير بن القين ، وحبيب بن مظاهر ، وسألهم أبو الفضل عن سبب زحفهم ، فقالوا له : جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم النزول على حكمه ، أو نناجزكم (١) .

وقفل العباس إلى أخيه ، فأخبره بمقالتهم ، وراح حبيب بن مظاهر يعظهم ويحذّرهم من عقاب الله قائلاً : « أما والله بئس القوم يقدمون غداً على الله عزّ وجلّ ، وعلىٰ رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد قتلوا ذريته وأهل بيته المتهجدين بالأسحار ، الذاكرين الله كثيراً بالليل والنهار ، وشيعته الأتقياء الأبرار » .

وردّ عليه بوقاحة عَزرَة بن قيس ، فقال له : يا بن مظاهر ، إنّك لتزكّي نفسك !

وانبرى إليه زهير بن القين قائلاً : اتقِ الله يا بن قيس ، ولا تكن من الذين يعينون على الضلال ويقتلون النفس الزكية الطاهرة عترة خيرة الأنبياء (٢) .

فأجابه عزرة : كنت عندنا عثمانياً فما بالك ؟

فردّ عليه زهير بمنطق الشرف والإيمان : « والله ما كتبت إلى الحسين ، ولا أرسلت إليه رسولاً ، ولكن الطريق جمعني وإياه ، فلمّا رأيته ذكرت به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعرفت ما تقدمون من غدركم ونكثكم ، وسبيلكم إلى الدنيا فرأيت أن أنصره ، وأكون في حزبه حفظاً لما ضيّعتم من حق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٣) .

لقد كان كلام زهير حافلاً بالصدق بجميع رحابه ، فقد بيّن أنّه لم يكتب إلى الإمام بالقدوم إلى الكوفة ، لأنّه كان عثماني الهوى ، ولكنّه حينما التقى بالإمام في الطريق

__________________________

(١) أنساب الأشراف : ٣ : ٣٩٢ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٥ . البداية والنهاية : ٨ :١٧٨ .

(٢) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٥ و ٣١٦ . الفتوح : ٥ : ٩٨ .

(٣) أنساب الأشراف : ٣ : ٣٩٢ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٦ .

١٧٢
 &

ووقف على واقع الحال من غدر أهل الكوفة به ، ونكثهم لبيعته انقلب رأساً على عقب ، وصار من أنصار الإمام ، ومن أكثرهم مودّة وحباً له ، لأنّ الإمام من ألصق الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وعلى أي حال ، فقد عرض أبو الفضل مقالة القوم على أخيه ، فقال له : اِرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُؤَخِّرَهُمْ إِلَى الْغَدْوَةِ وَتَدفَعَهُمْ عَنّا الْعَشِيَّةِ لَعلَّنا نُصَلِّي لِرَبِّنا هٰذِهِ اللَّيْلَةَ ، وَنَدْعُوهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّي أُحِبُّ الصَّلَاةَ ، وَتِلَاوَةَ كِتابِهِ وَكَثْرَةَ الدُّعاءِ وَالْإِسْتِغْفارِ (١) .

لقد أراد ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يودّع الحياة الدنيا بأثمن ما فيها ، وهي الصلاة والدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن الكريم ، وأن يواجه الله تعالى وقد تزوّد منها .

ورجع أبو الفضل عليه‌السلام إلى معسكر ابن مرجانة فأخبرهم بمقالة أخيه ، فعرض ابن سعد ذلك على الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن خوفاً من وشايته إذا استجاب لطلب الإمام ، فقد كان شمر المنافس الوحيد لابن سعد على إمارة الجيش ، كما كان عيناً عليه ، كما أراد أن يكون شريكاً له في المسؤوليّة فيما إذا عاتبه ابن زياد على تأخير الحرب .

ولم يبد الشمر أي رأي له في الموضوع ، وإنّما أحاله لابن سعد ليكون هو المسؤول عنه ، وانبرى عمرو بن الحجّاج الزبيدي فأنكر عليهم هذا التردّد والاحجام عن إجابة الإمام قائلاً : سبحان الله ! والله لو كان من الديلم ثمّ سألكم هذه المسألة لكان ينبغي أن تجيبوه (٢) .

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ٩٠ و ٩١ . اللهوف : ٥٤ .

(٢) أنساب الأشراف : ٣ : ٣٩٢ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٦ . المنتظم : ٥ : ٣٣٧ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٥٨ .

١٧٣
 &

ولم يزد ابن الحجّاج على ذلك ، فلم يقل لهم : إنّه ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّهم هم الذين غرّوه وكاتبوه بالقدوم إلى مصرهم ، لم يقل ذلك خوفاً من أن تنقل الاستخبارات العسكريّة إلى ابن زياد ذلك فينال العقاب والحرمان ، وأيّد ابن الأشعث مقالته ، فاستجاب ابن سعد إلى تأجيل الحرب ، وأوعز إلى رجل من أصحابه أن يعلن ذلك ، فدنا من معسكر الإمام ورفع صوته قائلاً : يا شيعة الحسين ابن عليّ ، قد أجّلناكم يومكم هذا إلىٰ غدٍ ، فإن استسلمتم ونزلتم علىٰ حكم الأمير وجّهنا بكم إليه وإن أبيتم ناجزناكم (١) .

واُرجئ القتال إلى صبيحة اليوم العاشر من المحرّم ، وظلّ جيش ابن سعد ينتظرون الغد هل يجيبهم الإمام أو يرفض ما دعوه إليه .

الإمام عليه‌السلام يأذن لأصحابه بمفارقته

وجمع ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أهل بيته وأصحابه في ليلة العاشر من المحرّم ، وعرض عليهم ما يلاقيه من الشهادة ، وطلب منهم أن ينطلقوا في رحاب الأرض ويتركوه وحده ليقلى مصيره المحتوم ، وقد أراد بذلك أن يكونوا على بيّنة من أمرهم فقال عليه‌السلام لهم :

أُثْنِي عَلَى اللهِ أَحْسَنَ الثَّناءِ ، وَأَحْمَدُهُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ، اللَّهُمَّ إنِّي أَحْمَدُكَ عَلَى أَنْ أَكْرَمْتَنا بِالنُّبُوَّةِ وَعَلَّمْتَنا الْقُرْآنَ ، وَفهَّمْتَنا فِي الدِّينِ ، وَجَعَلْتَ لَنا أَسْماعاً وَأَبْصارَاً وَأَفئِدَةً ، وَلَمْ تَجْعَلْنا مِنَ المُشْرِكِينَ .

أَمّا بَعْدُ ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَصْحَابَاً أَوْفَىٰ وَلَا خَيْراً مِن أَصْحابِي ، وَلَا أَهْلَ بَيْتٍ أَبَرَّ وَلَا أَوْصَلَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ، فَجَزَاكُمُ اللهُ جَمِيعَاً عَنِّي خَيْراً ، أَلَا وَإِنِّي لَأَظُنُّ يَومَنَا مِنْ

__________________________

(١) الفتوح : ٥ : ٩٩ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٧ .

١٧٤
 &

هٰؤُلَاءِ الْأَعْدَاءِ غَداً ، وَإِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ جَمِيعَاً ، فَانْطَلِقُوا فِي حِلٍّ لَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنِّي ذِمَامٌ ، وَهٰذَا اللَّيْلُ قَدْ غَشِيَكُمْ فَاتَّخِذِوهُ جَمَلاً ، وَلْيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُم بِيَدِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ، فَجَزَاكُمُ اللهُ جَميعَاً خيراً ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا فِي سَوَادِكُمْ وَمَدائِنِكُمْ حَتَّىٰ يُفَرِّجَ اللهُ ، فَإِنَّ الْقَوْمَ إِنَّما يَطْلُبُونَنَي ، وَلَوْ أَصابُونِي لَهَوْا عَنْ طَلَبِ غَيْرِي (١) .

وتمثّلت روعة الإيمان ، وسرّ الإمامة بهذا الخطاب العظيم الذي كشف جانباً كبيراً عن نفسيّة أبي الأحرار ، فقد تجنّب في هذا الموقف الدقيق الحاسم جميع ألوان المنعطفات ، ووضع أصحابه وأهل بيته أمام الأمر الواقع ، فقد حدّد لهم النتيجة التي لا مفرّ منها وهي القتل والتضحية ، وليس هناك أي شيء آخر من متع الدنيا ، وقد طلب منهم أن يخلّوه وينصرفوا تحت جنح الظلام ، فيتّخذونه ستراً دون كلّ عين ، فلعلّهم يخجلون أن يبتعدوا عنه في وضع النهار ، فقد جعلهم في حلّ

__________________________

(١) المنتظم : ٥ : ٣٣٧ و ٣٣٨ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٥ . الإرشاد : ٢ : ٩١ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٧ .

وروي كلامه بصورة اُخرى ، فقد جاء في تفسير العسكري عليه‌السلام : ١٧٨ ـ ١٧٩ ، أنّه عليه‌السلام قال : أَنْتُمْ فِي حِلٍّ مِنْ بَيْعَتِي ، فَالْحَقُوا بِعَشائِرِكُمْ وَمَوَالِيكُمْ ، وقال لأهل بيته : قَدْ جَعَلْتُكُمْ في حِلٍّ مِنْ مُفارَقَتِي ، فَإِنَّكُم لَا تُطِيقُوهُم ، لِتَضَاعُفِ أَعْدَادِهِمْ وَقُوَاهُمْ وَمَا الْمَقصُودُ غَيْرِي ، فَدَعُونِي وَالْقَوْمَ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعينُنِي وَلَا يُخَلِّينِي مِنْ حُسْنِ نَظَرِهِ كَعَادَتِهِ مَعَ أَسْلَافِنا الطَّيِّبِينَ ، ففارقه جماعة من معسكره .

فقال له أهله : لا نفارقك ويحزننا ما يحزنك ، ويصيبنا ما يصيبك ، وإنّا أقرب ما نكون إلى الله إذا كنّا معك ، فقال لهم : إِنْ كُنْتُمْ وَطَّنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ عَلَىٰ ما وَطَّنْتُ نَفْسِي عَلَيْهِ ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ إِنَّما يَهَبُ الْمَنازِلَ الشَّرِيفَةَ لِعِبادِهِ ؛ لِاحْتِمالِ الْمَكارِهِ ، وَأَنَّ اللهَ كانَ خَصَّنِي مَعَ مَنْ مَضَىٰ مِنْ أَهْليَ الَّذِينَ أَنا آخِرُهُمْ بَقاءً في الدَّنْيا مِنَ الْكَرَاماتِ بِما يُسَهِّلُ عَلَيَّ مَعَها احْتِمالُ الْمَكرُوهاتِ ، فَإِنَّ لَكُمْ شَطْراً مِنْ كَرَامَاتِ اللهِ ، وَاعْلَمُوا أنَّ الدُّنْيا حُلْوَها وَمُرَّها حُلمٌ ، وَالْإِنتِباهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَالْفائِزُ مَنْ فازَ فِيها ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِيها .

١٧٥
 &

من التزاماتهم تجاهه ، وقد عرّفهم أنّه بالذات هو الهدف لتلك الوحوش الكاسرة المتعطّشة إلى سفك دمه ، فإذا ظفروا به فلا إرب لهم في طلب غيره .

جواب أهل البيت عليهم‌السلام

ولم يكد يفرغ الإمام من خطابه حتّى هبّت الصفوة من أهل البيت عليهم‌السلام ، وعيونهم تفيض دموعاً ، وهم يعلنون ولاءهم له ، وتضحيتهم في سبيله ، وقد مثّلهم أبو الفضل العباس عليه‌السلام فخاطب الإمام قائلاً : لِمَ نفعل ذلك ؟! لنبقى بعدك لا أرانا الله ذلك أبداً .

والتفت الإمام إلى السادة من أبناء عمّه من بني عقيل ، فقال لهم : حَسْبُكُمْ مِنَ القَتْلِ بِمُسْلِمٍ ، اذْهَبُوا فَقَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ .

وهبّت فتية آل عقيل كالاُسود تتعالى أصواتهم ، قائلين : إذن ما يقول الناس ؟ وما نقول ؟ إنّا تركنا شيخنا وسيدنا ، وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرمِ معهم بسهم ، ولم نطعن برمح ، ولم نضرب بسيف ولا ندري ما صنعوا ؟ لا واللهِ لا نفعل ، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا نقاتل معك ، حتىٰ نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك (١) .

لقد صمّموا على حماية الإمام العظيم ، والدفاع عن أهدافه ومبادئه ، واختاروا الموت تحت ظلال الأسنّة على الحياة التي لا هدف فيها .

جواب أصحابه عليه‌السلام

أمّا أصحاب الإمام عليه‌السلام فهم أحرار هذه الدنيا ، وقد اندفعوا يعلنون للإمام عليه‌السلام الفداء والتضحية دفاعاً عن المبادئ المقدّسة التي ناضل من أجلها الإمام ، وقد انبرى مسلم بن عوسجة فخاطب الإمام قائلاً : « أنحن نُخلّي عنك ؟! وبماذا نعتذر إلى الله سبحانه في أداء حقّك ، أما واللهِ لا اُفارقك حتىٰ أطعن في صدورهم برمحي ،

__________________________

(١) الإرشاد : ٩١ : ٩٢ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٨ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٥ .

١٧٦
 &

وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لم يكن معي سلاح أُقاتلهم لقذفتهم بالحجارة ، والله لا نخلّيك حتىٰ يعلم الله أن قد حفظنا غيبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . . . » (١) .

لقد عبّرت هذه الكلمات عن عميق إيمانه بريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّه سيذبّ عنه حتّى النفس الأخير من حياته .

وانبرى بطل آخر من أصحاب الإمام ، وهو سعيد بن عبد الله الحنفي ، فخاطب الإمام قائلاً : « والله لا نخلّيك حتىٰ يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيك ، والله لو علمتُ أنّي أُقتل ثمّ أُحيا ثمّ أُحرق ، ثمّ أُذرّ ، يفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقىٰ حمامي دونك ، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا ؟! » (٢) .

وليس في قاموس الوفاء أصدق ، ولا أنبل من هذا الوفاء ، فهو يتمنّى من صميم قلبه أن تجري عليه عمليّة القتل سبعين مرّة ليفدي الإمام عليه‌السلام ، ليحفظ بذلك غيبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكيف لا يستطيب الموت في سبيله وإنّما هو مرّة واحدة ، ثمّ هي الكرامة الأبديّة التي لا انقضاء لها .

وانبرى زهير بن القين فأعلن نفس الاتّجاه الذي أعلنه المجاهدون من إخوانه قائلاً : « والله ، لوددت أنّي قتلت ثمّ نشرت ، ثمّ قتلت حتى أُقتل هكذا ألف مرّة ، وأنّ الله عزّ وجلّ يدفع بذلك القتل عن نفسك ، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك » (٣) .

__________________________

(١) الإرشاد : ٢ : ٩٢ . اللهوف : ٥٦ . أنساب الأشراف : ٣ : ٣٩٣ . تاريخ الاُمم والملوك : : ٤ : ٣١٨ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٥ .

(٢) اللهوف : ٥٦ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٨ . البداية والنهاية : ٨ : ١٧٨ و ١٧٩ .

وفي أنساب الأشراف : ٣ : ٣٩٣ ذكر أنّه تكلم ، ولم يذكر نصّ كلامه .

(٣) الإرشاد : ٢ : ٩٢ . اللهوف : ٥٦ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٨ .

١٧٧
 &

أرأيتم وفاء هؤلاء الأبطال ، فهل تجدون لهم مثيلاً في تأريخ هذه الدنيا ، لقد ارتفعوا إلى مستوى من النبل والشهامة لم يبلغه أي إنسان ، وقد أعطوا بذلك الدروس المشرقة في الدفاع عن الحقّ .

وأعلن بقيّة أصحاب الإمام عليه‌السلام الترحيب بالشهادة في سبيل إمامهم ، فجزاهم خيراً ، وأكّد لهم جميعاً أنّهم سينعمون في الفردوس الأعلى ، ويحشرون مع النبيّين والصدّيقين ، وهتفوا جميعاً : الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك ، وشرّفنا بالقتل معك ، أوَلا ترضى أن نكون معك في درجتك يا بن رسول الله ؟ (١) .

لقد أُترعت نفوس هؤلاء الأبطال بالإيمان العميق ، فتحرّروا من جميع ملاذّ الحياة ولهوها ، واتّجهوا صوب الله ، فرفعوا راية الإسلام عالية خفّاقة في رحاب هذا الكون .

إحياء الليل بالعبادة

وأقبل الإمام عليه‌السلام مع الصفوة الطيّبة المؤمنة من أهل بيته وأصحابه نحو الله يناجونه بقلوبهم وعواطفهم ، وهم يسألونه العفو والغفران ولم يذق أحد منهم طعم الرقاد ، فقد كانوا ما بين راكع وساجد وقارئ للقرآن ، وكان لهم دويّ كدويّ النحل .

وكانوا ينتظرون انبثاق نور الصبح بفارغ الصبر لينالوا الشهادة بين يدي ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأما معسكر ابن زياد فقد باتوا وهم في شوق لطلوع الصبح ليريقوا دماء أهل البيت عليهم‌السلام ليقترّبوا بها إلى سيّدهم ابن مرجانة .

يوم عاشوراء

وليس مثل يوم العاشر من المحرّم في مآسيه وكآبته وكوارثه ، فلم تبق محنة

__________________________

(١) نفس المهموم : ٢٠٨ . مقتل الحسين عليه‌السلام : المقرّم : ٢٦١ .

١٧٨
 &

من محن الدنيا ، ولا فاجعة من فواجع الدهر إلّا جرت على ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا يوم مثل ذلك اليوم الخالد في دنيا الأحزان .

دعاء الإمام عليه‌السلام

وخرج أبو الأحرار من خبائه فرأى البيداء قد ملئت خيلاً ورجالاً ، وقد شهر اُولئك البغاة اللئام سيوفهم لإراقة دمه ، ودماء الصفوة البررة من أهل بيته وأصحابه لينالوا الأجر الزهيد من الارهابي المجرم ابن مرجانة ، ودعا الإمام بمصحف فنشره على رأسه ، ورفع يديه بالدعاء إلى الله قائلاً :

اللّهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ ، وَرَجائِي فِي كُلِّ شِدَّةٍ ، وَأَنْتَ لِي فِي كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِي ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ . كَمْ مِنْ هَمٍّ يَضعُفُ فِيْهِ الفُؤادُ ، وَتَقِلُّ فِيْهِ الْحِيلَةُ ، وَيَخْذُلُ فِيْهِ الصَّدِيقُ ، وَيَشْمَتُ فِيْهِ العَدُوُّ ، أَنْزَلْتُهُ بِكَ وَشَكَوْتُهُ إِلَيْكَ رَغْبَةً مِنِّي إِلَيْكَ عَمَّنْ سِوَاكَ فَفَرَّجْتَهُ وَكَشَفْتَهُ ، فَأَنْتَ وَلِيُّ كُلِّ نِعْمَةٍ وَصاحِبُ كُلِّ حَسَنَةٍ وَمُنْتَهَىٰ كُلِّ رَغْبَةٍ (١) .

لقد أناب الإمام إلى الله تعالى ، وأخلص له ، فهو وليّه ، والملجأ الذي يلجأ إليه في كلّ نائبة نزلت به .

خطبة الإمام عليه‌السلام

ودعا الإمام الحسين عليه‌السلام براحلته فركبها ، واتّجه نحو معسكر ابن سعد ، وهو بتلك الهيبة التي تحكي هيبة جدّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخطب فيهم خطابه التاريخي الذي هو من أبلغ وأروع ما أُثر في الكلام العربي ، وقد نادى بصوت عالٍ يسمعه جلّهم :

« أَيُّها النّاسُ ، اسْمَعُوا قَوْلِي وَلَا تَعْجَلُوا حَتّىٰ أَعِظَكُمْ بِما يَحِقُّ لَكُمْ عَلَيَّ ، وَحَتّىٰ

__________________________

(١) الإرشاد : ٢: ٩٦ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٢١ . تاريخ مدينة دمشق : ١٤ : ٢١٧ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٦ و ٢٨٧ . البداية والنهاية : ٨ : ١٧١ .

١٧٩
 &

أَعْتَذِرَ إِلَيْكُمْ مِنْ مَقْدَمِي عَلَيْكُمْ ، فَإِنْ قَبِلْتُمْ عُذْرِي ، وَصَدَّقْتُمْ قَوْلِي ، وَأَعْطَيتُمُونِيَ النَّصَفَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ كُنْتُمْ بِذَلِكَ أَسْعَدَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَكُمْ عَلَيَّ سَبِيلٌ ، وَإِنْ لَمْ تَقْبَلُوا مِنِّيَ الْعُذْرَ وَلَمْ تُعْطُوا النَّصَفَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ) (١) ، ( إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) (٢) » .

وحمل الأثير هذه الكلمات إلى السيّدات من عقائل النبوّة ، ومخدّرات الرسالة ، فتصارخن بالبكاء ، فبعث إليهنّ أخاه العبّاس وابنه عليّاً ، وقال لهما : « سَكِّتاهُنَّ فَلَعَمْرِي لَيَكْثُرُ بُكاؤُهُنَّ » (٣) .

ولمّا سكتن استرسل في خطابه ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على جدّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى الملائكة والأنبياء ، وقال في ذلك ما لا يحصى ذكره ، ولم يسمع لا قبله ولا بعده أبلغ منه في منطقه .

وكان ممّا قاله : الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ الدُّنْيا فَجَعَلَها دَارَ فَناءٍ وَزَوَالٍ ، مُتَصَرِّفَةً بِأَهْلِها حالاً بَعْدَ حالٍ ، فَالْمَغرُورُ مَنْ غَرَّتْهُ ، وَالشَّقِيُّ مَنْ فَتَنَتْهُ ، فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ هٰذِهِ الدُّنْيا فَإِنَّها تَقْطَعُ رَجَاءَ مَنْ رَكَنَ إِلَيها ، وَتُخيِّبُ طَمَعَ مَن طَمِعَ فِيْها ، وَأَرَاكُمُ قَدْ اجْتَمَعْتُم عَلَىٰ أَمْرٍ قَدِ أَسْخَطْتُمُ اللهَ فِيْهِ عَلَيْكُمْ ، وَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ عَنْكُمْ ، وَأَحَلَّ بِكُمْ نِقْمَتَهُ ، فَنِعْمَ الرَّبُّ رَبُّنا ، وَبِئْسَ الْعَبِيدُ أَنْتُم ، أَقْرَرْتُمْ بِالطَّاعَةِ ، وَآمَنْتُمْ بِالرَّسُولِ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثُمَّ إِنَّكُمْ زَحَفْتُمْ إِلَىٰ ذُرِيَّتِهِ وَعِتْرَتِهِ تُرِيدُونَ قَتْلَهُمْ .

لَقَدْ اسْتَحْوَذَ عَلَيْكُمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساكُمْ ذِكْرَ اللهِ العَظِيمِ ، فَتَبّاً لَكُمْ وَلِمَا تُرِيدُونَ ، إِنّا للهِ

__________________________

(١) يونس عليه‌السلام ١٠ : ٧١ .

(٢) الأعراف ٧ : ١٩٦ .

(٣) تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٢٢ . الإرشاد : ٢ : ٩٧ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٧ .

١٨٠