باقر شريف القرشي
المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المعروف للطباعة والنشر
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-8275-79-7
الصفحات: ٢٣٨
لسيّدهم ابن مرجانة ، رأى أبو الفضل كلّ هذه الشدائد الجسام فلم يجزع وسلّم أمره إلى الله تعالى ، مبتغياً الأجر من عنده .
٥ ـ الوفاء
ومن خصائص أبي الفضل عليهالسلام الوفاء الذي هو من أنبل الصفات وأميزها ، فقد ضرب الرقم القياسي في هذه الصفة الكريمة ، وبلغ أسمى حدّ لها ، وكان من سمات وفائه ما يلي :
الوفاء لدينه عليهالسلام
وكان أبو الفضل العبّاس عليهالسلام من أوفى الناس لدينه ، ومن أشدّهم دفاعاً عنه ، فحينما تعرّض الإسلام للخطر الماحق من قِبل الطغمة الأمويّة الذين تنكّروا أشدّ ما يكون التنكّر للإسلام ، وحاربوه في غلس الليل وفي وضح النهار . فانطلق أبو الفضل إلى ساحات الوغى فجاهد في سبيله جهاد المنيبين والمخلصين لترتفع كلمة الله عالية في الأرض ، وقد قطعت يداه ، وهوى إلى الأرض صريعاً في سبيل مبادئه الدينية .
الوفاء لاُمّته عليهالسلام
رأى سيّدنا العبّاس عليهالسلام الاُمّة الإسلاميّة ترزح تحت كابوس مظلم من الذلّ والعبوديّة ، قد تحكّمت في مصيرها عصابة مجرمة من الأمويّين ، فنهبت ثرواتها ، وتلاعبت في مقدّراتها ، وكان أحد أعمدتهم السياسيّة يعلن بلا حياء ولا خجل قائلاً : « إنّما السواد بستان قريش » ، فأي استهانة بالاُمّة مثل هذه الاستهانة ،
ورأى أبو الفضل عليهالسلام أنّ من الوفاء لاُمّته أن يهبّ
لتحريرها وإنقاذها من واقعها المرير ، فانبرى مع أخيه أبي الأحرار والكوكبة المشرقة من فتيان أهل البيت عليهمالسلام ، ومعهم الأحرار
الممجّدون من أصحابهم ، فرفعوا شعار التحرير ، وأعلنوا الجهاد المقدّس من أجل إنقاذ المسلمين من الذلّ والعبوديّة ، وإعادة الحياة الحرّة الكريمة لها ، حتّى استشهدوا من أجل هذا الهدف السامي ، فأي وفاء للاُمّة يضارع مثل هذا الوفاء ؟
الوفاء لوطنه عليهالسلام
وغمرت الوطن الإسلامي محن شاقّة وعسيرة أيّام الحكم الأموي ، فقد فقدَ استقلاله وكرامته ، وصار بستاناً للأمويّين وسائر القوى الرأسماليّة من القرشيّين وغيرهم من العملاء ، وقد شاع البؤس والحرمان وذلّ فيه المصلحون والأحرار ، ولم يكن فيه أي ظلّ لحريّة الفكر والرأي ، فهبّ العبّاس تحت قيادة أخيه سيّد الشهداء عليهالسلام إلى مقاومة ذلك الحكم الأسود ، وتحطيم أروقته وعروشه ، وقد تمّ ذلك بعد حين بفضل تضحياتهم ، فكان حقّاً هذا هو الوفاء للوطن الإسلامي .
الوفاء لأخيه عليهالسلام
ووفى أبو الفضل عليهالسلام ما عاهد الله عليه من البيعة لأخيه ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، والمنافح الأوّل عن حقوق المظلومين والمضطهدين .
ولم يرَ الناس على امتداد التاريخ وفاءً مثل وفاء أبي الفضل لأخيه الإمام الحسين عليهالسلام ، ومن المقطوع به أنّه ليس في سجلّ الوفاء الإنساني أجمل ولا أنضر من ذلك الوفاء الذي أصبح قطباً جاذباً لكلّ إنسان حرّ شريف .
٦ ـ قوّة الإرادة
أمّا قوّة الإرادة فإنّها من أميز صفات العظماء الخالدين الذين كتب لهم النجاح في أعمالهم ، إذ يستحيل أن يحقّق من كان خائر الإرادة وضعيف الهمّة أي هدف اجتماعي ، أو يقوم بأي عمل سياسي .
لقد كان أبو الفضل عليهالسلام من الطراز الأوّل في قوّة بأسه ، وصلابة إرادته ، فانضمّ إلى معسكر الحقّ ، ولم يهن ولم ينكُل ، وبرز على مسرح التاريخ كأعظم قائد فذّ ، ولو لم يتّصف بهذه الظاهرة لما كتب له الفخر والخلود على امتداد الأيّام .
٧ ـ الرأفة والرحمة
وأترعت نفس أبي الفضل بالرأفة والرحمة على المحرومين والمضطهدين ، وقد تجلّت هذه الظاهرة بأروع صورها في كربلاء حينما احتلّت جيوش الأمويّين حوض الفرات لحرمان أهل البيت عليهمالسلام من الماء حتّى يموتوا أو يستسلموا لهم ، ولمّا رأى العباس عليهالسلام أطفال أخيه ، وسائر الصبية من أبناء إخوته ، وقد ذبلت شفاهم ، وتغيّرت ألوانهم من شدّة الظمأ ذاب قلبه حناناً وعطفاً عليهم ، فاقتحم الفرات ، وحمل الماء إليهم وسقاهم ، وفي اليوم العاشر من المحرّم سمع الأطفال ينادون العطش العطش ، فتفتّت كبده رحمة ورأفة عليهم ، فأخذ القربة ، والتحم مع أعداء الله حتّى كشفهم عن نهر الفرات ، فغرف منه غرفة ليروي ظمأه ، فأبت رحمته أن يشرب قبل أخيه وأطفاله ، فرمى الماء من يده .
فتّشوا في تاريخ الاُمم والشعوب فهل تجدون مثل هذه الرأفة والرحمة ، التي تحلّى بها قمر بني هاشم وفخر عدنان .
هذه بعض عناصر أبي الفضل وصفاته ، وقد ارتقى بها إلى قمّة المجد التي ارتقى إليها أبوه .
ورافق أبو الفضل العبّاس عليهالسلام منذ نعومة أظفاره كثيراً من الأحداث الجسام التي لم تكن ساذجة ، ولا سطحيّة ، وإنّما كانت عميقة أشدّ ما يكون العمق ، فقد أحدثت اضطراباً شاملاً في الحياة الفكريّة والعقائديّة بين المسلمين ، كما استهدفت بصورة دقيقة إبعاد أهل البيت عليهمالسلام عن المراكز السياسيّة في البلاد ، وإخضاعهم لرغبات السلطة ، وما تعمله على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي ، من أعمال لا تتّفق في كثير من بنودها مع التشريع الإسلامي ، وقد تجلّى ذلك بوضوح أيّام حكومة عثمان وما سلكته من التصرّفات في المجالات الإداريّة .
فقد عمدت إلى منح مناصب الدولة ، وسائر الوظائف العامّة إلى بني اُميّة وآل أبي معيط ، وحرمان بني هاشم ومن يتّصل بهم من أبناء الصحابة من أي منصب من المناصب العامّة ، وقد استولى الأمويّون على جميع أجهزة الدولة ، وراحوا يعملون ـ عامدين أو غير عامدين ـ إلى خلق الأزمات الحادّة بين المسلمين .
ومن المقطوع به أنّه لم تكن لأكثرهم أيّة نزعة إسلاميّة ، كما لم تكن لهم أيّة دراية بأحكام القانون الإسلامي ، وما تتطلّب إليه الشريعة الإسلاميّة من إيجاد مجتمع إسلامي متطوّر قائم على المودّة والتعاون ، وبعيد كلّ البعد عن التأخّر .
لقد أشاعت حكومة
عثمان الرأسماليّة في البلاد ، فقد منحت الأمويّين وبعض أبناء القرشيّين الامتيازات الخاصّة ، وفتحت لهم الطريق لكسب الأموال وتكديسها بغير وجه مشروع ، وقد أدّت هذه السياسة الملتوية إلى خلق اضطراب شامل
لا في الحياة الاقتصاديّة فحسب ، وإنّما في جميع مناحي الحياة ، وأشاعت القلق والتذمّر في جميع الأوساط الإسلاميّة .
فاتّجهت قطعات من الجيوش المرابطة في العراق ومصر إلى يثرب ، وطالبت عثمان بالاستقامة في سياسته ، وإبعاد الأمويّين عن جهاز الدولة ، كما طالبوه بصورة خاصّة بإبعاد مستشاره ووزيره مروان بن الحكم الذي كان يعمل بصورة مكشوفة لتأجيج نار الفتنة في البلاد .
ولم يستجب عثمان لمطالب الثوّار ، ولم يخضع لرأي الناصحين له والمشفقين عليه ، وظلّ متمسّكاً باُسرته ، ومحتضناً لبطانته ، تتوافد عليه الأخبار بانحرافهم عن الطريق القويم ، واقترافهم لما حرّمه الله ، فلم يعن بذلك ، وراح يسدّدهم ويلتمس لهم المعاذير ، ويتّهم الناصحين بالعداء لاُسرته .
وبعدما أخفقت جميع الوسائل الهادفة لاستقامة عثمان لم يجد الثوّار بُدّاً من قتله ، فقُتل شرّ قتلة ، ويقول المؤرّخون : إنّه تولّى قتله خيار أبناء الصحابة ، كمحمّد بن أبي بكر ، كما أقرّ قتله كبار الصحابة وعظماؤهم ، وفي طليعتهم الصحابي الجليل صاحب رسول الله صلىاللهعليهوآله وخليله عمّار بن ياسر .
وانتهت بذلك حكومة عثمان ، وهي من أهمّ الأحداث الجسام التي جرت في عصر أبي الفضل عليهالسلام وبمرأى ومسمع منه ، فقد كان في شرخ الشباب وعنفوانه ، وقد رأى كيف تذرّع الانتهازيّون من الأمويّين بمقتل عثمان فطبّلوا له ، ورفعوا قميصه الملطّخ بدمائه فجعلوه شعاراً لتمرّدهم على حكم الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام ، ذلك الحكم القائم على الحقّ والعدل .
إنّ أسوأ ما تركت
حكومة عثمان أنّها ألقت الفتنة بين المسلمين ، وحصرت الثروة عند الأمويّين وآل أبي معيط ، وعملائهم من القرشيّين الحاقدين على العدل الاجتماعي ، وبذلك استطاعوا القيام بعصيان مسلّح ضدّ حكومة الإمام أمير
المؤمنين عليهالسلام التي كانت امتداداً ذاتيّاً لحكومة الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله .
وعلى أي حال ، فلنترك حديث عثمان ، ونتوجّه إلى ذكر بقيّة الأحداث التي جرت في عصر أبي الفضل عليهالسلام .
حكومة الإمام عليّ عليهالسلام
والشيء المؤكّد الذي لا خلاف فيه أنّ الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام قد انتخب انتخاباً شاملاً من جميع قطعات الشعب ، فقد سارعت القوّات المسلّحة التي أطاحت بحكومة عثمان إلى مبايعته ، كما بايعته الجماهير العامّة في مختلف الأقاليم الإسلاميّة سوى الشام ، ونفر قليل في يثرب كان من بينهم سعد بن أبي وقّاص ، وعبد الله بن عمر ، وبعض الأمويّين الذين أيقنوا أنّ الإمام عليهالسلام يبسط العدالة الاجتماعيّة في الأرض ، ويحقّق المساواة الكاملة بين المسلمين ، فلا امتياز لأحد على أحد ، وبذلك تفوت مصالحهم ، فلم يبايعوه .
ولم يقف الإمام عليهالسلام معهم موقفاً معادياً ، فلم يوعز إلى السلطات القضائيّة والتنفيذيّة باتّخاذ الإجراءات الحاسمة ضدّهم ، وذلك عملاً بما منحه الإسلام من الحرّيات العامّة لجميع الناس ، سواء كانوا من المؤيّدين للدولة أو المعارضين لها بشرط أن لا يحدثوا فساداً في الأرض ، أو يقوموا بعصيان مسلّح ضدّ الدولة فإنّها تكون مضطرّة إلى اتّخاذ الإجراءات القانونيّة ضدّهم .
وعلى أيّ حال ، فقد بويع الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام بيعة عامّة عن رضى واختيار من جميع أبناء الشعوب الإسلاميّة ، وأظهروا في بيعته جميع مباهج الفرح والسرور ، ولم يظفر بمثل هذه البيعة أحد من الخلفاء الذين سبقوه أو تأخّروا عنه .
وفور تقلّد الإمام عليهالسلام للخلافة تبنّى بصورة إيجابيّة وشاملة العدل الخالص ، والحقّ المحض ، وتنكّر لكلّ مصلحة شخصيّة تعود بالنفع عليه أو على ذويه ، وقدّم مصالح
الفقراء والمحرومين على جميع المصالح الاُخرى .
يقول عليهالسلام : أَيُّها النّاسُ ، إِنِّي رَجُلٌ مِنْكُمْ ، لي ما لَكُمْ ، وَعَلَيَّ ما عَلَيْكُمْ ، وَإِنِّي حامِلُكُمْ عَلَى مَنْهَجِ نَبِيِّكُمْ ، وَمُنَفِّذٌ فِيكُمْ ما أَمَرَ بِهِ ، أَلَا وَإِنَّ كُلَّ قَطِيعَةٍ أَقْطَعَها عُثْمانُ ، وكُلَّ مالٍ أَعْطاهُ مِنْ مالِ اللهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ في بَيْتِ الْمالِ ، فَإِنَّ الْحَقَّ لَا يُبْطِلُهُ شَيْءٌ ، وَلَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّساءُ ، وَمُلِكَ بِهِ الْإِماءُ ، وَفُرِّقَ في البُلْدانِ لَرَدَدْتُهُ ؛ فَإِنَّ في الْعَدْلِ سَعَةً ، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ .
كانت سعادته عليهالسلام أن يرى الأوساط الشعبيّة تنعم بالخير والسعادة ، ولا مكان للحاجة والاعواز عندها ، ولم يعرف في تاريخ هذا الشرق حاكم مثله في عطفه وحنانه على البؤساء والمحرومين .
ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة للحديث عن بعض شؤون الحكم عند الإمام عليهالسلام ، فإن ذلك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسيرة ولده أبي الفضل عليهالسلام فإنّه يكشف عن روعة التربية الكريمة التي تربّى عليها في عهد أبيه رائد العدالة الاجتماعيّة في الأرض ، والتي تركت في نفسه حبّ التضحية والفداء في سبيل الله ، كما يكشف عن الأسباب الوثيقة التي دعت القوى الطامعة والمنحرفة إلى الوقوف في وجه حكومة الإمام عليهالسلام ، ومناهضتهم لأبنائه من بعده ، وفيما يلي ذلك :
منهج حكم الإمام عليهالسلام
أمّا منهج الحكم وفلسفته عند الإمام عليهالسلام فقد كان مشرقاً وحافلاً بمقوّمات الارتقاء والنهوض للشعوب الإسلاميّة ، وفيما أعتقد أنّه لم تعرف الإنسانيّة في جميع أدوارها نظاماً سياسيّاً تبنّى العدل السياسي والاقتصادي والاجتماعي مثل ما تبّناه الإمام عليهالسلام ، وما سنّه من المناهج الرائعة في هذه الحقول ، ونشير إلى بعضها :
أوّلاً : بسط الحريّات
وآمن الإمام عليهالسلام بضرورة منح الحريّات العامّة لجميع أبناء الاُمّة ، وأنّ ذلك من أولويّات حقوقها ، والدولة مسؤولة عن توفيرها لكلّ فرد من أبناء الشعب ، وأنّ حرمانهم منها يخلق في نفوسهم العقد النفسيّة ، ويمنع من التقدّم الفكري ، والتطوّر الاجتماعي عند أبنائها ، ويخلد لهم الخنوع والخمول ، ويعود عليهم بالأضرار البالغة ، أمّا مدى هذه الحرّية وسعتها فهي :
١ ـ الحريّة الدينيّة
يرى الإمام عليهالسلام أنّ الناس أحرار فيما يعتقدون وما يذهبون إليه من أفكار دينيّة ، وليس للدولة أن تحول بينهم وبين عقائدهم ، كما أنّه ليس لها أن تحول بينهم وبين طقوسهم الدينيّة ، وأنّهم غير ملزمين بمسايرة المسلمين في الأحوال الشخصيّة ، وإنّما يتّبعون ما قنّن من تشريع عند فقائهم .
٢ ـ الحريّة السياسيّة
ونعني بها منح الناس الحريّة التامّة في اعتناق المذاهب السياسيّة التي تتّفق مع رغباتهم وميولهم ، وليس للدولة أن تفرض عليهم رأياً سياسيّاً مخالفاً لما يذهبون إليه ، كما أنّه ليس لها أن تفرض عليهم الاقلاع عن آرائهم السياسيّة الخاصّة ، وإنّما عليها أن تقيم لهم الأدلّة والحجج الحاسمة على فساد ذلك المذهب وعدم صحّته ، فإن رجعوا إلى الرشاد فذاك ، وإلّا فتتركهم وشأنهم ما لم يحدثوا فساداً في الأرض ، أو يخلّوا بالأمن العامّ ، كما وقع ذلك من الخوارج الذين فقدوا جميع المقوّمات الفكريّة والركائز العلميّة ، وراحوا يتمادون في جهلهم وغيّهم ويعرّضون الناس للقتل والارهاب ، فاضطرّ الإمام عليهالسلام إلى مقاومتهم بعد أن اُعذر فيهم .
ومن الجدير بالذكر إنّ
ممّا يتفرّع على الحريّة السياسيّة حريّة النقد لرئيس الدولة
وجميع أعضائها ، فالناس أحرار فيما يتولّون ، وينقدون ، وقد كان الخوراج يقطعون على الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام خطابه ، ويخدشون عواطفه بنقدهم الذي لم يكن واقعيّاً ، وإنّما كان مبنيّاً على الجهل والمغالطة ، فلم يتّخذ الإمام أي إجراء ضدّهم ، ولم يسقهم إلى المحاكم والقضاء لينالوا جزاءهم ، وبذلك فقد عهد الامام إلى نشر الوعي العامّ ، وبناء الشخصيّة المزدهرة للإنسان المسلم .
هذه بعض صور الحريّة التي طبّقت أيّام حكم الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام ، وهي تمثّل مدى أصالة منهجه السياسي الذي يساير التطوّر والابداع .
ثانياً : نشر الوعي الديني
واهتمّ الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام بصورة إيجابيّة بنشر الوعي الديني ، وإشاعة المُثل الإسلاميّة بين المسلمين ، باعتبارها الركيزة الاُولى لإصلاح المجتمع وتهذيبه .
إنّ من اُولى معطيات الوعي الديني إقصاء الجريمة ، ونفي الشذوذ والانحراف عن المجتمع ، وإذا لم يتلوّث بذلك ، فقد بلغ غاية الازدهار والتقدّم .
ومن المقطوع به أنّا لم نجد أحداً من خلفاء المسلمين وملوكهم قد عنى بالتربية الدينيّة كما عني الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام ، فقد حفل نهج البلاغة بالكثير من خطبه التي تهزّ أعماق النفوس ، وتدفعها إلى سلوك المناهج الخيّرة ، واعتناق الفضائل ، وإبعادها عن اقتراف الجرائم ، وقد أثمرت خطبه في إيجاد طبقة من خيار المسلمين وصلحائهم ، قاوموا الانهيار الأخلاقي ، وناهضوا التفسّخ والتحلّل الذي شاع أيّام حكم الأمويّين ، وكان من بين هؤلاء رشيد الهجري ، وميثم التمّار ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وغيرهم من بناة الفكر الإسلامي .
ثالثاً : نشر الوعي السياسي
أمّا نشر الوعي
السياسي في أوساط المجتمع الإسلامي فهو من أهمّ الأهداف
السياسيّة التي تبنّاها الإمام عليهالسلام في أيّام حكومته .
ونعني بالوعي السياسي هو تغذية المجتمع وإفهامه بجميع الطرق والوسائل بالمسؤوليّة أمام الله تعالى ، على مراقبة الأوضاع العامّة في الدولة ، وغيرها من سائر الشؤون الاجتماعيّة للمسلمين ، حتّى لا يقع أي تمزّق في صفوفهم ، أو أي تأخّر أو ضعف في حياتهم الفرديّة والاجتماعيّة ، وقد ألزم الإسلام بذلك . قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « كُلُّكُمْ راعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ » (١) .
ألقى النبيّ صلىاللهعليهوآله المسؤوليّة على جميع المسلمين في رعاية شؤونهم ، والعمل على حفظ مصالحهم ، ودرء الفساد عنهم .
ومن بين الأحداث المهمّة الداعية إلى مقاومة أئمّة الظلم والجور هذا الحديث النبوي الذي ألقاه أبو الأحرار على جلاوزة ابن مرجانة وعبيدة ، قال :
« أَیُّها النّاسُ ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلىاللهعليهوآله قالَ : مَنْ رَأىٰ سُلْطاناً جائِراً مُسْتَحِلّاً لِحُرمِ اللهِ ، ناکِثاً لِعَهْدِ اللهِ ، مُخالِفاً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلىاللهعليهوآله ، یَعمَلُ فِي عِبادِ اللهِ بِالْإِثمِ وَالْعُدوَانِ ، فَلَم یُغَیِّرْ عَلَیهِ بِفِعْلٍ ، وَلَا قَوْلٍ کانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أَنْ یُدْخِلَهُ مَدْخَلَهُ . . » (٢) .
وكان هذا الحديث الشريف من المحفّزات لسيّد الشهداء عليهالسلام على إعلان الجهاد المقدّس ضدّ الحكم الأموي الجائر الذي استحلّ ما حرّم الله ، ونكث عهده ، وخالف سنّة رسوله صلىاللهعليهوآله ، وعمل في عباد الله بالإثم والعدوان .
إنّ الوعي السياسي الذي أشاعه الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام بين المسلمين أيّام حكمه قد خلق شعوراً ثوريّاً ضدّ الظالمين والمستبدّين ، فقد انبرى المجاهدون
__________________________
(١) الجامع الصغير بشرح السيوطي : ٢ : ١٥٨ . صحيح البخاري : ١ : ٢١٥ ، باب الجمعة في القرى والمدن .
(٢) بحار الأنوار : ٤٤ : ٣٨٢ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٠٤ . الكامل في التاريخ : ٤ : ٤٨ .
الأبطال ممّن غذّاهم الإمام بهذه الروح إلى مقارعة الطغاة ، وكان على رأسهم أبو الأحرار سيّد الشهداء ، وأخوه البطل الفذّ أبو الفضل العبّاس عليهالسلام ، والكوكبة المشرقة من شباب أهل البيت عليهمالسلام وأصحابهم المجاهدين .
فقد هبّوا جميعاً في وجه الطاغية يزيد لتحرير المسلمين من الذلّ والعبوديّة ، وإعادة الحياة الحرّة الكريمة بين المسلمين .
وقد سبق هؤلاء العظماء المصلح الكبير حجر بن عدي الكندي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، ورُشيد الهجري ، وميثم التمّار ، وغيرهم من أعلام الحريّة ودعاة الاصلاح الاجتماعي ، فقد ثاروا بوجه الطاغية معاوية بن أبي سفيان ممثّل القوى الجاهليّة ، ورأس العناصر المعادية للإسلام .
وعلى أي حال ، فقد غرس الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام روح الثورة على الظلم والطغيان في نفوس المسلمين ، وأهاب بهم أن لا يقارّوا على كظّة ظالم أو سغب مظلوم .
رابعاً : إلغاء المحسوبيّات
وكان ممّا عني به الإمام عليهالسلام في أيّام حكومته إلغاء المحسوبيّات إلغاءً مطلقاً ، فالقريب والبعيد عنده سواء ، فليس للقريب امتياز خاصّ ، وإنّما شأنه شأن غيره في جميع الحقوق والواجبات ، كما سوّى بصورة موضوعيّة بين العرب والموالي ممّا جعل الموالي يدينون له بالولاء ، ويؤمنون بإمامته .
لقد ألغى الإمام جميع
صنوف المحسوبيّات ، وصور العنصريّات ، وساوى بين المسلمين على اختلاف قوميّاتهم مساواة عادلة لم يعهد لها نظير في تاريخ الاُمم والشعوب ، فقد حملت مساواته روح الإسلام وجوهره وحقيقته النازلة من ربّ العالمين ، فهي التي تجمع ولا تفرّق ، ولا تجعل في صفوف المسلمين أي ثغرة
يسلك فيها أعداء الإسلام لتشتيت شملهم ، وتصديع وحدتهم .
قال عليهالسلام : « الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّىٰ آخُذَ الْحَقَّ لَهُ ، وَالْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّىٰ آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ . رَضِينا عَنِ اللهِ قَضاءَهُ ، وَسَلَّمْنا لِلَّهِ أَمْرَهُ . . . » .
خامساً : القضاء على الفقر
أمّا فلسفة الإمام عليهالسلام في الحكم فتبتني على محاربة الفقر ولزوم إقصاء شبحه البغيض عن الناس ، لأنّه كارثة مدمّرة للمواهب والأخلاق ، ولا يمكّن الاُمّة أن تحقّق أي هدف من أهدافها الثقافيّة والصحيّة وهي فقيرة بائسة .
إنّ الفقير يقف سدّاً حائلاً بين الاُمّة وبين ما تصبو إليه من التطوّر والتقدّم والرخاء بين أبنائها .
قال عليهالسلام : « وَانْظُرْ إِلَىٰ ما اجْتَمَعَ عِنْدَكَ مِنْ مالِ اللهِ فَاصْرِفْهُ إِلَىٰ مَنْ قِبَلَكَ مِنْ ذَوِي الْعِيالِ وَالْمَجاعَةِ ، مُصِيباً بِهِ مَواضِعَ الْفاقَةِ والْخَلَّاتِ وَما فَضَلَ عَنْ ذٰلِكَ فَاحْمِلْهُ إِلَيْنا لِنَقْسِمَهُ فِيمَنْ قِبَلَنا » (١) .
ومن الجدير بالذكر أنّ من بين المخطّطات التي تزيل شبح الفقر ، وتوجب نشر الرخاء بين الناس ، والتي عني بها الإسلام بصورة موضوعيّة هي :
١ ـ توفير المسكن .
٢ ـ إقامة الضمان الاجتماعي .
٣ ـ توفير العمل .
٤ ـ سدّ أبواب المرابين .
٥ ـ القضاء على الاحتكار .
__________________________
(١) نهج البلاغة : ٢ : ١٢٨ ، كتابه عليهالسلام لابن عبّاس وهو عامله على مكّة .
هذه بعض الوسائل التي عني بها الإسلام في اقتصاده ، وقد تبنّاها الإمام عليهالسلام في أيّام حكومته ، وقد ناهضتها القوى الرأسماليّة القرشيّة ، ودفعت بجميع إمكانيّاتها للإجهاز على حكم الإمام ، الذي قضى على مصالحهم الضيّقة .
وبهذا نطوي الحديث عن منهج الإمام وفلسفته في الحكم .
القوى المعارضة للإمام عليهالسلام
ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة للتعرّف على القوى المعارضة لحكومة الإمام ، التي لم تكن لها أيّة أهداف نبيلة ، وإنّما كانت تبغي الاستيلاء على الحكم للظفر بخيرات البلاد ، والتحكّم في رقاب المسلمين بغير حقّ ، وفيما يلي ذلك :
السيّدة عائشة
وانطوت نفس السيّدة عائشة ـ مع الأسف ـ على بغض عارم وكراهية شديدة للإمام أمير المؤمنين عليهالسلام ، ولعلّ السبب في ذلك ـ فيما نحسب ـ يعود إلى ميل زوجها النبيّ صلىاللهعليهوآله إلى الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام وإلى بضعته وحبيبته سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، وإلى سبطيه وريحانتيه سيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين عليهماالسلام ، وإشادته دوماً بفضلهم ، وسموّ منزلتهم عند الله ، وفرض مودّتهم على عموم المسلمين ، كما أعلن الذكر الحكيم ذلك ، قال تعالى : ( قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (١) .
وفي نفس الوقت كانت عائشة تعامل معاملة عادية ، وفي كثير من الأحيان كان النبيّ صلىاللهعليهوآله يشير إلى أفعالها ، فقد قال صلىاللهعليهوآله لنسائه : أَيَّتُكُنَّ تَنْبَحُها كِلابُ الْحَوْأَبِ فَتَكونَ ناكِبَةً عَنِ الصِّراطِ .
__________________________
(١) الشورى ٤٢ : ٢٣ .
وقال صلىاللهعليهوآله : مِنْ ها هُنا يَتَوَلَّدُ الشَّرُّ وأشار إلى بيتها ، وغير ذلك ممّا أثار عواطفها .
وثمّة سبب في كراهية عائشة للإمام ، وهو موقفه الصارم الذي وقفه تجاه بيعة أبيها أبي بكر ، ومقاطعته لانتخابه ، وشجبه لبيعته وبعد سقوط حكومة عثمان كانت تروم إرجاع الخلافة إلى قبيلتها تيم لتكون سياسة الدولة بجميع أجهزتها خاضعة لرغباتها وميولها ، وهي على يقين أنّ الخلافة إذا رجعت للإمام عليهالسلام فإنّها سوف تعامل كغيرها من عامة النّاس ، ولا تحظى بأية ميزة ، فإنّ جميع الشؤون السياسيّة والاقتصاديّة عند الإمام عليهالسلام لا بدّ أن تسير على وفق الكتاب والسنّة ، ولا مجال عنده للأهواء والعواطف ، وكانت عائشة تعرف ذلك جيّداً ، ولذا أعلنت العصيان والتمرّد على حكومته ، وقد انضمّ إليها كلّ من الزبير وطلحة والأمويّين وذوي الأطماع والمنحرفين عن الحقّ من القبائل القرشيّة الذين ناهضوا الدعوة الإسلاميّة من حين بزوغ نورها .
وعلى أي حال ، فقد كانت عائشة من أوثق الأسباب في الاطاحة بحكومة عثمان ، وقد أفتت بوجوب قتله ، ولمّا أيقنت بهلاكه خرجت إلى مكّة وهي تتطلّع إلى الأخبار ، فلمّا وافاها النبأ بقتله أعلنت فرحتها الكبرى ، ولكنّها لمّا فوجئت بالبيعة للإمام عليهالسلام انقلب وضعها رأساً على عقب ، وراحت تقول بحرارة : « قتل عثمان مظلوماً ، لأطلبنّ بدمه . . . » .
وأخذت تندب عثمان رياءً لا حقيقة ، وقد رفعت قميصه الملطّخ بدمه ، وجعلته شعاراً لتمرّدها على السلطة الشرعيّة التي أعلنت حقوق الإنسان ، وتبنّتْ مصالح المحرومين والمضطهدين ، والتي كانت امتداداً لحكومة الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله .
وعقدت عائشة في مكّة
الندوات مع أعضاء حزبها البارزين ، كطلحة والزبير ، وسائر الأمويّين ، وأخذت تتداول معهم الآراء أيّ بلد يغزونه ليشكّلوا فيه حكومة لهم ، وبعد التأمّل والنظر الدقيق في أحوال المناطق الإسلاميّة أجمع رأيهم على
احتلال البصرة لأنّ لهم بها شيعة وأنصاراً ، وأعلنوا بعد ذلك العصيان المسلّح وزحفوا نحو البصرة ، وقد التحق بهم بهائم البشر ، وحثالات الشعوب من الذين ليس لهم فكر ولا وعي ، وساروا لا يلوون على شيء حتّى انتهوا إلى البصرة ، وبعد مقاومة عنيفة بينهم وبين الحكومة المركزيّة فيها استطاعوا احتلالها ، وألقوا القبض على حاكمها عثمان بن حنيف وجيء به مخفوراً إلى عائشة ، فأمرت بنتف لحيته ، فنتفتها جلاوزتها وعاد ابن حنيف بعد لحيته العريضة شابّاً أمرداً .
ولمّا وافت الأنباء الامام أمير المؤمنين عليهالسلام بتمرّد عائشة ، واحتلالها لمدينة البصرة ، سارع بجيوشه للقضاء على هذا الجيب المتمرّد ، خوفاً من أن تسري نار الفتنة إلى بقيّة الأمصار الإسلاميّة ، وقد ضمّ جيشه القوى الواعية في الإسلام أمثال الصحابي العظيم عمّار بن ياسر ، ومالك الأشتر ، وحجر بن عدي ، وابن التيهان ، وغيرهم ممّن ساهموا في بناء الإسلام ، وإقامة ركائزه في الأرض .
وسارت جيوش الإمام حتّى انتهت إلى البصرة فوجدوها محتلّة بجنود مكثّفة ، وهم يعلنون الطاعة والولاء لاُمّهم عائشة ، فأرسل الإمام رسله إلى أعضاء القيادة العسكريّة في جيش عائشة ، كطلحة والزبير ، فعرضوا عليهم السلم والدخول في مفاوضات بينهم وبين الإمام حقناً لدماء المسلمين ، فأبوا وأصرّوا على التمرّد والعصيان مطالبين بوقاحة بدم عثمان ، وهم الذين أطاحوا بحكومته وأجهزوا عليه .
ولمّا نفدت جميع الوسائل التي اتّخذها الإمام عليهالسلام للسلم اضطّر إلى إعلان الحرب عليهم ، وجرت بين الفريقين معركة رهيبة سقط فيها أكثر من عشرة آلاف مقاتل ، وأخيراً نصر الله الإمام على أعدائه ، فقد قُتل طلحة والزبير والكثيرون من أنصارهم ، وملئت ساحة المعركة بجثث قتلاهم ، وقذف الله الرعب في قلوب الأحياء منهم ، فولّوا منهزمين قابعين بالذلّ والعار .
واستولى جيش الإمام
على عائشة القائدة العامّة للمتمرّدين ، وحملت بحفاوة
إلى بعض بيوت البصرة ، ولم يتّخذ الإمام معها الاجراءات الصارمة ، وعاملها معاملة المحسن الكريم ، وسارع الإمام فسرّحها تسريحاً جميلاً إلى يثرب ، لتقرّ في بيتها الذي أمرها الله ورسوله أن تسكن فيه ، ولا تتدخّل بمثل هذه الاُمور التي ليست هي مسؤولة عنها .
وانتهت هذه الفتنة التي أسماها المؤرّخون ( بحرب الجمل ) ، وقد أشاعت في ربوع المسلمين الثكل والحزن والحِداد ، ومزّقت صفوفهم ، وألقتهم في شرّ عظيم .
ومن المؤكّد أنّ دوافع هذه الحرب لم تكن سليمة ، ولم تكن حجّة عائشة وحزبها منطقيّة ، وإنّما كانت من أجل المطامع والكراهية الشديدة لحكم الإمام الذي فقدوا في ظلاله جميع الامتيازات الخاصّة ، وعاملهم الإمام كما يعامل سائر المسلمين .
لقد شاهد أبو الفضل العبّاس عليهالسلام هذه الحرب الدامية ، ووقف على أهدافها الرامية للقضاء على حكم أبيه رائد العدالة الاجتماعيّة في الأرض ، وقد استبان له أحقاد القبائل القرشيّة له ، واستبان له أنّ الدين لم ينفذ إلى أعماق قلوبهم ، وإنّما كانوا يلوكونه بألسنتهم حفظاً لدمائهم ومصالحهم .
معاوية وبنو اُميّة
وفي طليعة القوى المعارضة لحكومة الإمام والمعادية له ، معاوية بن أبي سفيان ، وبنو اُميّة ، فقد نزع الله الإيمان من قلوبهم ، وأركسهم في الفتنة ركساً ، فكانوا من ألدّ أعداء الإمام ، كما كانوا من قبل من أعداء لرسول الله صلىاللهعليهوآله ، فهم الذين ناهضوا دعوته ، وكفروا برسالته ، وكادوا له في غلس الليل وفي وضح النهار ، حتّى أعزّه الله وأذلّهم ، ونصره وقهرهم ، وقد دخلوا في الإسلام مكرهين لا مؤمنين به ، ولولا سماحة خلق النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وعظيم رأفته ورحمته ، لما أبقى لهم ظلّاً على الأرض ، إلّا أنّه صلىاللهعليهوآله منحهم العفو كما منح غيرهم من أعدائه .
ولم يكن للأمويّين أي
شأن يذكر أيّام النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فقد قبعوا بالذلّ والهوان ينظر
إليهم المسلمون بنظرة العداء والخصوم ، ويذكرون ما قاموا به في محاربة دينهم ، والتنكيل بنبيّهم .
ومن المؤسف أنّه لمّا فجع المسلمون بفقد نبيّهم صلىاللهعليهوآله وآل الأمر إلى الخلفاء علا نجم الأمويّين ، وذلك لأسباب سياسيّة خاصّة ، فقد عيّن أبو بكر يزيد بن أبي سفيان والياً على دمشق ، وخرج بنفسه لتوديعه إلى خارج يثرب تعظيماً له ، وإشادة بمكانة اُسرته ، ولم يفعل مثل ذلك مع بقيّة عمّاله وولاته كما يقول المؤرّخون .
ولمّا هلك يزيد اُسندت ولاية دمشق إلى أخيه معاوية ، وكان أثيراً عند عمر تتوافد عليه الأخبار بأنّه يشذّ في سلوكه ، وينحرف في تصرّفاته عن سنن الشرع وأحكام الإسلام ، فقد أخبروه بأنّه يلبس الحرير والديباج ، ويأكل في أواني الذهب والفضّة ، وكلّ ذلك محرّم في الإسلام ، فيقول معتذراً عنه ، ومسدّداً له : « ذاك كسرى العرب » ، ومتى كان ابن هند الصعلوك النذل كسرى العرب !!
ولو فرضنا أنّه كان كذلك ، فهل يباح له في شريعة الله أن يقترف الحرام ولا يُحاسب عليه ، إنّ الله تعالى ليست بينه وبين أحد نسب ولا قرابة ، فكلّ من شذّ عن سنّته ، وخالف أحكامه فإنّه يعاقبه على ذلك . يقول الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله : « لَوْ عَصَيْتُ لَهَوَيْتُ » .
ويقول الإمام زين العابدين عليهالسلام : « خُلِقَتِ الْجَنَّةُ لِمَنْ أَطاعَ اللهَ ، وَلَوْ كانَ عَبْداً حَبَشِيّاً ، وَخُلِقَتِ النّارُ لِمَنْ عَصاهُ وَلَوْ كانَ حُرّاً قُرَشِيّاً ، وَقالَ صلىاللهعليهوآله : ائْتوني بِأَعْمالِكُمْ لَا بِأَنْسابِكُمْ » (١) .
وعلى أيّ حال ، فإنّ عمر قد أغدق ألطافه ونعمه على معاوية ، وزاد في رقعة سلطانه ، ونفخ فيه روح الطموح ، وقد ظلّ يعمل في ولايته على الشام عمل من يريد الملك والسلطان ، فكان يقرّب الوجوه والزعماء ، ويغدق عليهم بالهبات
__________________________
(١) روضات الجنّات : ٣ : ٢٩ .