مثلَ سُخْرِيَّتِكُم إذا وقَعَ عليكم الغَرْقُ في الدُّنيا والحَرْقُ في الآخرةِ ، أَي نُعامِلُكُم معاملَةَ من يَفْعَل ذلكَ ؛ لأَنَّ حقيقةَ السُّخْرِيَّةِ لا تليقُ بمنصبِ النُّبوَّةِ ، أَو نَسْتَجْهِلُكُم في استِجْهَالِكُم إيَّانَا ؛ وإطلاقُ السّخرِيَّةِ عليه للمُشَاكَلَةِ كما في قولِهِ تعالَى : ( فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ ) (١) ، فسَمَّى العُقُوبَةَ سُخْرِيَّةً.
( فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا ) (٢) هُزُؤاً تَسْخَرُون منهم ، أو سُخْرَةً تستَعْبِدُونَهُمْ وتَصرفُونَهُم في أعمالِكم وأغراضكم قَهْراً.
( أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ ) (٣) يَقُولُونَ لمَّا لم يَرَوْهُم في النَّارِ : أَتّخَذَنَاهُمْ هُزؤاً في الدُّنيا فأَخطَأْنا ، أَم زاغَتْ عنهُم أَبصارُنَا فلَا نَرَاهُم وهُم معَنَا في النَّارِ ، قَسَّموا أَمرَهُم بينَ أَن يكونُوا من أَهلِ الجنَّةِ وبينَ أَن يكُونوا من أَهلِ النَّارِ إلاَّ أَنَّه خَفِيَ عليهم مكانُهُم.
( لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ) (٤) خَدَماً وتابِعاً ومَمْلُوكاً.
( لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ... ) (٥) الآية ، أَي لا يَسْخَرْ بعضُ المؤمنينَ والمُؤمناتِ مِنْ بعضٍ فرُبَّما كانَ المَسْخُورُ منه خيراً من السَّاخِرِ ؛ إذ لا اطِّلاعَ للنّاسِ إلاَّ علَى الظَّواهِرِ ولا عِلْمَ لهُم بالسَّرائرِ ، والَّذي يَزِنُ عندَ اللهِ خُلُوصُ الضَّمائر ، فينبغي أَن لا يجترئَ أحدٌ على الاستهزاءِ ممَّن تقتَحِمُهُ من ذي عاهةٍ أَو معصيةٍ فلعلَّهُ أخلَصُ ضَميراً وأَتقَى قلباً من السَّاخِرِ.
الأثر
( أَتَسْخَرُ مِنِّي وأَنْتَ المَلِكُ ) (٦) أَي تُطْمِعُنِي (٧) فيما لا أَراهُ من حَقِّي ، فكأَنَّهُ صورةُ سُخْريّةٍ ، أَو أَصابَ القائلَ من الدَّهَشِ ما أَجرَى لَهُ كلَامَهُ علَى عادَتِهِ مع المخلوقينَ.
__________________
(١) التّوبة : ٧٩.
(٢) المؤمنون : ١١٠.
(٣) ص : ٦٣.
(٤) الزّخرف : ٣٢.
(٥) الحجرات : ١١.
(٦) و (٧) النّهاية ٢ : ٣٥ ، وفيه : أتضعني بدل : تطمعني.