وناهيك في أسرار تعدد النزول حكمة ويقيناً واستمراراً لجدة القرآن ، وحضوره في زخمة الأحداث ، وتجدد الوقائع ، وطبيعة الرسالة المتدرجة في تعاليمها من الأسهل إلى السهل ، ومن السهل إلى الصعب ، ومن الكليات العامة إلى التفصيلات الجزئية.
والوحي ينظر إلى الناس باعتبارهم الهدف الرئيسي من تنزيل القرآن ، قصد هدايتهم ، ورجاء إثابتهم إلى الحق ، فاهتم بهذا العنصر في سبب النزول مفرقاً ، وصرح بذلك سبحانه وتعالى :
( وقرءاناً فرقناهُ لتقرأهُ على النّاسِ على مُكْثٍ ونزَّلناهُ تنزيلاً (١٠٦) ) (١).
١ ـ وقد أفاض القدامى من العلماء والمفسرين في أسرار التنجيم في النزول ، استفادوا قسما منها من القرآن ، واجتهدوا في القسم الآخر ، فمن الأول تيسير حفظ القرآن ، وتثبيت فؤاد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومعرفة الناسخ من المنسوخ ، والإجابة عن أسئلة السائلين (٢).
ومن الثاني كون القرآن أنزل وهو غير مكتوب على نبي أمي ، كما حكي ذلك عن أبي بكر بن فورك ( ت : ٤٠٦ ه ) (٣).
وقد لاحظ باحث معاصر أن القدامى قد أدركوا حكمتين في ذلك هما : تجاوب الوحي مع الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وتجاوبه مع المؤمنين (٤).
٢ ـ وإذا كان ما فهمه القدامى ـ كما يدعى ـ يقف عند هذا الحد ، فلا ينبغي عند الباحثين المحدثين أن يقف عند حدود معينة ، وعليهم الإمعان والإيغال في الاستنتاج. وإن كان كل ما تقدم هو الصحيح ، ولكن لا مانع أن يضاف إليه بأن القرآن الكريم ـ كما يبدو من منهجيته الاستقرائية ـ يريد كتابة التأريخ الإنساني ، بكل ما في هذا التأريخ من مفارقات وأحداث ونوازع وتطورات ، والتأريخ إنما يكتب في جزئياته ، ومن ضم
__________________
(١) الإسراء : ١٠٦.
(٢) ظ : السيوطي ، الاتقان : ١ / ٨٥ ـ ١٢١ + أبو شامة : ٢٨.
(٣) ظ : الزركشي : ١ / ٢٣١.
(٤) ظ : صبحي الصالح ، مباحث في علوم القرآن : ٥٢.