والملحظان الأخيران يؤكدان استجابة أبي الأسود لهذا الأمر بسبب أمر رسمي من سلاطين عصره ، وهو ما لا يتفق مع عزلة أبي الأسود السياسية ، وعزوفه عن المناخ الرسمي ، ولعل القلقشندي يدفع عنه ذلك صراحة ، ويوضحه فيقول :
« إن أول من نقط القرآن ووضع العربية أبو الأسود الدؤلي من تلقين أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه » (١).
والغريب الذي لا يمت إلى أساس علمي أن يستبعد كل ما تقدم به أبو الأسود الدؤلي مع تظاهر الروايات على صدقه أو على شهرته على الأقل ، بعض الدارسين المعاصرين ، فمن يعد انفراد أبي الأسود في ذلك ليس منطقياً ولا معقولاً ، ولا يقوم على أساس عقلي ، وكأنه يستكثر ذلك عليه أن لم يستنكره ، بينما يعتبر أن للحجاج عملاً عظيماً لا سبيل إلى إنكاره في الإشراف على نقط القرآن (٢).
ولدى التحقيق ـ كما سترى فيما بعد ـ فليس هناك مصدر واحد يوثق به ، أو نقل ثابت ، ويؤرخ هذه التقولات.
وليت شعري ما المانع العقلي أو المنطقي الذي يراه صبحي الصالح حائلا عن قيام أبي الأسود بذلك ، وأبو الأسود عالم موسوعي في كثير من فنون الأدب واللغة والتراث ، وهو بعد تلميذ الإمام علي عليهالسلام ولم تشغله سياسة القوم عن النهج العلمي.
ولقد أكمل عمل أبي الأسود من بعده ، إثنان من تلامذته هما يحيى بن يعمر العدواني ( ت : ٩٠ ه تقريباً ) ونصر بن عاصم الليثي ( ت : ٨٩ ه ) حيث وضعا النقاط على الحروف أزواجاً وإفراداً ، وقد كان وضع النقاط على الحروف حقيقياً لا على سبيل الإستعمال المجازي ، وبذلك تميزت صور الحروف المتشابهة ، وصار لكل حرف صورة تغاير صورة غيره من الحروف ، طبقا لما نجده متعارفا في كتابتنا المتداولة اليوم (٣).
__________________
(١) القلقشندي ، صبح الأعشى : ٣ / ١٥١.
(٢) ظ : صبحي الصالح ، مباحث في علوم القرآن : ٩٤.
(٣) ظ : أبو أحمد العسكري ، شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف : ١٣ + حمزة الأصبهاني ، التنبيه على حدوث التصحيف : ٢٧.