وقد سرى وفشا هذا الفنّ بين الشعراء من شيعة وسنّة.
ولا أقول إنّ هذه الصناعة قد انحصرت عند شعراء الشيعة ـ حيث أنّهم جاؤوا بالبراهين والحجج الدامغة في أشعارهم وأرغموا أنوف الخصوم والمعاندين والمنابذين لولاية أمير المؤمنين ومناقب أهل بيت الرسالة عليهمالسلام ـ ولكن أقول إنّ الكميت بن زيد الشاعر الشيعيّ هو أوّل من أوجد هذه الصناعة وفاق بها الأوّلين والآخرين ، وإنّه رائد هذه الصناعة بلا منازع.
ولم يكن أحدٌ من الشعراء لا في الجاهلية ولا في الإسلام من أوجد هذه الصناعة وأخذ يناظر خصمه بأن يذكر رأيه ثمّ يردّ بما هو أقوى من ذلك ويقيم عليه الحجج الرادعة والأدلّة الجامعة والبراهين المانعة ، وإنّ كلّ ذلك يرجع إلى الأحداث والتطوّرات الّتي كانت تهبُّ وتدبُّ في العالم الإسلامي آنذاك ، وإنّ الحقبة الزمنية العصيبة المضطربة التي عاشها شاعرنا بإحساسه المرهف صنعت منه شاعراً مجاهراً يبحث عن الحقيقة التي كادت أن تنطمر فصنع من شعره صارماً يذبُّ به عن الحقِّ وأهله فيناظر ويجاهر ويجاهد ويكابد دونه.
وإذا أردنا أن نمرّ على الشعر الجاهليّ والإسلاميّ بلمحة سريعة نرى أنّ لاميّة العرب لم تشتمل إلاّ على معان في علوِّ الهمَّة ومكارم الأخلاق ، وقد روي «علِّموا أولادكم لاميّة الشنفري فإنّها تعلّمهم مكارم الأخلاق»(١) ، ولم نرَ فيها أثراً للمناظرة والجدل ، كما أنَّه لم يأت في شعر عنترة إلاّ الشجاعة وشدّة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) أعيان الشيعة ٦ / ١٢٨.