على عبده ، فكيف برب العالمين الذي إنما يتقلب الخلائق في بحر منته عليهم ، ومحض صدقته عليهم : بلا عوض منهم البتة؟ وإن كانت أعمالهم أسبابا لما ينالونه من كرمه وجوده. فهو المنان عليهم. بأن وفقهم لتلك الأسباب وهداهم لها ، وأعانهم عليها ، وكملها لهم ، وقبلها منهم على ما فيها؟ وهذا هو المعنى الذي أثبت به دخول الجنة في قوله (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
فهذه باء السببية ، ردا على القدرية والجبرية ، الذين يقولون : لا ارتباط بين الأعمال والجزاء ، ولا هي أسباب له ، وإنما غايتها أن تكون أمارات.
قالوا : وليست أيضا مطردة ، لتخلف الجزاء عنها في الخير والشر. فلم يبق إلا محض الأمر الكوني والمشيئة.
فالنصوص مبطلة لقول هؤلاء : كما هي مبطلة لقول أولئك ، وأدلة المعقول والفطرة أيضا تبطل قول الفريقين ، وتبين لمن له قلب ولب : مقدار قول أهل السنة. وهم الفرقة الوسط. المثبتون لعموم مشيئة الله ، وقدرته ، وخلقه العباد وأعمالهم ، ولحكمته التامة المتضمنة ربط الأسباب بمسبباتها ، وانعقادها بها شرعا وقدرا ، وترتيبها عليها عاجلا وآجلا.
وكل واحدة من الطائفتين المنحرفتين تركت نوعا من الحق ، وارتكبت لأجله نوعا من الباطل ، بل أنواعا ، وهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ٢ : ٢١٣ (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) و ٦٢ : ٤ (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
فصل
الصنف الثالث : الذين زعموا أن فائدة العبادة : رياضة النفوس ، واستعدادها لفيض العلوم عليها. وخروج قواها عن قوى النفوس السبعية والبهيمية ، فلو عطلت عن العبادات لكانت من جنس نفوس السباع والبهائم ،