فصل :
ويسأل عن قوله : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٢] كيف نهاهم عن الموت وليس الموت إليهم ، فيصح أن ينهو عنه؟ (١).
والجواب : [١٦ / و] أن أبا بكر بن السراج ، قال (٢) : لم ينهو عن الموت وإن كان اللفظ على ذلك ، وإنما نهوا في الحقيقة عن ترك الإسلام لئلا يصادفهم الموت عليه ، فإنه لا بد منه ، وتقديره : اثبتوا على الإسلام لئلا يصادفكم الموت وأنتم على غيره.
ومثله في الكلام : لا أرينك هاهنا ، فالنهي في اللفظ للمتكلم وهو في المعنى للمخاطب ، كأنه قال : لا تتعرض للكون هاهنا ، فإن من كان هاهنا لا أراه.
قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة : ١٧٩]. القصاص : القود (٣) ، والحياة : نقيض الموت ، والألباب : العقول ، أحدها لب. وهذا من الكلام الموجز.
ونظيره من كلام العرب : القتل أنفى للقتل ، إلا أن ما في القرآن أوجه وأفصح وأكثر معاني. والفرق بينهما في البلاغة من أربعة أوجه (٤) :
وهو أنه أكثر في الفائدة ، وأوجز في العبارة ، وأبعد من الكلفة بتكرير الجملة ، وأحسن تأليفا بالحروف المتلائمة. أمّا الكثرة في الفائدة ففيه كل ما في (القتل أنفى للقتل) ، وزيادة معاني حسنة ، منها إبانة العدل لذكره القصاص ؛ لأنه ليس في قولهم القتل أنفى للقتل بيان أنه قصاص ، ومنها إبانة الغرض المرغوب فيه وهو الحياة ، ومنها الاستدعاء بالرغبة والرهبة وحكم الله به.
وأما الإيجاز في العبارة ، فإن الذي هو نظير القتل أنفى للقتل ، قوله تعالى : (الْقِصاصِ حَياةٌ). وهذا عشرة أحرف ، والأول أربعة عشر حرفا. وأما بعده من الكلفة بالتكرير الذي فيه على النفس مشقة ، فإن قولهم : القتل أنفى للقتل تكرير غيره أبلغ منه ، ومتى كان التكرير كذلك فهو مقصّر في باب البلاغة.
__________________
(١) نبه إلى هذا الزجاج في معانيه : ١ / ١٨٥.
(٢) الأصول في النحو : ١ / ٧٤.
(٣) اللسان : ٣ / ٣٧٠ (قود).
(٤) لقد أفاض في بيان ما اشتملت عليه هذه الآية من أسرار الرماني في النكت في إعجاز القرآن : ٢ ـ ٣ ، والباقلاني في إعجاز القرآن : ٢٦٣ ، والجرجاني في إعجاز القرآن : ٢٦١ ، ٢٨٩ ، ٤٢٨ ، ٥٤٧ والزركشي في البرهان : ٣ / ٢٢٢.