وذهب الجمهور من العلماء (١) إلى أنّه من الملائكة ، واحتجوا بأنّه لو كان من غير الملائكة لما كان ملوما في ترك السجود ؛ لأنّ الأمر إنّما يتناول الملائكة دون غيرهم ، قال :
وأمّا ما احتجّ به من أنهم : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦] وأنّه نفى نفيا عاما ، فإن العموم قد يختصّ من الشّيء ، نحو قوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣] ، وقد علم أنّ المعنى : وأوتيت من كلّ شيء يؤتاه الملوك ، ولم يرد جميع الأشياء ، قال : وأمّا احتجاجه بقوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف : ٥٠] فإن الجن جنس من الملائكة ، وقيل يقع الجن على جميع الملائكة ، لاجتنانها عن العيون (٢) ، قال أعشى قيس بن ثعلبة (٣) :
ولو كان شيء خالدا أو معمّرا |
|
لكان سليمان البريّ من الدّهر |
براه إلهي واصطفاه عباده |
|
وملّكه ما بين ثريا إلى مصر |
وسخّر من جنّ الملائك تسعة |
|
قياما لديه يعملون بلا أجر |
وقال الله تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) [الصافات : ١٥٨] ، وقال :
(وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) [الصافات : ١٥٨] ، فالجنّة هاهنا الملائكة بلا خلاف ؛ لأنّ قريشا قالت : الملائكة بنات الله ، فردّ الله عليهم. وأمّا قوله : إنّ لإبليس نسلا وذرّية ، والملائكة ليست كذلك ، فلا دليل فيه ؛ لأنّ الله تعالى لمّا أهبطه إلى الأرض ولعنه تغيّرت حاله عن حال الملائكة ، فإذا كان كذلك لم تصح الدّلالة بذلك ، وأمّا قوله : أنّه مخلوق من النّار والملائكة خلقوا من الرّيح ، فقال الحسن : الملائكة خلقوا من النّور ، والنّار والنّور سواء (٤) ، وقوله : الملائكة لا يطعمون ولا يشربون ، والجن يطعمون ويشربون ، فقد جاء عن العرب ما يدلّ على أنّهم لا يطعمون ولا يشربون.
أنشد أبو القاسم الزّجاجي (٥).
__________________
(١) ينظر مجاز القرآن : ١ / ٣٨ ، ومعاني القرآن وإعرابه : ١ / ١٠٥ ـ ١٠٦ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٢٤.
(٢) ينظر مجمع البيان : ١ / ١٦٤ ، وزاد المسير : ٤ / ٢٩٢ ، واللسان : ١٣ / ٩٧ (جنن) ، وتاج العروس : ٩ / ١٦٥.
(٣) ملحق ديوانه : ٢٤٣ ، والأضداد ، لابن الأنبازي : ٢٩٣ ، والنكت والعيون : ١ / ١٠٣. ثريا : اسم بئر بمكة لبني تميم بن مرة. ينظر معجم البلدان : ٢ / ٧٧.
(٤) ينظر مجمع البيان : ١ / ١٦٤.
(٥) ذكرت هذه الأبيات في مجالسه : ٣٣٧ ، ونوادر أبي زيد : ١٢٣ منسوبة إلى شمير بن الحارث. وينظر اللسان : ٣ / ١٤٩ (حسد). والزجاجي هو : عبد الرحمن بن إسحاق ، النهاوندي (ت ٣٣٧ ه) وقيل غير ذلك. ينظر إنباه الرواة : ٢ / ١٦٠ ، وبغية الوعاة : ٢ / ٧٧.