والجواب أنّ العلماء اختلفوا في ذلك :
فذهب قوم (١) إلى أنّه لم يكن من الملائكة ، وجعل الاستثناء هاهنا منقطعا ، كقوله : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) [النساء : ١٥٧].
وأنشد سيبويه (٢) :
والحرب لا يبقى لجا |
|
حمها التّخيّل والمراح |
إلّا الفتى الصّبّار في النّج |
|
دات والفرس الوقاح |
واحتجّ على صحّة هذا القول بقوله تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦] فنفى المعصية عنهم نفيا عاما ، واحتجّ أيضا بقوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف : ٥٠] ، ومتى أطلق لفظ (الجنّ) لم يجز أن يعنى به إلا الجنس المعروف ، واحتج أيضا بأن إبليس له نسل وذرية ، قال الحسن (٣) : إبليس أب الجن ، كما أن آدم أب الأنس.
واحتج أيضا بأن إبليس مخلوق من النّار ، والملائكة روحانيون خلقوا من الرّيح ، وقال الحسن : خلقوا من النّور لا يتناسلون ولا يأكلون ولا يشربون ، وقال الله تعالى في إبليس وولده : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) [الكهف : ٥٠] واحتجّ أيضا بقوله تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) [فاطر : ١] ، فعمّها بالوصف بالرّسالة ، ولا يجوز على رسل الله أن تكفر ، ولا أن تفسق ، كما لا يجوز على رسله من البشر من قبل أنّهم حجّة الله على خلقه فالملائكة [١١ / ظ] بهذه المنزلة ، ولو جاز عليهم الفسق لجاز عليهم الكذب ، فكأن يكون لا سبيل إلى الفرق بين الصّدق والكذب فيما أخبروا به عن الله.
__________________
(١) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٧٨ ، والجامع لأحكام القرآن : ١ / ٢٩٤ ، والدر المنثور : ١ / ٤٥.
(٢) الكتاب : ١ / ٣٦٦. البيتان لسعد بن مالك بن ضبيعة. وذكرت من غير نسبة في التبيان في تفسير القرآن : ٤ / ٧ ، واللسان : ١٢ / ٨٥ (جحم) ، وشرح الرضي على الكافية : ٢ / ٨٦.
(٣) هو أبو سعيد ، الحسن بن يسار ، الإمام التابعي الجليل ، والزاهد المشهور (ت ١١٠ ه). ينظر حلية الأولياء : ٢ / ١٣١ ، وسير أعلام النبلاء : ٤ / ٥٦٣. وينظر : النكت والعيون : ١ / ٩٢ ، والكشاف : ١ / ٢٧٣.
قال الطبري رحمة الله : (وعلة من قال هذه المقالة ، أن الله عزوجل أخبر في كتابه : أنه خلق إبليس من نار السموم ، ومن مازج من نار ، ولم يخبر عن الملائكة أنه خلقها من شيء من ذلك ، وأن الله عزوجل أخبر أنه من الجن ، فقالوا : فغير جائز أن ينسب إلى غير ما نسبه الله إليه ، قالوا : ولإبليس نسل وذرية والملائكة لا تتناسل ولا تتوالد). جامع البيان : ١ / ٣٢٤.