ومنها : قوله تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (١٤) (١١٠٩) وفي دلالتها تأمّل ظاهر.
______________________________________________________
وأنت خبير بأنّ خذلانه سبحانه للعبد إنّما هو بعد بيان ما يرضيه ويسخطه من الواجبات والمحرّمات ومخالفة العبد له ، وبعد إيعاده عليه مرّة بعد اخرى بإنزال البلايا والشدائد ، بل بعد بيان المكمّلات من الأعمال الموجبة للمراتب العليّة والدرجات الرفيعة من المستحبّات وغيرها ، فإذا استمرّ العبد على ما أصرّ عليه استحقّ الخذلان الذي هو أشدّ من الدخول في النيران ، إذ من البعيد خذلانه سبحانه للعبد بعد بيان الواجبات والمحرّمات بمجرّد مخالفته له تعالى فيهما من دون إصرار أو استمرار على ما أصرّ عليه ، كيف لا وبيان ما يرضيه ويسخطه من الواجبات والمحرّمات واجب عليه سبحانه من باب اللطف.
وبالجملة ، إنّ استحقاق الخذلان فضلا عن فعليّته ليس مرتّبا على مجرّد المخالفة. فمن هنا يظهر أنّ جعل الإضلال في الآية الشريفة مغيّا ببيان (ما يَتَّقُونَ) ممّا يرضيه ويسخطه من الواجبات والمحرّمات ، قرينة لعدم إرادة الخذلان من الإضلال ، لأنّ الخذلان وإن توقّف على بيان ما يتّقون ، إلّا أنّه متوقّف على أشياء أخر أيضا ، فجعل الإضلال مغيّا بما يجب بيانه على الله تعالى دليل على عدم إرادته من الإضلال ، بل المناسب له كون المراد به التعذيب. والمعنى حينئذ : ما كان الله ليعذّب قوما بعد أن هدهم إلى الإسلام حتّى يبيّن لهم ما يرضيه ويسخطه. ودلالتها على المدّعى حينئذ واضحة كما تقدّم. ومن التأمّل فيما ذكرناه يظهر ضعف التمسّك بالفحوى أيضا ، لما عرفت من كون الخذلان أشدّ من التعذيب في الدنيا والآخرة.
١١٠٩. الآية في سورة الأنفال. والمعني : ليهلك من ضلّ بعد قيام الحجّة عليه ، فتكون حياة الكافر وبقائه هلاكا له. ويحيا من اهتدى بعد قيام الحجّة عليه ، فيكون بقاء من بقي على الإيمان حياة له. وقوله : (عَنْ بَيِّنَةٍ) أي : بعد بيان