بالمنطق ، والعيب فى أصل القول الذى بنى عليه ، لا فى الأقيسة التى أجرى بها مشابهاته ، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل.
وقد كتب فى ذلك كتابه النظم ، وقد عابه الباقلانى ، ليدفع بذلك التسليم له بالسبق ، ولأنه معتزلى ، ولكن الجاحظ فى كتابات له كثيرة غير كتابه النظم ، كان يذكر مواضع من إعجاز القرآن فى آيات يتعرض للقول فيها ، ليبين مقامها من البيان ، فهو فى كتاب الحيوان يذكر أنه جمع آيات من القرآن يعرف مقامها فى البيان ، فهو يقول : «ولي كتاب جمعت فيه آيات من القرآن ليعرف بها ما بين الإيجاز والحذف ، وبين الزوائد والفضول والاستعارات ، فإذا قرأتها رأيت فضلها فى الإيجاز والجمع للمعانى الكثيرة ، والألفاظ القليلة ، فمنها قوله تعالى حين وصف خمر أهل الجنة (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) (١٩) [الواقعة : ١٩]» وهاتان الكلمتان جمعتا جميع عيوب خمر أهل الدنيا. وقوله عزوجل حين ذكر فاكهة أهل الجنة (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) (٣٣) [الواقعة : ٣٣] جمع بهاتين الكلمتين جميع تلك المعانى.
وهذا الكتاب الذى أشار إليه لم يكشف فى التراث الإسلامى ، ولكنه يدل على أن الجاحظ كان يتعرض لأسرار الإعجاز ، كلما لمح بريق الإعجاز فى آياته.
ولكن التعصب المذهبى يستهين بكلام الجاحظ فى إعجاز القرآن بل إنه يتحامل عليه فى كتابته كلها ، فيقول فى ذلك الباقلانى الأشعرى عن الجاحظ أحد شيوخ المعتزلة : «كذلك يزعم زاعمون أن كلام الجاحظ من السمت الذى لا يؤخذ فيه ، والباب الذى لا يذهب عنه ، وأنت تجد قوما يرون كلامه قريبا ، ومنهاجه معيبا ، ونطاق قوله ضيقا ، حتى يستعين بكلام غيره ، ويفزع إلى ما يوشح به كلامه ، من بيت سائر أو مثل نادر ، وحكمة ممهدة منقولة ، وقصة عجيبة مأثورة ، وأما كلامه فى أثناء ذلك ، فسطور قليلة وألفاظ يسيرة .. فإذا أردت أن تحقق ذلك فانظر فى كتبه فى نظم القرآن وفى الرد على النصارى وفى خبر الواحد ، وغير ذلك مما يجرى هذا المجرى» (١).
ولقد جاء من بعد نظم القرآن للجاحظ الذى كان ردا عمليا على كلام النظام الذى أدخله من الهند ، وهو مذهب الصرفة جاء بعده أول كلام واجه الصرفة فى إعجاز القرآن ، وهو كتاب إعجاز القرآن لأبى عبد الله محمد بن يزيد الواسطى المتوفى سنة ٣٠٦ هجرية أى بعد موت الجاحظ بنحو ستين سنة ، وهو صورة المجاوبة التى كانت دفعا لمذهب الصرفة الذى بلبل الأفكار ، وكان بين ممانعة من الأكثرين ، ومجاوبة من القلة ، حتى صارت نادرة ، وحتى طواه التاريخ وهو فى هذا قد طرق باب البلاغة طرقا
__________________
(١) إعجاز القرآن ص ٣٧٧.