ولقد سببوا عجزهم بأنه يعلو ولا يعلى عليه ، وأن له حلاوة ، وعليه طلاوة ، وأن أعلاه مثمر ، وأسفله مغدق. وقد قال ذلك المغيرة فى جمعهم فما أنكروا عليه حكمه على القرآن الذى سمعه ، ولكن أنكروا عليه أنه تحت تأثير هذا ترك جماعتهم ، وكأنهم أقروه على الوصف الذى وصف به القرآن ، ولكن أنكروا عليه الإيمان ، وجحدوا بها ، واستيقنتها أنفسهم كما وصفهم القرآن الكريم.
ثانيها ـ أنهم كانوا مع شركهم ، واستكراه نفوسهم لعدم الإقرار به ينجذبون إليه ، ويريدون أن يسمعوه ، استطابة لما فيه من لفظ ذى نغم يجذب وعبارات مشرقة ونظم منفرد أجمل من سمط اللآلئ ، ولأنهم عرفوا ميلهم إلى استماعه ، وأثره فى نفوسهم ، تواصوا ألا يسمعوه ، وأن يلغوا عند سماعه ، ولكن الذين تواصوا ذلك التواصى ذهب كل واحد منهم منفردا ، ولكن الاستخفاء استعلن ، عند ما التقوا جميعا ، ورأوا أنفسهم مجتمعين ، وليس كل منهم منفردا ، وقد علموا أن التواصى على عدم الاستماع لا جدوى فيه ، فتواصوا على الجحود والإنكار ، فلم يكن تواصيهم على الحق ، ولكن كان على الباطل.
ثالثها ـ أن أشدهم عنادا كان أقربهم إيمانا إذا قرئ القرآن صغى قلبه إلى الإيمان ، وإلى الاستجابة لداعيه ، فقد سمع أبو ذر الغفارى القرآن ، فآمن ، وسمعه أخوه أنيس فأذعن لعلو بلاغته عن مستوى البشر ، وسمعه جبير بن مطعم فآمن ، وقرأه عمر ابن الخطاب فانخلع قلبه من الشرك وطغيانه إلى الإيمان ، وأن يكون فاروق الإسلام الذى كان إيمانه فارقا بين الاستخفاء والإعلان ، بين ظهور الحق وخفوته.
إن هذه الأمور التى اقترنت بعجز العرب عن أن يأتوا بمثله دلت على أمرين بدهيين.
أولهما ـ أن الأساس فى عجزهم هو ما فيه من بلاغة ورنة قول ، ونغمة بيان أدركوها بذوقهم البيانى ، وهم الذين يذوقون بأسماعهم ، كما يذوق الإنسان الطعام بفمه ، وأنه لم يكن عجزهم سلبيا ، بل كان من كثيرين منهم إيجابيا يتبعه العمل ويقترن بالإيمان بأنه من عند الله تعالى ، أى أن وجه الإعجاز فيه أمر ذاتى فيه ، وليس منعا سلبيا.
الأمر الثانى ـ الذى تدل عليه هذه الأمور التى اقترنت بالعجز عن محاكاته ، هو أن القرآن من بيانه العالى الذى لا يعالى ، فيه من العلوم ما لم يكونوا يعرفونه ، فيه الشرائع المحكمة التى تنظم العلاقات بين الآحاد الأقربين وغيرهم ، فيه علم الميراث ، وفيه علم الأحكام المختصة بالأسر ، وفيه بيان خلق الإنسان من سلالة من طين ، وفيه توجيه النظر إلى الكون وما يشتمل عليه ، وفيه من الحقائق ما لا يعلمه إلا اللطيف الخبير ، الذى خلق فسوى ، والذى أحاط بكل شىء علما.