الجوهرى ، والمنزع القوى ، ومنهم الحضرى (أى ساكن المدن) ذو البلاغة البارعة ، والألفاظ الناصعة ، والكلمات الجامعة ، والطبع السهل ، والتصرف فى القول القليل الكلفة ، الكثير الرونق ، والرقيق الحاشية» إلى آخر ما ذكره عياض فى بيان بلاغة العرب ، ومقدار إدراكهم لجمال الكلمات فى رنينها ، كما يدرك الصير فى رنين الحلى الكريمة غير الزائفة ، من بين ما يعرض له.
تلك كانت حال العرب فى جاهليتهم ، كانت جهلا بالدين مع بقايا ملة إبراهيم ، وليسوا جهالا فى البيان ومعرفة أسرار البلاغة يدركونه بلحظ الحال ، لا بإمعان عقل وطول تفكير ، يدركونه بنغماته ومعانيه فى لمح الفكر ، من غير طول المكث.
لذلك كان المناسب لمثل هؤلاء الذين تلقوا دعوة محمد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وخاطبهم القرآن الكريم ابتداء أن تكون المعجزة من النوع الذى يحسنونه ، ليعرفوا مقدار علوه عن الطاقة ، فالمعجزة بلا شك تناسبهم فوق مناسبتها لموضوع الرسالة وعموم أزمانها وخلودها إلى يوم القيامة ، وقد بينا ذلك فى أول الكلام ، فإذا كانت معجزة النبى صلىاللهعليهوسلم من نوع الكلام السامى فوق طاقة الناس فإنها تكون مناسبة لمن تلقوها فى أول أمرها ومناسبة لخلودها.
إننا لا ننفى الآن ، ولم ننف من قبل أنها مناسبة لعصر نزولها ، ولكننا نقول أيضا أنها مناسبة لموضوع الرسالة وخلودها ، وبقائها إلى يوم القيامة.
إن القرآن فى أعلى درجات البيان من حيث لفظه ، ومن حيث نغماته ، ومن حيث مغازيه ومن حيث الصور البيانية التى تكون فى ألفاظه وعباراته ، حتى إن كل عبارة تلقى فى الفكر والخيال بصورة بيانية كاملة فى روعتها ، ودقة تصويرها ، بل إن كل كلمة لها صورة بيانية تنبثق منها منفردة ، وبتآخيها مع أخواتها فى العبارة تتكون صورة بيانية أخرى ، فوق أن الرنين الموسيقى تنفعل به الأسماع إلى القلوب فى معان محكمة ، وحقائق بينة ، وشرائع منظمة للعلاقات والسلوك الإنسانى القويم ، الهادى إلى الصراط المستقيم.
التقى فى المعجزة الكبرى للنبى صلىاللهعليهوسلم وهى القرآن المبين ـ معنيان ، أصيب بهما هدفان :
أولهما ـ أنه المناسب الذى يعرف به العرب معنى الشيء الخارق لما عرف ، الخارج عن طاقتهم ، فإنه لا يدرك أثر ذلك إلا هم ، ولا يعرف مقامه إلا من على شاكلتهم من معرفة مقام القول ، ومنزلة البيان.
وثانيهما ـ أن كونه من نوع الكلام الموحى به الباقى الخالد الذى حفظه الله تعالى ، ووعد بحفظه إلى يوم القيامة كما تلونا من قبل (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ