تولى القرآن الكريم بيان أكثر العقوبات المقدرة ، والعقوبات غير المقدرة ترك تقديرها للقاضى ، أو ولى الأمر إن رأى أن يقيد القضاة ، فالإسلام يذكر الحد الأعلى للعقوبة وترك للقاضى تقدير ما دونها على ما قررنا.
والعقوبات المقدرة قسمان : قسم من حقوق العباد واضحة ، كالقصاص ، وقسم كان لحماية المجتمع من شروره ، وحق العباد ليس فى وضوح الأول.
وفى الأول كان للمجنى عليه وأوليائه حق العفو ، كما سنبين ، أما الثانى فلا عفو فيه ، لأنه حق الله تعالى.
وأول نص فى العقوبات التى كانت لحق العبد أو حق العبد فيها أوضح من غيره ، عقوبة القصاص وهى عقوبة تومئ إليها الفطرة ، لأن العقوبة مساوية للجريمة ، ومن جنسها ، وقد نص عليها فى القرآن فى عدة آيات ، منها قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧٩) [البقرة : ١٧٨ ، ١٧٩]
وفى هذه الآية نجد القصاص فى الأنفس ، وآية أخرى تعمم القصاص فى الأنفس والأطراف ، بل الجروح ، ويقول سبحانه وتعالى فى ذلك مبينا ما كان فى التوراة ، وهو فى الشرائع السماوية كلها : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٤٥) [المائدة : ٤٤ ، ٤٥].
وهذه الآيات الكريمات تدل ـ أولا ـ على أن القصاص شريعة النبيين أجمعين ، طبقه النبيون على الذين هادوا ، وطبقه من بعدهم الربانيون والأحبار ، ويطبقه أهل الإيمان من أمة محمد كما قال سبحانه وتعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٤٨). [المائدة : ٤٨]