وذكرنا الاستدلال على الوحدانية فى سياق القصص والعبرة ، ثم بينّا من بعد ذلك تصريف القول بطريق القصص ، والتصوير القصصى للوقائع حتى كأنك ترى المشاهد ، لأنك تقرأ القصص.
ثم تكلمنا فى الاستفهام القرآنى ، وخضنا فى التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية والإشارة البيانية لمن يغوص فى علوم القرآن الكريم ، ويتعرف أسرار الحقائق التى اشتمل عليها ، سواء أكانت حقائق كونية أو نفسية ، أم كانت تتعلق بنواميس الاجتماع وتربية المجتمعات.
ذكرنا ذلك فى إجمال يشير ولا يحيط ، ويوجز ، ولا يفصل.
ولكن مع ذلك نرى للقرآن صورة هى فى الإعجاز أبعد مما سبق ، ذلك أنك إذا قرأت القرآن مرتلا ، أو كاشفا بالصوت مع الترتيل تحس بأنه ليس من الكلام الذى سمعته وتسمعه وتقرؤه ، وأنك تميز بذوقك القرآن عند سماعه من غيره ، فله نظم يعلو عن كلام البشر ، وله نغم أعلى من أن تسميه موسيقى ، يذوقه كل فاهم ، وإن كان لا يستطيع وصفه ولا تعريفه ، ولا بيان سره ، كما يذوق الذائق طعاما طيبا ، ولا يعرف اسمه ، ولا أرضه ، ولا سر طيبه ، ولكنه يحكم بطيبه وإن كان تفصيل السبب لا يعرف.
وليس ما نقوله هو من قبيل ما فندناه من قبل ، وهو ما سمى بالصرفة ، فإن الصرفة على قول الذين يزعمونها ، عجز عن المحاكاة أو المشابهة بصرف الله تعالى.
إنما الذى نقوله هو أن الإعجاز من خصائص القرآن البيانية وغيرها ، وإن كانت البيانية أظهرها. وهى التى يتحدى الله تعالى بها العرب أن يأتوا بمثلها ولو مفتريات ، فالنظم والنغم ، والفواصل ، وما يشبه الموسيقى ، وإن كان أعلى أوصاف ذاتية ، ولعلنا نتنزل بالقرآن إن سمينا ما نذكر موسيقى ، فروعة القرآن أعلى ، وذلك سبب من أسباب العجز ، وهو غير الصرفة.
لقد وجدنا للقرآن حلاوة فى الألفاظ والأسلوب والفواصل ، وغير الفواصل ـ ليست فى غيره ، وهذا ما سميناه النظم تقريبا للفهم ، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى ، وهو ما وصفه الوليد بن المغيرة بقوله :
«إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ، وما يقول هذا بشر».
١٢٠ ـ وبعد هذه التقدمة التى نمهد بها للقول ، نقول : إن نظم القرآن ليس من أى نوع من أنواع النظم الذى عند أهل البيان. فليس نثرا مرسلا. وليس نثرا مصنوعا. وليس نثرا فيه ازدواج. كما أنه ليس نثرا مسجوعا. وليس فيه فواصل تشبه السجع. ولكنه شىء غير هذا ، وغير ذلك.