وهو أيضا قائم بذاته ، فإنه إذا كان الرعد يجعلون أصابعهم فى آذانهم به ، فالبرق الذى يصحب الصيب شديد مفزع له بريق يكاد يخطف أبصارهم ، ولكن كان هو تشبيها لحالهم ، وهى أن المنافق متردد دائما. فالبريق يضيء لهم فيمشون فيه ، ولكن سرعان ما تظلم عليهم نفوسهم فيقيمون حيث هم من نفاق ، ويختم الله تعالى النص القرآنى فى هذا التشبيه المحكم ببيان قدرة الله تعالى وسيطرته عليهم ، وأنه سبحانه لو شاء لأفقدهم سمعهم وبصرهم حقيقة ، كما فقدوا سماع الحق استماع إنصات ، وإدراكه إدراك طالب للحقيقة.
والتشبيه فى هذا المثل كسابقه ، تشبيه تمثيلى ، إنه شبه حالهم فى ضعف نفوسهم والبلبال المسيطر عليهم واضطراب أحوالهم بحال قوم أصابهم مطر لم يكن غيثا منقذا ، بل مرهبا ومفزعا ، فكانوا فى خوف واضطراب من غمام مظلم ، وريح عاصف ، ورعد قاصف ، وبريق خاطف ، وصاروا يجعلون أصابعهم فى آذانهم حذر الموت ، فهو تصوير لضعفهم ، وفى التشبيه الثانى الذى هو فرع بالنسبة لما قبله ، تصوير لفزعهم من البرق ، وتصوير لكون أسباب الهداية بين أيديهم ، وهى فى ذاتها مضيئة ، ولكنها تظلم عليهم فيقيمون على نفاقهم ، ويستمرون فى غيهم ، والله قاهر فوقهم ، لو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم.
١١٠ ـ وقبل أن نغادر الكلام فى التشبيه إلى الاستعارة ، وهى لون من ألوانه لا بد أن نشير إلى أمور ثلاثة :
أولها ـ أن التشبيه بلا شك من أسرار الإعجاز ، ويعده الباقلانى من أسباب الإعجاز ، ولكن يعد الكلام فى القرآن من غير مجاز ولا تشبيه بأى لون من ألوانه معجزا بلغ ذروة البلاغة من غير أن تعرف سببا واضحا يدرس على أساسه ، وتتعرف أسرار البلاغة فيه من إشعاعه ، وليس معنى ذلك أن الإعجاز ليس بيانيا ، بل هو بيانى ، ويبدو ذلك فى تساوق المعانى ، وأخذ الألفاظ بعضها بحجز بعض فى إحكام قول ونغم ورنين يكون أحيانا شديدا يصك آذان المنذرين ، وأحيانا كأنه نسيم عليل يحيى النفوس ويشفى أسقام القلوب ، وأحيانا يكون وصفا عميقا لخواطر النفوس ، وما يستكن فى القلوب ، وهذه هى البلاغة فى القرآن التى تعلو عن أن توضحها الأفهام كما يرى ضوء الشمس ولا يعرف كنهه ، وكما تحس بالحرارة الدافئة ، ولا تعرف ماهيتها ، والله على كل شىء قدير.
الأمر الثانى ـ أن تشبيهات القرآن أيا كان وجهها صور بيانية ، تتضح منها الحقائق الظاهرة ، والمعانى العاطفة ، كأنها أمور محسوسة مرئية ، فإذا كان التشبيه بأمر محسوس كانت الصورة البيانية كأنها مرئية واضحة ، فالتشبيه الأول من تشبيهات المنافقين تقرؤه كأنك ترى رأى العين رجلا استوقد نارا ، والسين والتاء للطلب ، وهما يدلان على أنه