تعالى فى خلقه وتسخيره للإنسان ، فإنه إذا كانت الجبال والأوهاد وجدها الإنسان كذلك ، وهى رواسى الأرض ، وبها ثباتها ، فإن الجوارى ، وهى السفن التى تقارب فى علوها وفى قوتها وأثقالها الجبال تجرى على الماء وهو يحملها مع أنه سائل لا صلابة فيه ، وتجرى فيه ، وتنقلهم إلى بلد لم يكونوا واصلين إليه بغيرها ، فقدرة الله تعالى فيها أظهر ، لأنها منشأة ترى نشأتها ، وهى تجرى بأمر الله تعالى ولا يجرونها.
ويضرب الرمانى مثلا فيما يجرى فى المعنويات ، ومن ذلك قوله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ١٩]. ثم يقول : «وفى هذا إنكار لأن تجعل حرمة السقاية والعمارة كحرمة من آمن بالله وكحرمة الجهاد ، وهو بيان عجيب وقد كشفه التشبيه بالإيمان الباطل والقياس ، وفى ذلك الدلالة على تعظيم حال المؤمن بالإيمان. وأنه لا يساويه مخلوق على صفته فى القياس. ومثله قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [الجاثية : ٢١].
ونجد الرمانى فى المثال يأتى بالتشبيه منفيا مستنكرا ، كما أتى به محققا موجها ، فإن الاستفهام هنا لإنكار الواقع ، فهم قد آثروا أن يكونوا عامرين للبيت ، قائمين بالسقاية والرفادة ، وتنافسوا على ذلك زاعمين أن فيه الخير كله ، وأنه قد يغنيهم عن الإيمان بالله ورسوله والجهاد فى سبيله ، بل يزعمون أنهم بسدانة البيت الحرام ، والقيام على السقاية والرفادة أفضل ممن آمن بالله وجاهد فى سبيله. والحقيقة أنهما لا يستويان ، فالإنكار للمشابهة والتساوى بينهما فضلا عن اعتبار السقاية والعمارة أفضل وأشرف. والله سبحانه وتعالى أعلم.
هذا ما ساقه الرمانى من وجوه التشبيه ، وقد نقلناها ، كما نقلها الباقلانى لأنها وجوه لها اعتبارها ، ولأن فيها ضبطا لأقسام التشبيهات القرآنية ، وإن كانت غير شاملة لكل الأقسام ، بل إنها ذات وجوه شتى.
ولكنه لم يتعرض إلا قليلا لأغراض التشبيهات ومراميها ، وما تصوره من صور بيانية ، وما تنتجه من بسط للمعانى النفسية ، وتوجيه للحقائق الكونية والروحية ، ووصف للملائكة الأطهار ، والآدميين الأخيار.
ولنضرب بعض أمثلة القرآن الكريم التى تجعل فيها المعانى كأنها صور محسوسة لافتة للعقول إلى الكون وما فيه ، اقرأ قوله تعالى فى تشبيه المنافقين وترددهم بين الحق والباطل ، وظهور ضوء الحق ، وعمى بصائرهم عنه ، فقد قال تعالى :
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) (١٧) [البقرة : ١٧] ، وترى هنا تشبيه حال المنافق المضطرب بين