ثالثها
: قولهم : (إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) ولا أحسب أنه يمكن أن تضع كلمة مكان راغبون ، مع إلى ،
وتجد فى هذا التعبير إشارات بيانية رائعة ؛ أولاها فى تكرار كلمة ربنا للشعور
بنعمه سبحانه الظاهرة والباطنة ، والثانية فى تقديم الجار والمجرور على خبر إن ،
فإن ذلك التقديم للقصر ، وهو يفيد أنهم لا يرغبون فى مال ولا نشب ، ولا يحسبون
شيئا يمكن أن يكون بغير إرادة ربنا ، إذ كانوا قد حسبوا أنهم بجهودهم يصلون
ويمنعون الماعون ، ويقسمون ألا يدخلنها مسكين ، ولكنهم الآن لا يتجهون إلا إلى
الله تعالى العلى القدير ، والتعبير براغبون يفيد أنهم يسيرون فى طريق الله تعالى
وحده برغبة ومحبة ، فهم يطلبون طريق الله تعالى لا خوفا من عقابه ، ولا رجاء
لثوابه فقط ، ولكن محبة لذاته العلية ، فانتقلوا من دركة العصيان إلى مرتبة المحبة
وطلب الرضوان.
٦٥ ـ ونرى فى
هذه الآيات الكريمة المصورة لتلك القصة التى تشتمل على العبرة الواضحة ، فيها
تتلاقى المعانى وكل معنى ردف لما سبقه ، ومقدم لما يليه فى تآخ بين جزئياته ،
وتعانق مع كلياته ، كل جزء من الكلام يوعز لما يليه ، وفيها الألفاظ مؤتلفة فى نغم
يهز النفس ، وتآلف بين الألفاظ مفردة ، وجملا ، وفيها تصوير للنفس الإنسانية كيف
يدخل إليها الطمع ، ومع الطمع الشح ، وإذا سكن الشح قلبا دخل منه الظلم وهضم
الحقوق ، وإنه لكى ينجو المؤمن من أن يكون ظالما عليه أن يراقب مداخل الشح إلى
نفسه ، فإن سد طرقها إليها ، فقد فاز ، وكان عادلا ، كما قال تعالى فى سورة أخرى :
(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر : ٩] ، فإن وراء الشح الهلاك ، ووراء السماحة الفوز.
وإن الآيات
تصور لنا حال من يغتر ، ومن يطغيه الاستغناء ، ومن يحرم نعمة الاعتماد على الله
تعالى والتفويض إليه ، ثم حاله عند ما يفاجأ فيجد قدر الله تعالى أمامه يرد عليه
طغيانه ، ثم تصور النفس التائبة ، وذلك كلام العزيز الحميد.
النفس الفرعونية
٦٦ ـ وإذا كانت
هذه الآيات التى تلوناها تصور النفس التى تطغى أن رأتها استغنت ، وحسبت أنه لا قدر
فوق ما تقدر ، وكيف تفاجأ بقدر الله فتتنبه ، فقد صور الله تعالى فى كتابه العظيم
، النفس التى تطغى ، فتتغطرس فتتحكم فى الرقاب ، وتفرق بين العباد ، فهذه يأخذها
الله تعالى أخذ عزيز مقتدر ، ولا مكان لتوبتها ، إذ تفاجأ ، لأنه لا يكفر ذنوب
العباد إلا ردها ، ولا سبيل لرد ما فعلوه ، ثم كان فسادهم ، وتضييعهم الناس ،
ولذلك يؤخذون بذنوبهم ، واقرأ قوله تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ
عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ
يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ (٤)