يريد بالجنات غيرها من الشجر لأنّ اللفظ يصلح لذلك ثم يعطف عليها النخل.
ولما ذكر ما أنعم الله تعالى به عليهم أتبعه أفعالهم الخبيثة بقوله : (وَتَنْحِتُونَ) أي : والحال أنكم تنحتون إظهارا للقدرة (مِنَ الْجِبالِ) وقرأ (بُيُوتاً) ورش وأبو عمرو وحفص بضم الباء ، والباقون بكسرها ، وقرأ فرهين ابن عامر والكوفيون بألف بعد الفاء ، أي : حاذقين ، وقرأ الباقون بغير ألف ، أي : بطرين لا لحاجتكم إلى شيء من ذلك.
(فَاتَّقُوا) أي : فتسبب عن ذلك. أني أقول لكم اتقوا (اللهَ) الذي له جميع العظمة بأن تجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية باتباع أوامره واجتناب زواجره (وَأَطِيعُونِ) أي : في كل ما أمرتكم به عنه فإني لا آمركم إلا بما يصلحكم. (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) أي : المجاوزين للحدود ، وقال ابن عباس : المشركين ، وقال مقاتل : هم التسعة الذين عقروا الناقة.
تنبيه : استعير الطاعة التي هي انقياد للآمر لامتثال الأمر ، أو جعل الأمر مطاعا على المجاز الحكمي والمراد الآمر ، ومنه قولهم : لك على أمرة مطاعة وقوله تعالى : (وَأَطِيعُوا أَمْرِي) [طه : ٩٠]. ثم وصف المسرفين بما بين سرفهم بقوله : (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالمعاصي (وَلا يُصْلِحُونَ) أي : ولا يطيعون الله في أمرهم به ، فإن قيل : فما فائدة ولا يصلحون بعد قوله : يفسدون؟ أجيب : بأنّ في ذلك دلالة على خلوص فسادهم فليس فيه شيء من الصلاح كما يكون حال بعض المفسدين مخلوطا ببعض الصلاح.
ولما عجزوا عن الطعن في شيء مما دعاهم إليه عدلوا إلى التخييل على عقول الضعفاء بأن. (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) قال مجاهد وقتادة : من المسحورين المخدوعين ، أي : ممن سحر مرة بعد مرة ، أي : حتى غلب على عقله ، وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أي : من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب ولست بملك وعلى هذا يكون قولهم : (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) تأكيدا له ، قيل المسحور : هو المخلوق بلغة بجيلة أي : فما وجه خصوصيتك عنا بالرسالة (فَأْتِ بِآيَةٍ) أي : علامة تدل على صدقك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي : الراسخين في الصدق فقال لهم صالح : ما تريدون؟ قالوا : نريد ناقة عشراء تخرج من هذه الصخرة فتلد سقبا فأخذ صالح يتفكر فقال له جبريل : صلّ ركعتين وسل ربك الناقة ففعل فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ونتجت سقبا مثلها في العظم ، وعن أبي موسى رأيت مصدرها فإذا هو ستون ذراعا فلما رآها.
(قالَ) لهم صالح (هذِهِ ناقَةٌ) أخرجها ربي من الصخرة كما اقترحتم (لَها شِرْبٌ) أي : نصيب من الماء في يوم معلوم (وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ) أي : نصيب من الماء في يوم (مَعْلُومٍ) لا زحام بينكم وبينها ، وعن قتادة : إذا كان يوم شربها شربت ماءهم ولا تشرب في يومهم ماء.
(وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) كضرب وعقر ، ثم خوّفهم بما تسبب عن عصيانهم بقوله : (فَيَأْخُذَكُمْ) أي : يهلككم (عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) بسبب ما حل فيه من العذاب فهو أبلغ من وصف العذاب بالعظيم.
وأشار إلى سرعة عصيانهم بفاء التعقيب في قوله : (فَعَقَرُوها) أي : فقتلوها بضرب ساقها بالسيف وأسند العقر إلى كلهم لأنّ عاقرها إنما عقر برضاهم فكأنهم فعلوا ذلك (فَأَصْبَحُوا) أي : فتسبب عن عقرهم لها أنهم أصبحوا حين رأوا مخايل العذاب (نادِمِينَ) على عقرها من حيث إنه يفضي إلى العقاب والهلاك لا من حيث إنه معصية الله ورسوله وليس على وجه التوبة ، أو كان ذاك