ثم أتبع قصة هود عليهالسلام قصة صالح عليهالسلام وهي القصة الخامسة بقوله تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ) وهم أهل الحجر (الْمُرْسَلِينَ) وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار المثناة عند المثلثة ، والباقون بالإدغام وأشار تعالى إلى زيادة التسلية بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تأمل ولا توقف بقوله تعالى : (إِذْ) أي : حين (قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ) أي : في النسب لا في الدين (صالِحٌ) بصيغة العرض تأدبا معهم وتلطفا بهم كقول من تقدم قبله (أَلا تَتَّقُونَ) الله.
ثم علل ذلك بقوله : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ) من رب العالمين فلذلك عرضت عليكم هذا لأني مأمور بذلك (أَمِينٌ) في جميع ما أرسلت به إليكم من خالقكم الذي لا أحد أرحم منه بكم ، ثم تسبب عن قوله : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ) قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ) أي : الذي له الغنى المطلق (وَأَطِيعُونِ) فيما أتيت به من عند الله.
ثم نفى عنه ما قد يتوهم ممن لا عقل له بقوله : (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي : ما جئتكم به ، وأغرق في النفي بقوله (مِنْ أَجْرٍ) ثم زاد في تأكيد هذا النفي بقوله : (إِنْ) أي : ما (أَجْرِيَ) على أحد (إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) فهو المتفضل المنعم على خلقه ، ثم شرع ينكر عليهم أكل خيره وعبادة غيره بقوله : (أَتُتْرَكُونَ) أي : من أيدى النوائب التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى (فِي ما هاهُنا) أي : في بلادكم هذه من النعم حالة كونكم (آمِنِينَ) لا تخافون وأنتم تبارزون الملك القهار بالعظائم.
فائدة : تكتب في ما ههنا في مقطوعة عن ما.
ثم فسر ما أجمله بقوله : (فِي جَنَّاتٍ) أي : بساتين تستر الداخل فيها وتخفيه لكثرة أشجارها (وَعُيُونٍ) تسقيها مع مالها من البهجة وغير ذلك من المنافع. (وَزُرُوعٍ) أي : من سائر الأنواع (وَنَخْلٍ طَلْعُها) أي : ما يطلع منها من الثمر (هَضِيمٌ) قال ابن عباس : هو اللطيف ، ومنه قوله : كشح هضيم ، وقيل : هو الجواد الكريم من قولهم : يد هضوم إذا كانت تجود بما لديها ، وقال أهل المعاني هو المنضم بعضه إلى بعض في وعائه قبل أن يظهر ، والطلع : عنقود الثمر قبل خروجه من الكمّ ، وقال الزمخشري : الطلع هو الذي يطلع من النخلة كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو والقنو هو اسم للخارج من الجذع كما هو بعرجونه.
فإن قيل : لم قال ونخل بعد قوله : (فِي جَنَّاتٍ) والجنة تتناول النخل أول شيء كما يتناول النعم الإبل كذلك من بين الأزواج حتى إنهم ليذكرون الجنة ولا يقصدون إلا النخيل كما يذكرون النعم ولا يريدون إلا الإبل قال زهير (١) :
تسقى جنة سحقا
وسحقا : جمع سحوق ، ولا يوصف به إلا النخل؟ أجيب : بوجهين : أحدهما : أنه خص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر الشجر تنبيها على انفراده عنها بفضله عليها ، الثاني : أن
__________________
(١) البيت بتمامه :
كأنّ عينيّ في غربي مقتّلة |
|
من النواضح تسقي جنة سحقا |
والبيت من البسيط ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٣٧ ، ولسان العرب (سحق) ، (قتل) ، (جنن) ، ومجمل اللغة ١ / ١٠٠ ، ومقاييس اللغة ١ / ٤٢١ ، وتاج العروس (سحق) ، (قتل) ، (جنن).