لذلك ، ثم أكد النفي بقوله (إِنْ) أي : ما (أَجْرِيَ) أي : ثوابي في دعائي لكم (إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) أي : الذي دبر جميع الخلائق ورباهم ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص بفتح الياء في أجري في المواضع الخمسة في هذه السورة ، والباقون بالسكون.
ولما انتفت التهمة تسبب عن انتفائها الإعادة ما قدمه إعلاما بالاهتمام به زيادة في الشفقة عليهم فقال : (فَاتَّقُوا اللهَ) أي : الذي حاز جميع صفات العظمة (وَأَطِيعُونِ) ولما أقام الدليل على نصحه وأمانته. (قالُوا) أي : قومه منكرين عليه ومنكرين لاتباعه استنادا إلى الكبر الذي ينشأ عنه بطر الحق وغمص الناس أي : احتقارهم (أَنُؤْمِنُ لَكَ) أي : لأجل قولك هذا وما أوتيته من أوصافك (وَ) الحال أنه قد (اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) أي : فيكون إيماننا بك سببا لاستوائنا معهم ، والرذالة : الخسة والذلة ، وإنما استرذلوهم لاتضاع نسبهم وقلة نصيبهم من الدنيا ، قيل : كانوا من أهل الصناعات الخسيسة كالحياكة والحجامة والصناعة لا تزري بالديانة وهكذا كانت قريش تقول في أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وما زالت أتباع الأنبياء كذلك حتى كادت من سماتهم وأماراتهم ، ألا ترى إلى هرقل حيث سأل أبا سفيان عن أتباع رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلما قال ضعفاء الناس وأراذلهم قال : ما زالت أتباع الأنبياء كذلك ، وعن ابن عباس هم الفاغة ، وعن عكرمة الحاكة والإساكفة ، وعن مقاتل السفلة.
ولما كانت هذه الشبهة في غاية الركاكة لأنّ نوحا بعث إلى جميع قومه فلا يختلف الحال بسبب الفقر والغنى وشرف المكاسب وخستها أجابهم بقوله : (قالَ وَما) أي : أي شيء (عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) قبل أن يتبعوني أي : مالي وللبحث عن سرائرهم ، وإنما قال هذا لأنهم قد طعنوا مع استرذالهم في إيمانهم وأنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة وإنما آمنوا هوى وبديهة كما حكى الله عنهم في قوله : (إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) [هود : ٢٧].
ثم أكد أنه لا يبحث عن بواطنهم بقوله : (إِنْ) أي : ما (حِسابُهُمْ) أي : في الماضي والآتي (إِلَّا عَلى رَبِّي) أي : المحسن إليّ فهو محاسبهم ومجازيهم ، وأمّا أنا فلست بمحاسب ولا مجاز (لَوْ تَشْعُرُونَ) أي : لو كان لكم نوع شعور لعلمتم ذلك فلم تقولوا ما قلتم ما هو دائر على أمور الدنيا فقط ولا نظر له إلى يوم الحساب ، فإنّ الغنى غنى الدين والنسب نسب التقوى.
ولما أوهم قولهم : هذا استدعاء طرد هؤلاء الذين آمنوا معه وتوقيف إيمانهم عليه حيث جعلوا أتباعهم المانع عنه أجابهم بقوله عليهالسلام.
(وَما) أي : ولست (أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : الذين صار الإيمان لهم وصفا راسخا فلم يرتدوا عنه للطمع في إيمانكم ولا لغيره من أتباع شهواتكم ، ثم علل ذلك بقوله : (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) أي : محذر لا وكيل فاتش على البواطن ولا متنعت عن الاتباع (مُبِينٌ) أوضح ما أرسلت به فلا أدع فيه لبسا ، وقرأ قالون بمدّ أنا في الوصل بخلاف عنه ، والباقون بالقصر.
ولما أجابهم بهذا الجواب وقد أيسوا مما راموه لم يكن منهم إلا التهديد بأن. (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) ثم سموه باسمه جفاء وقلة أدب بقولهم : (يا نُوحُ) عما تقوله (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) قال مقاتل والكلبي : من المقتولين بالحجارة ، وقال الضحاك : من المشتومين فعند ذلك حصل اليأس لنوح عليهالسلام من فلاحهم فلذلك.
(قالَ) شاكيا إلى الله ما هو أعلم به منه توطئة للدّعاء عليهم ومعرضا عن تهديدهم له صبرا