لدن خلقه وإنشائه إلى حين وفاته مع ما يرجى في الآخرة من رحمته ، ثم أتبع ذلك أن دعاه بدعوات المخلصين وابتهل إليه ابتهال الأوابين ، ثم وصله بذكر يوم القيامة وثواب الله تعالى وعقابه وما يدفع إليه المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال وتمني الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا.
(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : المذكور من قصة إبراهيم وقومه (لَآيَةً) أي : عظة على بطلان الباطل وحقوق الحق (وَما) أي : والحال أنه ما (كانَ أَكْثَرُهُمْ) أي : الذين شهدوا منهم هذا الأمر العظيم الذي سمعوه عنه (مُؤْمِنِينَ) أي : بحيث صار الإيمان صفة لهم ثابتة وفي ذلك أعظم تسلية لنبينا صلىاللهعليهوسلم.
(وَإِنَّ رَبَّكَ) أي : المحسن إليك بإرسالك وهداية الأمة بك (لَهُوَ الْعَزِيزُ) أي : القادر على إيقاع النقمة بكل من خالفه حين يخالفه (الرَّحِيمُ) أي : الفاعل فعل الراحم في إمهاله العصاة مع إدرار النعم ودفع النقم وإرسال الرسل ونصب الشرائع لكي يؤمنوا أو أحد من ذرّيتهم.
ولما أتم سبحانه وتعالى قصة الأب الأعظم الأقرب إبراهيم عليهالسلام أتبعها بقصة الأب الثاني وهو نوح عليهالسلام وهي القصة الثالثة مقدما لها على غيرها لما له من القدم في الزمان إعلاما بأنّ البلاء قديم ولأنها أدل على صفتي الرحمة والنعمة اللتين هما أثر الغرة بطول الإملاء لهم على طول مدتهم ثم تعميم النعمة مع كونهم جميع أهل الأرض فقال : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ) وهم أهل الأرض كلها من الآدميين قبل اختلاف الأمم بتفرّق اللغات (الْمُرْسَلِينَ) أي : بتكذيبهم نوحا عليهالسلام لأنه أقام الدليل على نبوته بالمعجزة ومن كذب بالمعجزة فقد كذب بجميع المعجزات لتساوي أقدامها في الدلائل على صدق الرسول ، وقد سئل الحسن البصري عن ذلك فقال : من كذب واحدا من الرسل فقد كذب الكل لأنّ الأخير جاء بما جاء به الأوّل.
تنبيه : القوم يؤنث باعتبار معناه ولذا يصغر على قويمة ، ويذكر باعتبار لفظه وتذكيره أشهر ، واختير التأنيث ههنا للتنبيه على أن فعلهم أخس الأفعال وإلى أنهم مع عتوّهم وكثرتهم كانوا عليه سبحانه وتعالى أهون شيء وأضعفه بحيث جعلهم هباء منثورا وكذا من بعدهم ولأجل التسلية عبر بالتكذيب في كل قصة.
(إِذْ) أي : حين (قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ) أي : في النسب لا في الدين (نُوحٌ) وذكر الأخوة زيادة في تسلية النبيّ صلىاللهعليهوسلم وأشار تعالى إلى حسن أدب نوح عليهالسلام مع قومه واستجلابهم برفقه ولينه بقوله لهم (أَلا تَتَّقُونَ) الله بأن تجعلوا بينكم وبينه وبين الحفظة وقاية بطاعته بالتوحيد وترك الالتفات إلى غيره ثم علل أهليته للأمر عليهم بقوله : (إِنِّي لَكُمْ) أي : مع كوني أخاكم يسرّني ما يسرّكم ويسوءني ما يسوءكم (رَسُولٌ) أي : من عند خالقكم فلا مندوحة لي عما أمرت به (أَمِينٌ) أي : مشهور بالأمانة بينكم لا غش عندي كما تعلمون ذلك مني على طول خبرتكم لي.
ثم تسبب عن ذلك الرفق الجزم بالأمر فقال : (فَاتَّقُوا اللهَ) أي : أوجدوا الخوف والحذر والتحرز الذي اختص بالجلال والجمال لتحوزوا أصل السعادة فتكونوا من أهل الجنة (وَأَطِيعُونِ) فيما آمركم به من توحيد الله وطاعته.
ثم نفى عن نفسه التهمة بعد أن أثبت أمانته بقوله : (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي : على هذا الحال الذي أتيتكم به وأشار إلى الإغراق في النفي بقوله (مِنْ أَجْرٍ) لتظنوا أني جعلت الدعاء سببا