الكب لتكرير معناه كأنّ من ألقى في النار ينكب مرّة بعد أخرى حتى يستقرّ في قعرها ، وقال الزجاج : طرح بعضهم فوق بعض ، وقال القتيبي : ألقوا على رؤوسهم.
(وَجُنُودُ إِبْلِيسَ) وهم اتباعه ومن أطاعه من الإنس والجنّ ، وقيل ذريته (أَجْمَعُونَ) ولما لم يتمكنوا من قول في جواب استفهامهم قبل إلقائهم. (قالُوا) أي : العبدة (وَهُمْ فِيها) أي : الجحيم (يَخْتَصِمُونَ) أي : مع المعبودات وقولهم : (تَاللهِ) أي : الذي له جميع الكمال (إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : ظاهر جدّا لمن كان له قلب سليم معمول قولهم وما بينهما ، وهو وهم فيها يختصمون جملة حالية معترضة بين القول ومعموله وقيل : إنّ الأصنام تنطق وتخاصم العبدة ، ويؤيده الخطاب في قولهم : (إِذْ) أي : حين (نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) في استحقاق العبادة.
تنبيه : إذ منصوب إما بمبين أو بمحذوف أي : ضللنا في وقت تسويتنا لكم بالله في العبادة.
(وَما أَضَلَّنا) أي : ذلك الضلال المبين عن الطريق البين (إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) أي : الأولون الذين اقتدينا بهم من رؤسائنا وكبرائنا كما في آية أخرى (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [الأحزاب : ٦٧] وعن ابن جريج : إبليس وابن آدم الأوّل وهو قابيل وهو أوّل من سنّ القتل وأنواع المعاصي.
(فَما) أي : فتسبب عن ذلك أنه ما (لَنا) اليوم وزادوا في تعميم النفي بزيادة الجار فقالوا (مِنْ شافِعِينَ) يكونون سببا لإدخالنا الجنة كالمؤمنين تشفع لهم الملائكة والنبيون.
(وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) أي : قريب يشفع لنا يقول ذلك الكفار حين تشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون ، والصديق : هو الصادق في ودادك الذي يهمه ما أهمك مع موافقة الدين ، وعن جابر قال سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إنّ الرجل ليقول في الجنة ما فعل صديقي فلان وصديقه في الجحيم فيقول الله تعالى أخرجوا له صديقه إلى الجنة فيقول من بقي في النار فما لنا من شافعين ولا صديق حميم» (١) قال الحسن : استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فإنّ لهم شفاعة يوم القيامة ، فإن قيل : لم جمع الشافع ووحد الصديق؟ أجيب : بأنّ الشفعاء كثيرون في العادة رحمة له وحسبة وإن لم يسبق له بأكثرهم معرفة ، وأما الصديق وهو الصادق في ودادك الذي يهمه ما أهمك ، قال الزمخشري : فأعز من بيض الأنوق انتهى. قال الجوهريّ : الأنوق على فعول طير وهو الرخمة وفي المثل أعز من بيض الأنوق لأنها محرزة فلا يكاد يظفر بها لأنّ أوكارها في رؤوس الجبال والأماكن الصعبة البعيدة ، وعن بعض الحكماء أنه سئل عن الصديق فقال اسم لا معنى له : أي : لا يوجد.
ولما وقعوا في هذا الهلاك وانتفى عنهم الخلاص تسبب عنه تمنيهم المحال فقالوا : (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) أي : رجعة إلى الدنيا (فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : الذين صار الإيمان لهم وصفا لازما فأزلفت لهم الجنة.
تنبيه : انظر ما أحسن ما رتب إبراهيم عليهالسلام كلامه مع المشركين حين سألهم أوّلا عما يعبدون سؤال مقرر لا مستفهم ثم أنحى على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضرّ ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع وعلى تقليدهم آباؤهم الأقدمين فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة فضلا عن أن يكون حجة ، ثم صور المسألة في نفسه دونهم حتى تخلص منها إلى ذكر الله عزوجل فعظم شأنه وعدد نعمته من
__________________
(١) أخرجه البغوي في تفسيره ٥ / ١٢١ ، والقرطبي في تفسيره ١٣ / ١١٨.