ولما دعا كفار قريش النبي صلىاللهعليهوسلم إلى دين آبائهم قال الله تعالى : (قُلْ) أي : لهم (أَفَغَيْرَ اللهِ) أي : الملك الأعظم (تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) أي : العريقون في الجهل لأن الدليل القاطع قد قام بأن الله تعالى هو المستحق للعبادة فمن عبد غيره فهو جاهل ، وقرأ نافع بتخفيف النون وفتح الياء وابن كثير بتشديد النون وسكون الياء ، وابن عامر بنونين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة وسكون الياء والباقون بتشديد النون وسكون الياء.
(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) أي : الذي عملته قبل الشرك ، فإن قيل : الموحى إليهم جماعة فكيف قال لئن أشركت على التوحيد؟ أجيب : بأن تقدير الآية أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك وإلى الذين من قبلك مثله أي : أوحي إليك وإلى كل واحد منهم لئن أشركت كما تقول : كسانا حلة أي : كل واحد منا ، فإن قيل : كيف صح هذا الكلام مع علم الله تعالى أن رسله لا يشركون ولا تحبط أعمالهم؟ أجيب : بأن قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) قضية شرطية ، والقضية الشرطية لا يلزم من صدقها صدق جزئها ، ألا ترى أن قولك لو كانت الخمسة زوجا لكانت منقسمة بمتساويين ، قضية صادقة مع أن كل واحد من جزأيها غير صادق قال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] ولم يلزم من هذا صدق أن فيهما آلهة وأنهما قد فسدتا أو أن الخطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم والمراد به غيره كما قاله أكثر المفسرين أو أن ذلك على سبيل الفرض المحال ذكر ليكون ردعا للأتباع.
ولما كان السياق للتهديد وكانت العبارة شاملة لما تقدم على الشرك من الأعمال وما تأخر عنه لم يقيده بالاتصال بالموت اكتفاء بتقييده في آية البقرة وهي (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) [البقرة : ٢١٧] قال تعالى : (وَلَتَكُونَنَ) أي : لأجل حبوطه (مِنَ الْخاسِرِينَ) فإن من ذهب جميع عمله لا شك في خسارته أما من أسلم بعد ردته فإنما يحبط ثواب عمله لا عمله كما نص عليه الشافعي.
تنبيه : اللام الأولى موطئة للقسم والأخريان للجواب.
ولما كان التقدير لا تشرك بنا عطف عليه قوله تعالى : (بَلِ اللهَ) أي : المتصف بصفات الكمال وحده (فَاعْبُدْ) أي : مخلصا له العبادة (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي : العريقين في هذا الوصف لأنه جعلك خير الخلائق أجمعين.
ولما حكى الله تعالى عن المشركين أنهم أمروا الرسول بعبادة الأصنام ، ثم إنه تعالى أقام الدلائل على فساد قولهم وأمر الرسول أن يعبد الله ولا يعبد سواه ، وبين أنهم لو عرفوا الله تعالى حق معرفته لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة له في العبودية قال : (وَما قَدَرُوا اللهَ) أي : الملك الأعظم (حَقَّ قَدْرِهِ) أي : ما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره مع أنهم لو استغرقوا الزمان كله في عبادته وخالص طاعته بحيث لم يخل شيء منه عنها لما كان ذلك حق قدره فكيف إذا خلا بعضه عنها فكيف إذا عدل به غيره.
ولما بين أنهم ما عظموه تعظيما لائقا به أردفه بما يدل على كمال عظمته بقوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ) وهو مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال أي : ما عظموه حق عظمته والحال أنه موصوف بهذه القدرة الباهرة كقوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨] أي : كيف تكفرون بمن هذا وصفه وحال ملكه كذا ، وجميعا حال وهي دالة