على أن لكل متق مفازة ، والباقون بغير ألف بعد الزاي إفرادا وقوله تعالى (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) جملة مفسرة لمفازتهم كأنه قيل : وما مفازتهم؟ فقال : لا يمسهم السوء فلا محل لها ، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من الذين اتقوا ، ومعنى الكلام لا يمسهم مكروه (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي : ولا يطرق بواطنهم حزن على فائت لأنه لا يفوت لهم شيء أصلا.
ولما كان المخوف منه والمحزون عليه جامعين لكل ما في الكون فكان لا يقدر على دفعهما إلا القادر المبدع القيوم قال تعالى مستأنفا أو معللا ، مظهرا الاسم الأعظم تعظيما للمقام : (اللهُ) أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلما والذي نجاهم (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أي : من خير وشر وإيمان وكفر فلا يكون شيء أصلا إلا بخلقه.
ولما دل هذا على القدرة الشاملة وكان لا بد معها من العلم الكامل قال تعالى : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) أي : مع القهر والغلبة (وَكِيلٌ) أي : حفيظ لجميع ما يريده قيوم لا عجز يلم بساحته ولا غفلة.
وقوله تعالى : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) جملة مستأنفة والمقاليد جمع مقلاد مثل مفتاح ومفاتيح أو مقليد مثل منديل ومناديل أي : هو مالك أمرها وحافظها وهي من باب الكناية لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي يملك مقاليدها ، ومنه قولهم فلان ألقيت إليه مقاليد الملك وهي المفاتيح والكلمة أصلها فارسية ، فإن قيل : ما للكتاب المبين والفارسية؟ أجيب : بأن التعريب قد أحالها عربية كما أخرج استعمال المهمل عن كونه مهملا ، قال الزمخشري : «سأل عثمان النبي صلىاللهعليهوسلم عن تفسير قوله تعالى : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فقال : يا عثمان ما سألني أحد عنها قبلك تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير» (١). وروى هذا الطبراني بسند ضعيف بل رواه ابن الجوزي في الموضوعات ، ثم قال الزمخشري وتأويله على هذا : أن الله تعالى في هذه الكلمات يوحد بها ويمجد وهي مفاتيح خير السموات والأرض من تكلم بها من المتقين أصابه ، وقال قتادة ومقاتل : مفاتيح السموات والأرض بالرزق والرحمة وقال الكلبي : خزائن المطر والنبات.
ولما وصف الله تعالى بالصفة الإلهية والجلالة وهو كونه خالقا للأشياء وكونه مالكا لمقاليد السموات والأرض بأسرها قال بعده : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي : لبسوا ما اتضح من الدلالات وجحدوا (بِآياتِ اللهِ) أي : دلائل قدرته الظاهرة الباهرة (أُولئِكَ) أي : البعداء البغضاء (هُمُ الْخاسِرُونَ) لأنهم خسروا أنفسهم وكل شيء متصل بها على وجه النفع ، وقال الزمخشري : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) متصل بقوله : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ) [الزمر : ٦١] واعترض بينهما بأنه خالق الأشياء كلها وأن له مقاليد السموات والأرض ، واعترضه الرازي : بأن وينجي جملة فعلية والذين كفروا جملة اسمية وعطف الجملة الاسمية على الفعلية لا يجوز واعترض الآخر بأنه لا مانع من ذلك.
__________________
(١) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ٣٠٤٠ ، والعقيلي في الضعفاء ٤ / ٢٣١ ، والسيوطي في اللآلئ المصنوعة ١ / ٤٥ ، والذهبي في ميزان الاعتدال ٨٣٩٥.