الشبهة بأن قال تعالى لنبيه صلىاللهعليهوسلم : (قُلْ) أي : لهؤلاء البعداء البغضاء (يُحْيِيهَا) أي : بعد أن أنشأها أول مرة (الَّذِي أَنْشَأَها) أي : من العدم ثم أحياها (أَوَّلَ مَرَّةٍ) فكما خلق الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا كذلك يعيده إن لم يبق شيئا مذكورا.
الوجه الثاني : أن من تفرقت أجزاؤه في مشارق العالم ومغاربه وصار بعضها في أبدان السباع وبعضها في حواصل الطيور وبعضها في جدران الربوع كيف تجتمع.
وأبعد من هذا لو أكل إنسان إنسانا وصار أجزاء المأكول في أجزاء الآكل فإن أعيدت أجزاء الآكل فلا يبقى للمأكول أجزاء تنخلق منها أعضاؤه وإما أن تعاد إلى بدن المأكول فلا يبقى للآكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية وفي المأكول كذلك ، فإذا أكل إنسان إنسانا صار الأصلي من أجزاء المأكول فضليا من أجزاء الآكل والأجزاء الأصلية للآكل هي ما كان قبل الأكل فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ) أي : مخلوق (عَلِيمٌ) أي : يجمع الأصل من الفضل فيجمع الأجزاء الأصلية للآكل ويجمع الأجزاء الأصلية للمأكول وينفخ فيه روحه وكذلك يجمع أجزاءه المتفرقة في البقاع المتبددة بحكمته وقدرته.
ثم إنه تعالى عاد إلى تقرير ما تقدم من دفع استبعادهم وإبطال إنكارهم بقوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ) أي : في جملة الناس (مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ) أي : الذي تشاهدون فيه الماء (ناراً) قال ابن عباس : هما شجرتان يقال لإحداهما : المرخ والأخرى : العفار ، الأول : بفتح الميم والخاء المعجمة شجر سريع الوري أي : القدح ، والثاني : بفتح المهملة وفاء وراء بعد ألف الزند فمن أراد منهما النار قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما أخضران يقطران الماء فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهو أنثى فيخرج منهما النار بإذن الله تعالى وتقول العرب : في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار ، وقال الحكماء : في كل شجر نار إلا العناب (فَإِذا أَنْتُمْ) أي : فتسبب عن ذلك مفاجأتكم لأنه (مِنْهُ) أي : من الشجر الموصوف بالخضرة (تُوقِدُونَ) أي : توجدون الإيقاد ويتجدد لكم ذلك مرة بعد أخرى وهذا أدل على القدرة على البعث فإنه جمع فيه بين الماء والنار والخشب فلا الماء يطفئ النار ولا النار تحرق الخشب.
ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان فقال تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ) أي : أوجد من العدم (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي : على كبرهما وعظم ما فيهما من المنافع والمصانع والعجائب والبدائع ، وأثبت الجار تحقيقا للأمر وتأكيدا للتقرير فقال تعالى (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أي : مثل هؤلاء الأناسي في الصغر أي : يعيدهم بأعيانهم ، وقيل : الضمير يعود على السموات والأرض لتضمنهم من يعقل والأول أظهر ؛ لأنهم المخاطبون وقوله تعالى (بَلى) جواب ليس وإن دخل عليها الاستفهام المصير لها إيجابا أي : هو قادر على ذلك أجاب نفسه تعالى (وَهُوَ) مع ذلك أي : مع كونه عالما بالخلق (الْخَلَّاقُ) أي : الكثير الخلق (الْعَلِيمُ) أي : البالغ في العلم الذي هو منشأ القدرة فلا يخفى عليه كلي ولا جزئي في ماض ولا حال ولا مستقبل شاهد أو غائب.
ولما تقرر ذلك أنتج قوله تعالى مؤكدا لأجل إنكارهم القدرة على البعث : (إِنَّما أَمْرُهُ) أي : شأنه ووصفه (إِذا أَرادَ شَيْئاً) أي : خلق شيء من جوهر أو عرض أي شيء كان (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ) أي : أن يريده (فَيَكُونُ) أي : يحدث وهو تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة قطعا لمادة الشبهة وهو