مصرحا بما اقتضاه ما قبله (وَدَعْ) أي : اترك على حالة حسنة لك وأمر جميل بك (أَذاهُمْ) فلا تحسب له حسابا أصلا ، واصبر عليه فإن الله تعالى دافع عنك لأنك داع بإذنه (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي : الملك الأعلى (وَكَفى بِاللهِ) أي : الذي له الإحاطة الكاملة (وَكِيلاً) أي : حافظا. قال البغوي : وهذا منسوخ بآية القتال.
ولما بدأ الله تعالى بتأديب النبي صلىاللهعليهوسلم بذكر ما يتعلق بجانب الله تعالى بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) وثنى بما يتعلق بجانب من هو تحت يده من أزواجه الشريفات بقوله تعالى : بعده : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) وثلث بما يتعلق بذكر العامة بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) وكان تعالى كلما ذكر لنبيه مكرمة وعلمه أدبا ذكر للمؤمنين ما يناسبه ، فلذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بجانب الله تعالى فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) ثم ثنى بما يتعلق بجانب من تحت أيديهم بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ) أي : عقدتم على الموصوفات بهذا الوصف الشريف المقتضى لغاية الرغبة فيهن ، وأتم الوصلة بينكم وبينهن ثم كما ثلث في تأديب النبي صلىاللهعليهوسلم بجانب الأمة ثلث في حق المؤمنين بما يتعلق بهم فقال بعد هذا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) [الأحزاب : ٥٣] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب : ٥٦] فإن قيل : إذا كان هذا إرشادا بما يتعلق بجانب منه ومن خواص المرأة فلم خص المطلقات اللاتي طلقن قبل المسيس بقوله تعالى : (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) أي : تجامعوهن ، أطلق المس على الجماع ؛ لأنه طريق له كما سمى الخمر إثما ؛ لأنها سببه؟ أجيب : بأن هذا إرشاد إلى أعلى درجات المكرمات ليعلم منها ما دونها.
وبيانه : أن المرأة إذا طلقت قبل المسيس لم يحصل بينهما تأكيد العهد ، ولهذا قال تعالى في حق الممسوسة : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) [النساء : ٢١] فإذا أمر الله تعالى بالتمتع والإحسان مع من لا مودة بينه وبينها فما ظنك بما حصلت المودة بالنسبة إليها بالإفضاء ، أو حصل تأكدها بحصول الولد بينهما ، وهذا كقوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) [الإسراء : ٢٣] ولو قال : لا تضر بهما ولا تشتمهما ظن أنه حرام لمعنى يختص بالضرب أو الشتم لهما ، فأما إذا قال : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) لعلم منه معان كثيرة فكذلك ههنا أمر بالإحسان مع من لا مودة معها ، فعلم منه الإحسان إلى الممسوسة ، ومن لم تطلق بعد ، ومن ولدت عنده منه ، وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء وألف بعد الميم ، والباقون بفتح التاء ولا ألف بعد الميم.
ولما كانت العدة حقا للرجال وإن كانت لا تسقط بإسقاطهم لما فيها من حق الله تعالى قال تعالى : (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ) أي : أياما يتربصن فيها بأنفسهن (تَعْتَدُّونَها) أي : تحصونها وتستوفونها بالأقراء وغيرها ، فتعتدونها صفة لعدة ، وتعتدونها إما من العدد ، وإما من الاعتداد ، أو تحسبونها أو تستوفون عددها من قولك : عد الدراهم فاعتدها أي : استوفى عددها نحو : كلته فاكتال ووزنته فاتزن ، فإن قيل : ما الفائدة في الاتيان بثم وحكم من طلقت على الفور بعد العقد كذلك؟ أجيب : بأن ذلك إزاحة لما قد يتوهم أن تراخي الطلاق ريثما تمكن الإصابة كما يؤثر في النسب فيؤثر في العدة ، وظاهره يقتضي عدم وجود العدة بمجرد الخلوة ، وتخصيص المؤمنات والحكم عام للتنبيه على أن شأن المؤمن أن لا ينكح إلا مؤمنة تخيرا لنطفة المؤمن ، وفي هذه الآية دليل على أن تعليق الطلاق قبل النكاح لا يصح ؛ لأن الله تعالى رتب الطلاق بكلمة ثم وهي