(وَعِبادُ الرَّحْمنِ) فأضافهم إليه رفعة لهم وإن كان الخلق كلهم عباده وأضافهم إلى وصف الرحمة الأبلغ الذي أنكره أولئك تبشيرا لهم ، ثم وصفهم بضد ما وصف به المتكبرين عن السجود إشارة إلى أنهم تخلقوا من هذه الصفة التي أضيفوا إليها بصفات كثيرة ؛ الصفة الأولى : قوله تعالى : (الَّذِينَ يَمْشُونَ) وقال تعالى : (عَلَى الْأَرْضِ) تذكيرا بما يصيرون إليه وحثا على السعي في معالي الأخلاق (هَوْناً) أي : هينين أو مشيا هينا مصدر وصف به مبالغة والهون الرفق واللين ، ومنه الحديث : «أحبب حبيبك هونا ما» (١) ، وقوله : «المؤمنون هينون» (٢) ، والمثل : إذا عز أخوك فهن ، والمعنى إذا عاسر فياسر ، والمعنى أنهم يمشون بسكينة وتواضع ووقار لا يضربون لوقارهم بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق لقوله تعالى : (وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان ، ٢٠].
تنبيه : عباد مرفوع بالابتداء وفي خبره وجهان ؛ أحدها : الجملة الأخيرة في آخر السورة أولئك يجزون وبه بدأ الزمخشري والذين يمشون وما بعده صفات للمبتدأ ، والثاني : أن الخبر الذين يمشون. الصفة الثانية (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ) أي : بما يكرهون (قالُوا سَلاماً) أي : تسلما منكم لا نجاهلكم ومتاركة لا خير بيننا ولا شر أي : فنسلم منكم تسلما فأقيم السلام مقام التسلم وقيل : قالوا : سدادا من القول أي : يسلمون فيه من الإثم والإيذاء وليس المراد التحية ؛ لأن المؤمنين لم يؤمروا بالسلام على المشركين ، وعن أبي العالية : نسختها آية القتال ولا حاجة إلى ادعاء النسخ بآية القتال ولا غيرها ؛ لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة أسلم للعرض والورع ، وأطلق الخطاب إعلاما بأن أكثر خصال الجاهل وهو الذي يخالف العلم والحكمة الجهل وهو السفه وقلة الأدب من قوله (٣) :
ألا لا يجهلن أحد علينا |
|
فنجهل فوق جهل الجاهلينا |
ولما ذكر تعالى ما بينهم وبين الخلق ذكر ما بينهم وبينه وهي الصفة الثالثة بقوله تعالى :
(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ
__________________
(١) أخرجه الترمذي في البر حديث ١٩٩٧.
(٢) أخرجه التبريزي في مشكاة المصابيح ٥٠٨٦ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٦٩٣ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ٤٠٢.
(٣) البيت من الوافر ، وهو لعمرو بن كلثوم في ديوانه ص ٧٨ ، ولسان العرب (رشد) ، وأمالي المرتضى ١ / ٥٧ ، ٣٢٧ ، ٢٢ / ١٤٧ ، والبصائر والذخائر ٢ / ٨٢٩ ، وبهجة المجالس ٢ / ٦٢١ ، وجمهرة أشعار العرب ١ / ٤١٤ ، وخزانة الأدب ٦ / ٤٣٧ ، وشرح ديوان امرىء القيس ص ٣٢٧ ، وشرح شواهد المغني ١ / ١٢٠ ، وشرح القصائد السبع ص ٤٢٦ ، وشرح القصائد العشر ص ٣٦٦ ، وشرح المعلقات السبع ص ١٧٨ ، وشرح المعلقات العشر ص ٩٢ ، وعيون الأخبار ٢ / ٢١١ ، وبلا نسبة في لسان العرب (خدع) ، والمخصص ٣ / ٨١ ، وأساس البلاغة (جهل).