(فَتَعالَيْنَ) أصله أن الآمر يكون أعلى من المأمور فيدعوه أن يرفع نفسه إليه ، ثم كثر حتى صار معناه أقبل وهو هنا كناية عن الإخبار والإرادة بعلاقة أن المخبر يدنو إلى من يخبره (أُمَتِّعْكُنَ) أي : بما أحسن به إليكن من متعة الطلاق ، وهي واجبة لزوجة لم يجب لها نصف مهر فقط بأن وجب لها جميع المهر ، أو كانت مفوضة لم توطأ ولم يفرض لها شيء صحيح.
أما في الأولى : فلأن المهر في مقابلة منفعة بضعها ، وقد استوفاها الزوج فتجب للإيحاش المتعة ، وأما في الثانية : فلأن المفوضة لم يحصل لها شيء ، فيجب لها متعة للإيحاش ، بخلاف من وجب لها النصف فلا متعة لها لأنه لم يستوف منفعة بضعها فيكفي نصف مهرها للإيحاش. هذا إذا كان الفراق لا بسببها ، وسن أن لا تنقص عن ثلاثين درهما أو ما قيمته ذلك ، وأن لا تبلغ نصف المهر ، فإن تراضيا على شيء فذاك ، وإلا قدرها قاض باجتهاده بقدر حالهما من يساره وإعساره ونسبها وصفاتها قال تعالى (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) [البقرة : ٢٣٦] (وَأُسَرِّحْكُنَ) أي : من حبالة عصمتي (سَراحاً جَمِيلاً) أي : طلاقا من غير مضارة ولا نوع حطة ولا مقاهرة.
(وَإِنْ كُنْتُنَ) أي : بما لكن من الجبلة (تُرِدْنَ اللهَ) أي : الآمر بالإعراض عن الدنيا (وَرَسُولَهُ) أي : المؤتمر بما أمره به من الانسلاخ عنها ، المبلغ للعباد جميع ما أرسله به من أمر الدنيا والدين ، لا يدع منه شيئا لما له عليكن وعلى سائر الناس من الحق بما يبلغهم عن الله تعالى (وَالدَّارَ الْآخِرَةَ) أي : التي هي الحيوان بما لها من البقاء والعلو والارتقاء (فَإِنَّ اللهَ) بما له من جميع صفات الكمال (أَعَدَّ) أي : في الدنيا والآخرة (لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَ) أي : اللاتي يفعلن ذلك (أَجْراً عَظِيماً) تستحقر دونه الدنيا وزينتها ، ومن للبيان لأنهن كلهن محسنات.
قال المفسرون : سبب نزول هذه الآية : أن نساء النبي صلىاللهعليهوسلم سألنه من عرض الدنيا شيئا ، وطلبن منه زيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض ، فهجرهن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وآلى أن لا يقربهن شهرا ولم يخرج إلى أصحابه فقالوا : ما شأنه وكانوا يقولون : طلق رسول الله صلىاللهعليهوسلم نساءه ، فقال عمر : لأعلمن لكم شأنه قال : فدخلت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقلت : يا رسول الله أطلقتهن قال : لا فقلت : يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون : طلق رسول الله صلىاللهعليهوسلم نساءه ، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن قال : نعم إن شئت.
فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله صلىاللهعليهوسلم نساءه» (١) ونزل قوله تعالى : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء : ٨٣] فكنت أنا الذي استنبط ذلك الأمر ، وأنزل الله تعالى آية التخيير وكان تحت رسول الله صلىاللهعليهوسلم تسع نسوة ، خمس من قريش عائشة بنت أبي بكر ، وحفصة بنت عمر ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وأم سلمة بنت أبي أمية ، وسودة بنت زمعة ، وأربع من غير القريشيات : زينب بنت جحش الأسدية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية.
فلما نزلت آية التخيير عرض عليهن رضي الله تعالى عنهن ذلك ، وبدأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعائشة رأس المحسنات إذ ذاك ، وكانت أحب أهله فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار
__________________
(١) أخرجه مسلم في الطلاق حديث ١٤٧٩.