أباح لكم التمتع بهن (تُظاهِرُونَ مِنْهُنَ) كما يقول الإنسان للواحدة منهن : أنت عليّ كظهر أمي (أُمَّهاتِكُمْ) بما حرم عليكم من الاستمتاع بهن حتى تجعلوا ذلك على التأبيد وترتبوا على ذلك أحكام الأمهات كلها (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ) جمع دعيّ وهو من يدعي لغير أبيه (أَبْناءَكُمْ) حقيقة ليجعل لهم إرثكم ويحرم عليكم حلائلهم وغير ذلك من أحكام الأبناء.
والمعنى : أن الله سبحانه وتعالى كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين لأنه لا يخلو أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب ، فأحدهما فضلة غير محتاج إليها ، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريدا كارها عالما ظانا موقنا شاكا في حالة واحدة لم ير أيضا أن تكون المرأة الواحدة أما لرجل زوجا له ، لأن الأم مخدومة مخفوض لها الجناح ، والمرأة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوكة ، وهما حالتان متنافيتان ولم ير أيضا أن يكون الرجل الواحد دعيا لرجل وابنا له ؛ لأن البنوة أصالة في النسب وعراقة فيه ، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير ، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل.
وهذا مثل ضربه الله تعالى في زيد بن حارثة وهو رجل من كلب سبي صغيرا وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة ، فلما تزوجها النبي صلىاللهعليهوسلم وهبته له وطلبه أبوه وعمه فخير فاختار النبي صلىاللهعليهوسلم فقال له أبوه وعمه : يا زيد أتختار العبودية على الربوبية قال : ما أنا بمفارق هذا الرجل فلما رأى رسول الله صلىاللهعليهوسلم حرصه عليه أعتقه وتبناه قبل الوحي ، وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطلب ، فلما تزوج رسول الله صلىاللهعليهوسلم زينب بنت جحش وكانت تحت زيد بن حارثة قال المنافقون : تزوج امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية فيه ، وكذا قوله تعالى : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ)(١) [الأحزاب : ٤٠] وروي أن رجلا كان يسمى أبا معمر جميل بن معمر الفهري وكان رجلا لبيبا حافظا لما يسمع ، فقالت قريش : ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا وله قلبان ، وكان يقول : لي قلبان أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد ، فلما هزم الله تعالى المشركين يوم بدر انهزم أبو معمر فيهم فلقيه أبو سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله فقال له : ما فعل الناس فقال له : بين مقتول وهارب فقال له : فما بالك إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك؟ فقال : ما ظننت إلا أنهما في رجلي فأكذب الله تعالى قوله» (٢) ، وقولهم وضربه مثلا في الظهار والتبني.
وعن ابن عباس : «كان المنافقون يقولون : لمحمد قلبان فأكذبهم الله تعالى» وقيل سها في صلاته فقالت اليهود : له قلبان قلب مع أصحابه وقلب معكم ، وعن الحسن نزلت في أن الواحد يقول : لي نفسان نفس تأمرني ونفس تنهاني ، فإن قيل : ما وجه تعدية الظهار وأخواته بمن؟ أجيب : بأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فكانوا بتجنبون المرأة المظاهر منها كما يتجنبون المطلقة ، فكان قولهم : تظاهر منها ، تباعد منها جهة الظهار ، فلما تضمن معنى التباعد منها عدي بمن.
فإن قيل : ما معنى قولهم : أنت علي كظهر أمي ، أجيب : بأنهم أرادوا أن يقولوا : أنت عليّ
__________________
(١) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٢٠٧.
(٢) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن حديث ٣١٩٩.