ولما وجه إليه صلىاللهعليهوسلم الأمر بخشية الولي الودود أتبعه النهي عن الالتفات لنحو العدو الحسود بقوله تعالى : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) في شيء من الأشياء لم يتقدم إليك من الخالق فيه أمر وإن لاح لائح خوف أو برق رجاء فجانبهم واحترس منهم ، فإنهم أعداء الله تعالى وأعداء المؤمنين ، لا يريدون إلا المضارة والمضادة. قال أبو حيان : سبب نزولها أنه روي : «أنه صلىاللهعليهوسلم لما قدم المدينة كان يحب إسلام اليهود فتابعه ناس على النفاق وكل يلين لهم جانبه ، وكانوا يظهرون النصائح من طريق المخادعة فنزلت تحذيرا لهم منهم وتنبيها على عداوتهم» (١) انتهى وبهذا سقط ما قيل : لم خص الكافر والمنافق بالذكر ولأن ذكر غيرهما لا حاجة إليه لأنه لا يكون عنده إلا مطاعا ولأن كل من طلب من النبي صلىاللهعليهوسلم طاعته فهو كافر أو منافق ؛ لأن من يأمر النبي صلىاللهعليهوسلم بأمر إيجاب معتقدا أنه لم يفعله يعاقبه بحق يكون كافرا ، وقرأ أبو عمرو والدوري عن الكسائي ، الكافرين بالإمالة محضة ، وورش بين بين والباقون بالفتح.
ثم علل تعالى الأمر والنهي بما يزيل الهموم ويوجب الإقبال عليهما واللزوم بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ) أي : بعظيم كماله (كانَ) أزلا وأبدا (عَلِيماً) أي : شامل العلم (حَكِيماً) أي : بالغ الحكمة فهو تعالى لم يأمرك بأمر إلا وقد علم ما يترتب عليه ، وأحكم إصلاح الحال فيه.
ولما كان ذلك مفهما لمخالفة كل ما يدعو إليه كافر ، وكان الكافر ربما دعا إلى شيء من مكارم الأخلاق قيده بقوله تعالى : (وَاتَّبِعْ) أي : بغاية جهدك (ما يُوحى) أي : يلقى إلقاء خفيا كما يفعل المحب مع حبيبه (إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي : المحسن إليك بصلاح جميع أمرك ، وأتى موضع الضمير بالظاهر ليدل على الإحسان في التربية ليقوى على امتثال ما أمرت به الآية السالفة.
ولما أمر باتباع الوحي رغبه فيه بالتعليل بأوضح من التعليل الأول في أن مكرهم خفي بقوله تعالى مذكرا بالاسم الأعظم بجميع ما يدل عليه من الأسماء الحسنى زيادة في التقوى على الامتثال مؤكدا للترغيب (إِنَّ اللهَ) أي : بعظمته وكماله (كانَ) أزلا وأبدا (بِما تَعْمَلُونَ) أي : الفريقان من المكايد وإن دق (خَبِيراً) أي : فلا تهتم بشأنهم ، فإنه سبحانه كافيكه وإن تعاظم ، وقرأ أبو عمرو بما يعملون خبيرا وبما يعملون بصيرا بالياء على الغيبة على أن الواو ضمير الكفرة والمنافقين والباقون بالتاء على الخطاب فيهما.
ولما كان الآدمي موضع الحاجة قال تعالى : (وَتَوَكَّلْ) أي : دع الاعتماد على التدبير في أمورك واعتمد فيها (عَلَى اللهِ) أي : المحيط علما وقدرة فإنه يكفيك في جميع أمورك (وَكَفى بِاللهِ) أي : الذي له الأمر كله على الإطلاق (وَكِيلاً) أي : موكولا إليه الأمور كلها فلا تلتفت في شيء من أمرك إلى غيره ؛ لأنه ليس لك قلبان تصرف كل واحد منهما إلى واحد كما قال تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ) أي : الذي له الحكمة البالغة والعظمة الباهرة (لِرَجُلٍ) أي : لأحد من بني آدم ولا غيره ، وعبر بالرجل لأنه أقوى جسما وفهما فيفهم غيره من باب أولى ، وأشار إلى التأكيد بقوله تعالى : (مِنْ قَلْبَيْنِ) وأكد الحقيقة وقررها وجلاها وصورها بقوله تعالى : (فِي جَوْفِهِ) أي : ما جمع الله تعالى قلبين في جوف ؛ لأن القلب معدن الروح الحيواني المتعلق للنفس الإنساني أولا ، ومنبع القوى بأسرها ومدبر البدن بإذن الله تعالى وذلك يمنع التعدد (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي)
__________________
(١) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١ / ٢٢٤.