الحرية والعظمة أن تتصرّفوا في الأمر المشترك بشيء لا يرضيه وبدون إذنه ، وظهر أنّ حالكم في عبيدكم مثل له فيما أشركتموهم به موضح لبطلانه ، فإذا لم ترضوا هذا لأنفسكم وهو أن تستوي عبيدكم معكم في الملك فكيف ترضونه لخالقكم في هذه الشركاء التي زعمتموها فتسوّونها به وهي من أضعف خلقه أفلا تستحيون (كَذلِكَ) أي : مثل هذا التفصيل العالي (نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي : نبينها ، فإنّ التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي : يتدبرون هذه الدلائل بعقولهم ، والأمر لا يخفى بعد ذلك إلا على من لا عقل له.
(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : أشركوا فإنهم وضعوا الشيء في غير موضعه. فعل الماشي في الظلام (أَهْواءَهُمْ) وهي ما تميل إليه نفوسهم (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي : جاهلين لا يكفهم شيء فإن العالم إذا اتبع هواه ربما ردعه علمه ، ثم بين تعالى أنّ ذلك بإرادته بقوله تعالى : (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) أي : الذي له الأمر كله أي : لا يقدر أحد على هدايته (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي : مانعين يمنعونهم من عذاب الله لا من الأصنام ولا من غيرها.
ولما تحرّرت الأدلة وانتصبت الأعلام أقبل تعالى على خلاصة خلقه إيذانا بأنه لا يفهم ذلك حق فهمه غيره بقوله سبحانه : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ) أي : قصدك كله (لِلدِّينِ) أي : أخلص دينك لله قاله سعيد بن جبير ، وقال غيره : سدّد عملك ، والوجه ما يتوجه إليه ، وقيل : أقبل بكلك على الدين ، عبر بالوجه عن الذات كقوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] أي : ذاته بصفاته. وقوله تعالى (حَنِيفاً) حال من فاعل أقم أو مفعوله أو من الدين ، ومعنى حنيفا أي : مائلا إليه مستقيما عليه ومل عن كل شيء لا يكون في قلبك شيء آخر ، وهذا قريب من معنى قوله تعالى (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام ، ١٤] وقوله تعالى (فِطْرَتَ اللهِ) أي : خلقته منصوب على الإغراء أو المصدر بما دلّ عليه ما بعدها وهي بتاء مجرورة ، وقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء ، والباقون بالتاء ، ثم أكد ذلك بقوله تعالى : (الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ) قال ابن عباس : خلق الناس (عَلَيْها) وهو دينه وهو التوحيد. قال صلىاللهعليهوسلم : «ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» (١) فقوله على الفطرة على العهد الذي أخذه عليهم بقوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار وهي الحنيفية التي وقعت الخلقة عليها ، وإن عبد غيره قال الله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥] وقال (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ولكن لا عبرة بالإيمان الفطريّ في أحكام الدنيا وإنما يعتبر الإيمان الشرعيّ المأمور به ، وهذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين ، وقيل : الآية مخصوصة بالمؤمنين وهم الذين فطرهم الله تعالى على الإسلام ، روي عن عبد الله بن المبارك قال : معنى الحديث : أن كل مولود يولد على فطرته أي : على خلقته التي جبل عليها في علم الله من السعادة والشقاء ، وكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليه وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها ، فمن علامات الشقاوة أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين فيحملانه لشقائه على اعتقاده دينهما ، وقيل : معنى الحديث : أنّ كل مولود يولد في مبدأ الفطرة على الخلقة أي : الجبلة السليمة والطبع المتهيىء لقبول الدين ، فلو ترك عليها لاستمرّ على
__________________
(١) أخرجه البخاري في الجنائز حديث ١٣٥٨ ، ومسلم في القدر حديث ٢٦٥٨.