لزومها ؛ لأنّ هذا الدين موجود حسنه في العقول وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره لآفة من النشوء والتقليد ، فمن يسلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره. ذكر هذه المعاني أبو سليمان الخطابي في كتابه.
ولما كانت سلامة الفطرة أمرا مستمرّا قال تعالى : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) أي : الملك الأعلى الذي لا كفء له فلا يقدر أحد أن يغيره ، فمن حمل الفطرة على الدين قال معناه : لا تبديل لدين الله ، فهو خبر بمعنى النهي أي : لا تبدّلوا دين الله. قاله مجاهد وإبراهيم. والمعنى : الزموا فطرة الله أي : دين الله واتبعوه ولا تبدّلوا التوحيد بالشرك ، ومن حملها على الخلقة قال : معناه لا تبديل لخلق الله أي : ما جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاوة ، فلا يصير السعيد شقيا ولا الشقي سعيدا ، وقال عكرمة : معناه تحريم إخصاء البهائم أي : في غير المأكول وفي المأكول الكبير ، أمّا المأكول الصغير فإنه يجوز ، ويلحق بالخصي المحرّم كل تغيير محرّم كالوشم (ذلِكَ) أي : الشأن العظيم (الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي : المستقيم الذي لا عوج فيه توحيد الله تعالى (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن ذلك هو الدين المستقيم لعدم تدبرهم.
وقوله تعالى : (مُنِيبِينَ) أي : راجعين (إِلَيْهِ) تعالى فيما أمر به ونهى عنه حال من فاعل أقم ، قال الزمخشريّ : فإن قلت : لم وحدّ الخطاب أوّلا ثم جمع؟ قلت : خوطب رسول الله صلىاللهعليهوسلم أوّلا ، وخطاب الرسول خطاب لأمّته مع ما فيه من التعظيم للإمام ، ثم جمع بعد ذلك للبيان والتلخيص (وَاتَّقُوهُ) أي : خافوه فإنكم وإن عبدتموه فلا تأمنوا أن تزيغوا عن سبيله (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي : داوموا عليها وعلى أدائها في أوقاتها (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي : لا تكونوا ممن يدخل في عدادهم بمواددة أو معاشرة أو عمل تشابهونهم فيه ، فإنه من تشبه بقوم فهو منهم ، وهو عامّ في كل مشرك سواء كان بعبادة صنم أونار أو غير ذلك. وقوله تعالى.
(مِنَ الَّذِينَ) بدل من المشركين بإعادة الجار (فَرَّقُوا دِينَهُمْ) أي : الذي هو الفطرة الأولى ، فعبد كل قوم منهم شيئا ودانوا دينا غير دين من سواهم وهو معنى (وَكانُوا شِيَعاً) أي : فرقا متخالفين كل واحدة منهم تتشايع من دان بدينها على من خالفهم حتى كفّر بعضهم بعضا واستباحوا الدماء والأموال ، فعلم قطعا أنهم كلهم ليسوا على الحق ، وقرأ حمزة والكسائي بألف بعد الفاء وتخفيف الراء ، والباقون بغير ألف وتشديد الراء ، فعلى القراءة الأولى فارقوا أي : تركوا دينهم الذي أمروا به.
ولما كان هذا أمر يتعجب من وقوعه زاده عجبا بقوله تعالى : استئنافا (كُلُّ حِزْبٍ) أي : منهم (بِما لَدَيْهِمْ) أي : عندهم (فَرِحُونَ) أي : مسرورون ظنا منهم أنهم صادفوا الحق وفازوا به دون غيرهم.
ولما بين تعالى التوحيد بالدليل وبالمثل بين أنّ لهم حالة يعترفون بها وإن كانوا ينكرونها في وقت وهي حالة الشدّة بقوله تعالى :
(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ