فإن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى ذكر ست دلائل وذكر في أربع منها (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) ولم يذكر في الأوّل وهو قوله تعالى (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) ولا في الآخر وهو قوله (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) [الروم : ٢٥]؟ أجيب : عن ذلك : أما عن الأوّل فلأنّ قوله بعده (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ) [الروم : ٢١] أيضا دليل الأنفس فخلق الأنفس ، وخلق الأزواج من باب واحد على ما تقدّم من أنه تعالى ذكر من كل باب أمرين للتقرير والتوكيد ، فلما قال في الثانية إنّ في ذلك لآيات كان عائدا إليهما ، وأمّا في قيام السماء والأرض فلأنه ذكر في الآيات السماوية أنها آيات للعالمين ولقوم يعقلون وذلك لظهورها ، فلما كان في أوّل الأمر ظاهرا ففي آخر الأمر بعد سرد الأدلة يكون أظهر فلم يميز أحدا في ذلك عن الآخر ، ثم إنه تعالى لما ذكر الدليل على القدرة والتوحيد ذكر مدلوله وهو قدرته على الإعادة بقوله تعالى : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ) وأشار إلى هوان ذلك القول عنده بقوله عزوجل (دَعْوَةً) أي : واحدة (مِنَ الْأَرْضِ) بأن ينفخ إسرافيل في الصور للبعث من القبور فيها فيقول : أيها الموتى اخرجوا (إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) أي : منها أحياء بعد اضمحلالكم بالموت والبلا فلا تبقى نسمة من الأوّلين والآخرين إلا قامت تنظر كما قال تعالى (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر : ٦٨] فإن قيل : بم يتعلق من الأرض بالفعل أم بالمصدر؟ أجيب : بهيهات إذا جاء نهر الله وهو الفعل بطل نهر معقل وهو المصدر ، وثم إما لتراخي زمانه أو لعظم ما فيه. فإن قيل : ما الفرق بين إذا وإذا؟ أجيب : بأنّ الأولى للشرط والثانية للمفاجأة وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط ، ولذلك نابت مناب الفاء في جواب الأولى.
تنبيه : قال ههنا : إذا أنتم تخرجون وقال تعالى في خلق الإنسان أوّلا ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ، لأنّ هناك يكون خلق وتقدير وتدريج حتى يصير التراب قابلا للحياة فينفخ فيه روحه فإذا هو بشر ، وأمّا في الإعادة فلا يكون تدريج وتراخ بل يكون بدء خروج فلم يقل ههنا ثم.
ولما ذكر تعالى الآيات التي تدّل على القدرة على الحشر الذي هو الأصل الآخر والواحدانية التي هي الأصل الأوّل أشار إليهما بقوله تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا وخلقا (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) قال ابن عباس : كل له مطيعون في الحياة والفناء والموت والبعث وإن عصوا في العبادة ، وقال الكلبي : هذا خاص بمن كان منهم مطيعا ، ونفس السموات والأرضين له وملكه فكل له منقادون ، فلا شريك له أصلا.
ثم ذكر المدلول الآخر بقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أي : على سبيل التجديد كما تشاهدون ، وأشار إلى تعظيم الإعادة بأداة التراخي فقال (ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي : بعد الموت للبعث. وفي قوله تعالى (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) قولان أحدهما : أنها للتفضيل على بابها ، وعلى هذا يقال : كيف يتصوّر التفضيل والإعادة والبداءة بالنسبة إلى الله تعالى على حدّ سواء؟ وفي ذلك أجوبة أحدها : إنّ ذلك بالنسبة إلى اعتقاد البشر باعتبار المشاهدة من أنّ إعادة الشيء أهون من اختراعه لاحتياج الابتداء إلى إعمال فكر غالبا وإن كان هذا منتفيا عن الباري سبحانه وتعالى ، فخوطبوا بحسب ما ألفوه. ثانيها : أنّ الضمير في عليه ليس عائدا على الله تعالى إنما يعود على الخلق أي : والعود أهون على الخلق أي : أسرع ؛ لأنّ البداءة فيها تدريج من طور إلى طور إلى أن صارت إنسانا ، والإعادة لا تحتاج إلى هذه التدريجات فكأنه قيل : وهو أقصر عليه وأيسر وأقل انتقالا ، والمعنى : يقومون بصيحة واحدة فيكون أهون عليهم يعني : أن يقوموا نطفا ثم علقا ثم مضغا إلى أن يصيروا