طال ما شاهدتموها تارة تأتي بما يضر وتارة بما يسر كما قال تعالى (خَوْفاً) أي : للإخافة من الصواعق المحرقة (وَطَمَعاً) أي : وللإطماع في المياه العذبة (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي : الذي لا يمكن لأحد غيره دعواه ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي ، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي (فَيُحْيِي بِهِ) أي : بذلك الماء خاصة لأنّ أكثر الأرض لا يسقى بغيره (الْأَرْضَ) أي : بالنبات الذي هو لها كالروح لجسد الإنسان (بَعْدَ مَوْتِها) أي : يبسها (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : الأمر العظيم العالي القدر (لَآياتٍ) لا سيما على القدرة على البعث (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي : يتدبرون فيستعملون عقولهم في استنباط أسبابها وكيفية تكوّنها ليظهر لهم كمال قدرة الصانع.
تنبيه : كما قدّم السماء على الأرض قدم ما هو من السماء وهو البرق والمطر على ما هو من الأرض وهو الإنبات والإحياء ، وكما أن في إنزال المطر وإنبات الشجر منافع كذلك في تقديم الرعد والبرق على المطر منفعة ، وهي أنّ البرق إذا لاح فالذي لا يكون تحت كن يخاف الابتلال فيستعد له ، والذي له صهريج أو مصنع يحتاج إلى الماء ، أو زرع يسوي مجاري الماء وأيضا أهل البوادي لا يعلمون البلاد المعشبة إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب دون جانب.
واعلم أن دلائل البرق وفوائده وإن لم تظهر للمقيمين في البلاد فهي ظاهرة للبادين ، فلهذا جعل تقديم البرق على تنزيل الماء من السماء نعمة وآية ، فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى هنا (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وفيما تقدم (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)؟ أجيب : بأنه لما كان حدوث الولد من الوالد أمرا عاديا مطردا قليل الاختلاف كان يتطرق إلى الأوهام العامية أنّ ذلك بالطبيعة لأنّ المطرد أقوى إلى الطبيعة من المختلف ، والبرق والمطر ليس أمرا مطردا غير مختلف بل يختلف إذ يقع ببلدة دون بلدة ، وفي وقت دون وقت ، وتارة يكون قويا وتارة يكون ضعيفا ، فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار فقال هو آية لمن كان له عقل وإن لم يتفكر تفكرا تاما.
ثم ذكر تعالى من لوازم السماء والأرض قيامهما بقوله تعالى :
(وَمِنْ آياتِهِ) أي : على تمام القدرة وكمال الحكمة (أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) قال ابن مسعود ، قامتا على غير عمد بأمره أي : بإرادته ، فإنّ الأرض لثقلها يتعجب الإنسان من وقوفها وعدم نزولها وكون السماء في علوها يتعجب من علوها وثباتها من غير عمد وهذا من اللوازم ، فإنّ الأرض لا تخرج عن مكانها الذي هي فيه ، وإنما أفرد السماء والأرض لأنّ السماء الأولى والأرض الأولى لا تقبل النزاع ؛ لأنها مشاهدة مع صلاحية اللفظ بالكل لأنه جنس.
تنبيه : ذكر تعالى من كل باب أمرين أما من الأنفس فقوله تعالى (خَلَقَكُمْ* خَلَقَ لَكُمْ) واستدل بخلق الزوجين ، ومن الآفاق السماء والأرض فقال تعالى (خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الروم : ٢٢] ومن لوازم الإنسان اختلاف اللسان واختلاف الألوان ومن عوارض الآفاق البرق والأمطار ، ومن لوازمهما قيام السماء والأرض ؛ لأنّ الواحد يكفي للإقرار بالحق والثاني يفيد الاستقرار ، ومن هذا اعتبر شهادة شاهدين ، فإنّ قول أحدهما يفيد الظنّ وقول الآخر يفيد تأكيده ولهذا قال إبراهيم عليهالسلام (بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠].
فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى هنا (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ) [الروم : ٢٥] وقال تعالى قبله (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) [الروم : ٢٤] ولم يقل أن يريكم ليصير كالمصدر بأن؟ أجيب : بأنّ القيام لما كان غير معتبر أخرج الفعل بأن عن الفعل المستقبل ولم يذكر معه الحروف المصدرية ،